بين رابعة العدوية وشفيقة الجرجاوية



مختار سعد شحاته
2013 / 5 / 28

هُن رحمة لنا:
تخبرنا الحكايات القديمة عن دورها التاريخي على مر الأيام التي شرف بها تاريخنا الذكوري، فلا يمكن بحال إنكار أياديها البيضاء في حيوات الرجال على مر التاريخ، وقديما قالوا وراء كل عظيم واحدة من هؤلاء الذين عرفوا كيف تكون رسالتهم، تلك الرسالة التي غلفت عنها الكثيرات في عصرنا، وانشغل العالم بمحاولات الانتصار لكثير من النداءات التي طالبت بحقوقها، وهم في ذلك مدفوعون ببعض الحالات الفردية التي تعرف عليها المجتمع، أو التي ظهرت بإرادتها أو بمحض المصادفة والبحث. وهكذا يأخذ الإعلام تلك القضايا الفردية النزعة ويؤسس منها لقضية المرأة وحقوقها بكل زخم تناله القضية في مجتمعات مثل المجتمعات العربية، أو غيرها من تلك التى مازالت المرأة فيها تعاني من التهميش الكثير والكثير، وتصر على الاعتراف بأنهن رحمة لنا دون ان تنالهن من تلك الرحمة نصيب عام.
ذكورية مطلقة تدعي الشرف:
دعونا نسرع نحو فكرة المقال الرئيسية التي لفتت انتباهي بقوة في زيارتي الأولى لصعيد مصر، والتي جلست خلالها أراقب الكثير والكثير مما تعانيه هناك المرأة بشكل عام، وللحقيقة لم أكن أتخيل كل هذا الكم من المعاناة التي يمكن أن تكابدها المرأة المصرية هناك، وكأن جبال من الهموم تتراكم على ملامح عجائز الصعيد من تلك النسوة اللائي لا ذنب لهن لكونهن نشأت الواحدة منهن في مجتمع شديد الذكورية، تتغلغل فيه قيم شديدة الانحطاط تحت ادعاءات مزيفة من كلمات مطاطية مثل "الشرف" و"العرف"، وغيرهما من تلك "الخزعبلات" التي يتشدق بها كل هؤلاء الدافعين بقوة نحو ذكورية هذه المجتمعات، ولا يتورعون عن تلبيس الدين على الناس، فيلون عنق الآيات ويتأولون بغير علم حقيقي، فيزيد الاغتصاب أكثر وأكثر لحقوق تلك المخلوقة التي تُغمط في حقوقها كل يوم ألف مرة ومرة. نعم في اليوم الواحد آلاف من الحقوق المهدرة التي تنتهلك بكل "عنترية وذكورية" الرجل هناك، ومتى نبهت عليهم، تأتيك الإجابة المظلمة والمظللة بغشاوة طُبعت على القلوب، فتسمع "دي ست، ميصحش لها تعمل كده!!"، ولك أن تتخيل كل الأشياء التي تعتبرها دول العالم حقوقًا فطرية للمرأة في مجتمع وحضارة تعرف أنها نصفه الضامن لديمومته وانطلاقه، وهو ما يفوق كل توقعاتك حين تعتقد أن ما يحدث منتهى الانتهاك، وللحقيقة ما خَفِيَّ كان أعظم وأعظم.

استراحة شعرية لافتة:
أذكر الآن قطعة شعرية لواحدة من هؤلاء الذين ظلمهم هذا المجتمع الذكوري، وأذكر تساؤلاتها الحيرى حين تخبرنا بأنه "غير مسموح"، ليأتي بعدها كل فعل يمكن أن يمثل القليل من الخصوصية، فكما قالت:
"غير مسموح لي بالعصبية،
أو بالصراخ بصوت عال
أو حتى بالجنون
غير مسموح أن أحدًا يهديء من روعي؛
فيخرج ما بداخلي
غير مسموح لي بقول رأي
غير مسموح لي بتدخين سيجارة
غير مسموح لي بأن ترى الشمس شعري،
ولو حتى من النافذة..
غير مسموح لي بالضحك مع الأصحاب
غير مسموح لي بالتسكع وحدي ولو لمرة
من يسمح لي بكل هذا؛
ويستبيح كل غير مسموح لدي؟؟!!
ورغم هذا، فسأظل عمري "غير مسموح"
حتى ولو ملكت حريتي،
فغير مسموح لنفسي
أنا لن أظلم أحدًا لأنه كل شيء غير مسموح".
هكذا تجيء المستحيلات في بساطتها عند المرأة هنا- لا في صعيد مصر وحدها- بل في كل بيوتها التى غلفتها نعرة الذكورية الغالبة، لا شيء متاح هنا لها غير أن تحمل معها من دلالات القهر، وأن تُكمل في النهاية رسالتها، وربما دون أن تنتبه هي نفسها لذلك القهر فقد تربت عليه أجيال حتى صار البعض يعتقده خلقا مجتمعيا يفرق بين النساء ويرتب درجاتهن في المجتمع والقبول.

ليتها البشارة تكون:
ربما تأتي البشارة من بعيد هناك في صعيد مصر، حيث تظهر بعض الملامح التي تحاول أن تكسر "التابوهات" العقيمة تلك، فمثلا يمكنها أن تتحايل كما تفعل الكثيرات هناك، تتحايل على اسمها الحقيقي باسم مستعار؛ تجعله متنفسًا لها، بل وتخلق به حياة موازية تماما لتلك الحياة التى عرفت فيها كل صور القهر المجتمعي، والتي يمارسها المجتمع بفظاظة ضدّ المرأة هناك، بل إنك متى صادفت –قدرًا- واحدة من هؤلاء اللائي نظن أنهن تحملن البشارة بجيل من نساء الصعيد ونساء مصر كلها، واعيات لحجم الضغوط وحكيمة في معالجتها للأمور، يصدمك سريعا أنها كلها أنصاف محاولات لا تكتمل، أو أنها محاولات مشوهة غير ناضجة، أو أنها محاولات شديدة البراءة في وقت لن تخدم فيه البراءة قدر ما تضر قضيتها هناك. حتما هناك من الأسباب التي تدعو امرأة أن تقدم على انتحال أو اختراع مسمي لها تتعامل به في فضاء عالم الانترنت، حيث تقل الرقابة قليلا، أو تتخفف منها مثلما نتخفف من ملابسنا حين النوم؛ لكن،هنا يجب الانتباه أن تلك الممارسات التي تراها تتناقض مع مجتمعها -وقد نعتبرها صرخة في وجه ذكورته المطلقة، سنرى هذه الممارسات برغم كل شيء، ورغم ما يعتبره البعض انجازا لها، أو يحلله بكونه ميكانيزما دفاعيا اضطرت المرأة هناك للتمسك به، واعتماده كواحد من أساليب دفاعها النفسية ضد ذكورية هذا المجتمع، لكنها في الحقيقة ودون دراية، تساهم بشكل غير مباشر في تأصيل تلك الأفكار الرجعية التي اعتمدها مجتمع ذكوري، وهي أول من يدفع الثمن باهظًا من نفسيتها ومن شخصيتها التي انفصلت عنها فصارت امرأتين، ما بين الذكورية التي تعانيها وبين االمرأة التي تحلم بأن لو كل شيء مسموح لها على المنحى الشخصي، بوعي لا انفلات ولا تفريط فيه.

غير مسموح بأنصاف الحلول:
نعم هناك الكثيرات لجأن لذلك، وهو عجيب تتساوى فيه الكثيرات من مثقفات وناضجات وغير ذلك من غير المحظوظات بدراسة جامعية في مدينة كبيرة بعيدا عن مناخ هؤلاء الذكوريين المتحجر للأبد، وقد يبدو ذلك كما تدعي صويحباته حلا وسطًا لتحقيق كل مسموح لها، وهي تستحق منا كل شفقة بكونها اعتمدت ممارسة أشد تدميرا لنفسها وأكثر تعقيدا من تلك التي يمارسها الرجال هناك. نعم؛ فهن حين خلقن تلك الشخصية التي صارت صوتا لهن، غمطن حق أنفسهن في التعبير المباشر، فمثلا لو تخيلنا صاحبة المقطوعة الشعرية السابقة تحمل الاسم "س" في تعاملاتها في فضاء الانترنت، ثم تكتشف في النهاية أن الاسم الحقيقي لها، والشخصية الحقيقية غير تلك التي تعرفها باعتبارها "س"، وتأتيك –مثلا- بشخصية جديدة هي "ص"، هنا ربما تنسى "ص" أن كل تقدير لفكرها او كلامها أو ما تقول إنما هو تقدير في الأصل للأخرى "س"، التي اخترعتها لتتحدث نيابة عنها، حتى أنها قد تغير في كل تفاصيل حياتها لأجل خلق تلك الحياة الموازية، والتي فيها يعتبر الحب قاسمًا من قسمات تلك الحياة الافتراضية التي رسمتها "ص" بعناية، لتظهر الشخصية "س" وتتمتع بكل ما حلمت به "ص" يوما، حتى الحب تسرقه منها ببراعة. نعم هي بذلك لا تقل قسوة عن ذكورية المجتمع بل هي أقسى منهم، فهي تعرف كل الحقيقة وتصر على خداعها لنفسها وتبرير الكذب، تحت ادعاءات الخوف من "المعرة" التي قد تُجلب لبيتها المحافظ . لقد نسيت "ص" أن كل من قبل الحياة بتلك البيوتات مطاطية المعايير؛ هو شخص رضى مجتمعيا عنها ولو بالسكوت فقط عن الحديث فيها.

مثلا شخصيًا فجًا:
سأضرب مثلا حياتيا شخصيا بعض الشيء، فحين ساقتني التجربة إلى هناك –في صعيد مصر، تزامن أن أتحدث مع البعض عن ضرورة كسر المرأة لكل تلك "التابوهات العجيبة" التي صنعها الرجال بوهم يسمونه "الشرف"، أو خوف لا مبرر له، ادعوه "العار"، وحين قلت لهم بأن المرأة في صعيد مصر، وفي مصر كلها وعالمنا العربي، عليها كل المسئولية الأولى، وأن تستغل كل الامكانيات والامكانات المتاحة لها في عصرنا هذا، سألني أحدهم عن مثل قد يُقدم للمرأة التي تناضل هناك، ولكوني أحب الاختلاف حتى في طرق التفكير، فقد ضربتُ لهم مثلا رآه الحضور فجًا للغاية ولا يجوز، بل أسر البعض لي بأن ذلك مثال معيب، وأعرف أن العالم قد يوافقهم. مثالي للمرأة التي تمنيتها للصعيد وأخبرتهم عنها باعتبارها أعظم امرأـة منذ "حتشبسوت" حتى الآن هي "شفيقة" أخت "متولي"، تلك التي دمرت كل تابوهاتهم المقدسة عن الشرف والعار، وقررت أن تنتفض ضد الفقر والتهميش، فمارست الدعارة بعلنية ووضوح، لأجل أن تواجه في حقيقة الأمر لطمة في وجه هذا المجتمع الذي لا يقبلها أختا ولا أما ولا ابنة ولا زوجة، بينما يرحب بها ويسعد بها متى كانت "مومسًا" يلقي إليها بقذاراته الجنسية، ولا يُطرف له جفن متى رآها تذوق الأمرين وأبيها وأسرتها بعد رحيل عائلهم الأوحد نحو "خدمة الوطن" كواحد من المجندين. نعم "شفيقة" أخت "متولي" –من زاوية رؤية خاصة بي- هي أعظم امرأة أنجبها صعيد مصر، وبعيدًا عن حقها الكامل في أن تحيا إما كمومس منبوذة أو من الحرائر، فذاك شأنها هي، ولا أحد يمكنه أن يحدد دوافعها الشخصية، قدر ما يمكنه رؤية دوافعها الحياتية للحياة الكريمة ولو كان المقابل أن تتحول من العفة إلى الدعارة. ولنسأل ماذا لو كانت رابعة العدوية لم تتب؟ أو بالعكس للسؤال ماذا لو تابت "شفيقة" عن عارها؟ كيف كان يمكن أن يتقبلها المجتمع الذكوري، الذي تقبل رابعة العدوية حين تابت، بعدما رفض في البداية وبشدة عودتها الأخلاقية من المواخير إلى الحب الإلهي وعشق السماء؟!.
أعرف أنه مثالا فجًا للغاية؛ لكني للأسف أؤمن بتلك الـ"شفيقة" بأنها كانت تستحق فرصًا لا تقل عن فرص رابعة العدوية التي نالتها في مجتمع كانت المرأة فيه أشد قهرًا مما هي عليه الآن، إلا أنه لم يكن مجتمعًا مشوهًا بالقدر الذي نالنا من التشويه في أيامنا تلك. للأسف هذا المجتمع الذي رفض "شفيقة" وجعل منها مثالا للعار، هو نفس المجتمع الذي سيرفض كل فتاة خرجت لتصدح بحقوقها، ولو كان بسيطا ومتمثلا في مشاركة متواضعة في حملة "تمرد" .
يبدو أن الحرب ستستمر:
أعرف أن الأمور شديدة الصعوبة أمام المرأة الصعيدية، وأن كثيرا من الحروب عليها أن تخوضها، لكني أعرف أن النصر لا يأتي بالشعارات أو التخفي وراء الحيوات الموازية، إنما يأتي الصبر بتضحيات أجيال، وحقوق يتم نزعها من بين براثن ذكورية مطلقة في مجتمع اعتبر تلك المرأة مخلوقًا من الدرجة الثانية، وهو ما يجعلك لا تعجب حين تشاهد فيلمًا مثل "تتح" وهو يضرب بعنف الممثلة معه بالفيلم، فتضج قاعة العرض بالضحك، لتعرف كم في بلدنا من المضحكات ما يبكينا متى تأملنا حالنا بقليل من الحقيقة المنصفة.
ختام القول وفصله للمرأة المصرية في صعيد مصر أدعي بالقول "الصدق منجاة"، فلتكوني يا سيدتي في صعيد مصر وريفها ما أنت عليه لا ما حُرمتي منه ، وتسترتي خلف فضاءات مزيفة لتمررين وتوجهين مجتمعًا تحلمين فيه بالتغيير.
سيدتي لا أملك سوى مزيدًا من الاحترام والفهم، وقد أتعاطف مع كل أسبابك هناك، لكني لن اتفهم سر هذا الرضوخ المتجذر لقرون، فلتكوني شرارة البداية نحو إعلان حقيقي عن ذاتك وأحقيتها في كل "مسموح" بلا تفريط، وبكل وعي.
مختار سعد شحاته
روائي.
مصر- الإسكندرية.
الأقصر- صعيد مصر