المدينة غير الفاضلة !



سهى عودة
2013 / 5 / 12

أجريت محادثة هاتفية مسائية مع صديق لي للنقاش حول حضور مؤتمر ما وبينما كنا نتناول الكلام عن مكان وموعد المؤتمر أخبرني بأنه يتمشى قليلا للقاء صديق له والتسامر معه, كانت الساعة تقارب عقاربها الثامنة مساءاً هذا يعني في هذه المدينة الموحشة وبدءاً من هذا الوقت لايمكن لجنس حواء الخروج لوحدهن ليلاً ولو خرجن فهناك فقط أماكن عائلية محددة جداً للذهاب اليها. فجأة أذا بذلك الصديق يقطع الحديث ويقول
- لو تعرفين ماأرى الان, أمعقول ماترى عيناي؟ هنا يقف عاشقان وهما يتبادلان الحب والغرام بنظراته ولمساته
جننت من هول ماسمعت فطلبت منه تكرار الكلام
- أصح ماتقول؟
- صدقيني هما يقفان في الشارع الذي أسكنه ويتبادلان نظرات العشق ولمسات الهيام
أصابني كلامه بصعقة ولم أكد أصدق فأهل مكة أدرى بشعابها وأنا أدرى بهذه المدينة التي تنام منذ أن يدخل الدجاج قنه, فأنا التي تربيت بها وقد دُرتُ في أزقتها وشوارعها ودربوناتها الضيقة قبل الفسيحة
هذه المدينة تحكمها العادات والتقاليد التي تُحرم الحب والهوى فأنت فيها مهيأ طوال أيام السنة لسماع طرقات بابك من قبل النسوة الغريبات اللاتي يبحثن ويسألن عما أذا كان هذا البيت فيه فتيات للزواج وسن الزواج يبدأ في الثانية عشر سنة.
أغلب الشباب هنا يلجأون لطلب الخطبة بواسطة أمهاتهم وأخواتهم فتقوم النسوة بجولة البحث والتقصي بطرق الأبواب وطلب الخطيبة وشريكة الحياة على الطريقة التقليدية المتعارف عليها في المجتمع الموصلي, حيث يجب أن ترى الأم الفتاة وتعجب بشكلها عندها تنقل مارأته لأبنها ويحدد موعد لرؤية الشاب للفتاة أذا ماوافق الأهل على ذلك ويتم اللقاء تحت أنظار الأهل لكلا الطرفين بعدها يتم العقد والخطبة ثم الزواج
سابقاً كانت الناس تعتقد أن الزواج يؤدي الى الحب أما الان فأن المتعارف عليه من رغبة شباب وبنات اليوم أن الحب يؤدي الى الزواج وهذا يعني حدوث تغيراً وأنقلاباً فكرياً حدث على مدى تعاقب الأجيال منذ أربعينات وخمسينات القرن الماضي لكن مايجعل أمر الزواج التقليدي مستمر والى الان هو المجتمع ونظرته التي تضيق الخناق على الشباب في أمر الحب والأختيار ففي مجتعنا, وحتى أن حصل الأعجاب بين الطرفين قد لاينمو ليتحول لحب حقيقي يفضي بالتالي إلى الرباط المقدس, هنا فقط ترى الحب يمارس في الظلمة والخفاء!
ولو تجولت في المدينة فأنت لاتجد أماكن عامة ومريحة توفر اللقاء بين الجنسين سواء لمن هم في مرحلة الخطبة أو بداية الزواج أو حتى الأحباب . هنا لاتجد إلا المطاعم والتي يلتقي بها عامة الناس فقط لوقت محدد لايتجاوز فترة ملء الكروش بالطعام العراقي الدسم وأحياناً كثيرة لو وقع أختيارك لمطعم معروف في المدينة بلذة طعامه فان صاحب المطعم لايصدق متى تنتهي من أكلك لتفرغ الطاولة لغيرك ممن يلتهمون الطعام بشراهة, ناهيك عن النظرات التي ترمقك من العائلات وأصحاب وعمال المطعم نفسه خاصة ممن يقتلهم فضولهم لمعرفة أصل العلاقة التي تربط هذين المسكينين؟
أغلب المدن العراقية التي يسودها الحكم العشائري والتقاليد تتوفر فيها المقاهي والكافتيريات فقط للشباب الذكور والتي لو جربت أن تدخلها ماتلبث أن تجد نفسك قد غرقت في سحابات من دخان النركيلة والسكائر حتى لكأنك تحتاج الى تنفس صناعي وأنت تدخلها,أتذكر أنني أضطررت لدخول مقهى مخصص للشباب في ساعات النهار الواضح لأجراء لقاء صحفي مع رئيس أتحاد رياضي فدخلت لأجد المكان جميل وواسع ويطل على الشارع الرئيسي الا أنه يضج بفوضى عارمة بأصوات الأغاني السمجة والدخان وهذا كله في الساعة الحادية عشر صباحاً فقط ووجدت أن الأغلب بات يرمقني بنظرات أستغراب وعتاب قائلة لماذا أنتِ هنا!؟
هم لايعرفون أنني مجبرة على الدخول هنا ففي المدينة لايوجد مكان لي الأمكنة فقط لهم!

شاهدت أحدى المرات طالبات للجامعة يدخلن خلسة لكافتيريا ضيقة كانت قد فتحت حديثاً ليقمن بلقاء زميل لهن ليشرح المحاضرات والدروس وكن يقمن دائماً بالتلفت والنظر حول جميع من كان في المكان الذي لايتسع لأكثر من عشرين شخصاً .
عندما يزداد المنع تتولد الرغبة وهذه الرغبة لاتفرق الحلال عن الحرام ولاتعرف المشروع عن غيره. الرغبة هي ثورة تريد أن تخرج من هذا الجسد الذي لم تعد حدوده تكفي لأحتوائها وعمر الشباب يكاد يتفجر بالرغبة لذا تمارس هذه الرغبة بصورة خاطئة فتجر الويلات والثبور على الشباب من أهاليهم ومجتمعهم وغالباً ماتكون المرأة هي الخاسر الوحيد فالمجتمع لايتقبل أن تقدم المرأة على بناء علاقة حب مع رجل حتى لو كانت غايتها الزواج وتكوين الأسرة . فالمجتمع والنظرة الدينية ترى المرأة ضعيفة أزاء أغراءات الرجل وحيله بسبب عاطفتها المتزايدة عن عاطفة الرجل لذا لاتخلو جلستهما من الشيطان أبداً! فهذا مجتمع يقبل أن تمارس العهر في الخفاء لا أن تمارس الحب تحت أنظار العيون
قبل سنوات طويلة عندما كنت طالبة في الكلية جاءت زميلتي تصرخ وتقول ياويلي تعالوا أنظرن فأذا بنا نهرع الى الشباك وأذ بعاشق يسرق قبلة من حبيبته ويهرب مسرعاً خوفاً من العيون والمتلصصين أشفقت على هذين الحبيبين الذين كانا متوهمان أن لا عيون تراهما وهما لايعرفان أن كل مافي هذه المدينة عبارة عن عيون فالطرق لها عيون والأشارات المرورية لها عيون والشوارع والناس بل حتى السيارات لها عيون وكيف لهما أن يهربا من عيوننا التي باتت ترمقهما شزراً كلما رأيناهما صدفة!
ووسط صمتي الذي أمتد للحظات عبر الأثير التلفوني بيني وبين ذاك الصديق قال سأذهب لهما فذهب وأنا أستمع لوقع خطاه فأذا به يقول للأسف ياسهى هربا مني. قلت كيف؟ قال مابك ِ؟ هل صدقتِ؟ هذين العاشقين لم يكونا إلا كلب يمارس الحب مع كلبته!
الم أقل هناك عيون حتى في وسط الظلام.