المرأة والسياسة وصناعة الحياة



محمد العلي
2005 / 4 / 27

إن كل جاهليات العصور الغابرة كانت تظلم المرأة وتستغلها استغلالا بشعا ، وتسلب أمنها ، وتتكئ على شقائها وتعاستها ، وتعمل على تشتيت أمرها وهدر طاقتها ، واستغلال جهدها واستغفالها ، وعلى رأس ما يسلب منها من أمن ، هو ( الأمن الفكري ) ، بل هو على رأس ما يسلب من أكثر الناس في زمن كل جاهلية ، فحتى جاهلية هذا العصر تمارس على المرأة تلك الممارسات بصور وأشكال وآليات مختلفة ، بالرغم من التطور العلمي والتقني ، وهو أوضح دليل على جاهلية هذا العصر الذي تسوده حياة ومظاهر الغاب والكهوف و المغارات .. ( فالقوي يأكل الضعيف ) ، فوضع المرأة في المجتمع الإنساني هو المؤشر على رقي ووعي المجتمع وتحضره.

والمرأة في دولنا العربية والإسلامية أصبحت بين نارين ، نار العادات والتقاليد القبلية التي تحد من نشاطها الاجتماعي والسياسي وتكبل حركتها وتمنعها من أداء دورها وواجبها تجاه المجتمع باسم الدين ، وبين نار " العلمانيين " الذين وجهوا المرأة الجهة الخاطئة وظلموها واستغلوها أبشع استغلال ، وشغلوها عن نفسها وبيتها وخالقها وعن مصيرها الموعود بعد ما حرموها من ( الأمن الفكري).

فباسم الحقوق السياسية يراد حرمان المرأة من حقوقها الشرعية وضرورات حياتها الإنسانية بل وحرمان المجتمع ككل من إمكاناتها وقدراتها وطاقاتها وجهودها وتأثيرها الفعلي ودورها في صناعة الحياة ، فأقصى ما يقدمه الساسة للمرأة هي دعوى باطلة خادعة يتم بها استمرار تحييدها عن ممارسة دورها الحقيقي باسم " الديمقراطية " والمشاركة السياسية المزعومة ، رغبة في تقليد الدول الغربية المتقدمة تقنيا وماديا - والذي جعلها البعض مثله الأعلى - توهما منهم بأن ذلك من أسباب التقدم والرقي ومظهرا من مظاهره ووجها من أوجه الحضارة ، فالمرأة بالنسبة لسدنة الحضارة الجديدة - وكما يقال - هي ( نصف المجتمع ! ) ، إنها مقولة من ينظر إلى أفراد المجتمع كمجموعة من العمال والموظفين ، نصفهم من الرجال والنصف الآخر من النساء ! ، فتلك نظرة " الرأسماليين " والماديين الذين يصب اهتمامهم على مضاعفة الإنتاج وجني الأرباح والمكاسب المادية حتى لو كان على حساب ارتقاء وبقاء النوع البشري وعلى حساب وعي المرأة وصلاح حالها وأحوالها واستقرارها وأمنها ، فالمرأة بالنسبة لهم نصف قوة العمل ، وفي الحقيقة ... إن المرأة هي من ( يصنع المجتمع ) ، المجتمع الإنساني ، وهي من يصنع الحياة .

قال تعالى { ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين (85) }( هود )

نعم ... إن المرأة هي من يصنع المجتمع والحياة ، فلذلك يجب أن تمكن من أداء دورها الاجتماعي والسياسي وبصورة صحيحة وبما يحقق الهدف الصحيح وهو إيجاد أسرة مترابطة مستقرة وإيجاد أبناء لهم بناء فكري وروحي ونفسي وبدني سليم ومجتمع آمن ودولة تسير باتجاه صحيح ، فالمرأة إذا ما مكنت من أداء دورها الطبيعي ستساهم بقدر كبير في صناعة وصياغة الإنسان صياغة تجعله أهلا لأداء الأمانة التي حملها ودور الاستخلاف في الأرض ، بل في صناعة وصياغة الحياة ، ولا يجب أن تنهك وتشتت جهودها وتهمش وتستغفل وتستغل ، فالمرأة في الوقت الحاضر تعيش وهي محرومة من أداء دورها الأساسي الفعال في المجتمع ، فلابد من إعادة ترتيب شبكة العلاقات الاجتماعية السياسية الإسلامية ترتيبا صحيحا يحفظ للمرأة خصوصيتها ويضع كل جنس في مكانه المناسب والصحيح ، ومثل ما يجب أن يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، كذلك يجب أن توضع المرأة المناسبة في المكان المناسب ، وهكذا سيصلح المجتمع وستعدل الموازين المقلوبة وأولها ميزان العقل الذي أختل بسبب ذهاب الدين مرورا بالموازين الأخرى انتهاءَّ بميزان القوة العالمي ليكون من صالح المسلمين والمستضعفين والإنسانية بشكل عام .

قال تعالى { ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا(1) }(النساء)

فساسة هذا الزمن إذا ما أرادوا الارتقاء بالمجتمع الإنساني وبعث الروح فيه ، لا مفر من تقديم الاعتذار الواضح والصريح للمرأة بعد الاعتراف بسوء تقديرهم وفهمهم لمكانتها ولقيمتها ولقدراتها وإمكاناتها وخواصها وحاجاتها وضرورات حياتها الإنسانية ولدورها في الحياة ، فعليهم أن يتقوا الله ويبادروا في رفع الظلم عنها وإعلان التوبة النصوح ( عملياً ) من خلال تمكين المرأة من أداء دورها الطبيعي تجاه المجتمع دون حيل فكرية وسياسية ودون استغفال واستغلال ، فوضع المرأة في مكانها المناسب والصحيح والاعتراف بدورها الهام والأساسي في صناعة المجتمع وصناعة الحياة هو أحد أهم مفاتيح الإصلاح ، فضياع الأمم من ضياع المرأة وتهميشها ، ولا إصلاح إلا بصلاح حال وأحوال المرأة " الفكرية والروحية والنفسية والمادية " ولا إصلاح إلا بتمكين المرأة من أداء دورها الطبيعي .

لقد تعرضت المرأة في الجاهلية الحديثة لوجهين رئيسيين من الخداع ، [ الوجه الأول ] هو صرفها عن العلم الذي سينفعها وسيفيدها في ممارسة دورها الطبيعي وتحقيق ذاتها ، وهو الأمومة ورعاية الأسرة وتربية وصياغة الأبناء وصناعة الحياة ، فبدلا من تعليمها من أجل إخراجها من حصنها ومملكتها لجعلها عامله في آلية وماكينة الإنتاج المادية العالمية وجعل مهمتها الأولى تحصيل المال والشراء والإنفاق والاستهلاك كان من الأجدر تعليمها العلم الذي يعينها على صناعة الحياة من خلال إدارة الأسرة ورسم وتنفيذ سياستها ( الاقتصادية والغذائية والصحية والفكرية والنفسية والروحية والاجتماعية ) ، فصناعة الحياة وصناعة الإنسان وصياغته بصورة صحيحة بحاجة لأم متعلمة وواعية ومتمكنة من إدارة أسرتها لبناء أبنائها بناءا " فكريا ونفسيا وروحيا وبدنيا " سليما ، وهو بحاجة لأم متفرغة لتلك المهمة الإنسانية الراقية ، و [ الوجه الثاني ] هو خداعها بما يسمى المشاركة السياسية باسم " الديمقراطية " ، فعند التطبيق الفعلي لن نجد لتلك المشاركة المزعومة أي أثر يذكر على تحسين أحوال المرأة بشكل خاص وأحوال المجتمع بشكل عام ، فها هي المرأة في الدول " الديمقراطية " لا زالت تعاني من الاستغلال وسوء الرعاية والاهتمام ، وها هي مجتمعات " الديمقراطية " المزعومة تعيش بحالة تفسخ وانحلال .

قال تعالى { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم (71) }( التوبة )

فحاجة المجتمع لجهود المرأة الفعلية تلزمنا استحداث دائرة سياسية نسائية خاصة لإدارة شؤون) الفتيات والمرأة والأسرة ) ، بإدارة نسائية صرفه دون وصاية من الرجال وبميزانية مستقلة ، وهذا وجه من أحد أوجه تطبيقات الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتكامل والتعاون على البر والتقوى ، وتلك الدائرة السياسية النسائية تكون مهمتها الأتي :
أولا : إيجاد فتيات متعلمات واعيات متمكنات من رسم سياسة الأسرة وإدارة شؤونها " الاقتصادية والغذائية والصحية والفكرية والنفسية والروحية والاجتماعية " وقادرات على صناعة الحياة ، قال تعالى { ومن ءاياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21) } ( الروم ) ، فمهمة صناعة الحياة وإدارة شؤون الأسرة ورسم سياستها لضبطها وحمايتها ليست مهمة وضيعة وهامشية وكما يصورها من لا يعيش تفاصيل الحياة بوعيه الكامل ، أو من يريد للمجتمع أن يعيش في ظل الفوضى بعد تحييد ( الأم المتعلمة الواعية المتمكنة المتفرغة ) حتى يتسنى له تصريف بضائعه الفاسدة التي تفسد الحياة ، من قيم وأفكار ومفاهيم وغذاء أو سموم ومصنوعات وسلع مختلفة دون رقيب وحسيب ، بل إن مهمة إدارة الأسرة وحمايتها ورسم سياستها وصناعة الحياة من أصعب المهمات وأهمها وأشرفها في الدولة الإسلامية ، فضبط الأسرة هو ضبط للمجتمع والدولة ، فمن الأسرة التي تديرها الأم المتعلمة الواعية المتمكنة المتفرغة يخرج أفراد المجتمع الصالحون المصلحون ، يخرج صناع الخير وصناع الحياة ، فتلك هي حقيقة دور ومهمة المرأة في المجتمع المسلم المثالي ، فإذا صلحت الأسرة والخلية الأولى للدولة صلح النسيج الاجتماعي وصلحت الدولة وصلحت الدنيا والحيـاة . { عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ اللإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ قَالَ وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِه ِ} (صحيح البخاري)

ثانيـا : تهيئة وتنظيم الكوادر الفنية والإدارية من أجل إدارة شؤون النساء بشكل عام " الفكرية والروحية والنفسية والمادية والصحية والاجتماعية ...الخ " وخدمة المجتمع وتوفير فرص العمل المناسبة لمن اضطرتها الظروف للعمل وبما يحفظ كرامتها من الامتهان ووضعها من الاستغلال .

ثالثـا : التنسيق مع مجالس الرجال للاتفاق على آلية التشاور وحدود ومجالات المشاركة في إدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية .

وأمام هذا الوضع المأساوي للمرأة ، وأمام هذا الخلل والاضطراب الذي أصاب المجتمعات بسبب تحييد وتهميش المرأة ومنعها من أداء دورها ومهمتها في صناعة المجتمع وصناعة الحياة ، تُـقََََدَم حلول تزيد الواقع سوءا ، فالمشاركة السياسية للمرأة لا تكون بدخولها في حلبة الصراع السياسي باسم " الديمقراطية " والتعددية ، فهذا الأمر لا يصلح من حال وأحوال المجتمع ، ومن المحال ذلك ، فالمجتمع الإسلامي الإنساني لا يصلح حالة ولا تصلح أحواله إلا بإعادة ترتيب شبكة العلاقات الاجتماعية السياسية على أساس صحيح ، من أجل إيجاد بيئة اجتماعية وسياسية صالحة مربية ومزكية ، واستحداث دائرة سياسية خاصة بالنساء هو جانب من الأسس السليمة والصحيحة التي ستعمل على عودة الروح والحياة للمجتمع .

لقد أصبحنا مخدرين ومسلوبي الإرادة ليس لنا إلا السير على خطى الآخرين في النظرة إلى الحياة والبقاء في أفقهم وجحورهم الضيقة ، { قال الرسول صلى الله عليه وسلم : لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ، قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال فمن ؟ } .

ألا يجب أن ننتبه إلى أنفسنا ونتأمل ونتفكر في حالنا وأحوالنا ونتدارس أمرنا ونراجع أفكارنا ومفاهيمنا وتصوراتنا ورؤيتنا للحياة ؟ ، هل هي رؤية عميقة وصحيحة ؟ ، أم هي رؤية سطحية خاطئة أثرت بها أعمال المكر والدجل والحيل الشيطانية إضافةَّ إلى الإلف والعادة وبسبب تسلط " العلمانيين " وقوى التخلف والانحطاط على الأمة بعد تحييد العلماء الربانييـن؟.

فلنبحث عن الأفق الفكرية والحياتية الرحبة الفسيحة بعيدا عن هذا الجو من الضنك والعنت والمعاناة ، لكي نعيد ترتيب شبكة علاقتنا الاجتماعية السياسية الإسلامية وفق المنهج الصحيح ووفق سنن ونظم وقوانين الكون حتى تعود للدنيا الحيـاة . وبالله التوفيق

قال تعالى (..إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .. ) (11) ( الرعد )

محمد العلي – الكويت - 27 / 2 / 2005