دفاعا عن أمينة التونسية: الجسد العربي ينتفض ضد الحريم



أحمد دلباني
2013 / 6 / 8

1
أودُّ أن أقول كلمة، هنا، عن أمينة التونسية وعن صنيعها غير المسبوق في عالمنا العربي - الإسلاميّ. لقد بدا لي ما قامت به - وهي تعرض صورتها في بعض مواقع التواصل الاجتماعيّ عارية الصدر- فعلا انتهاكيا عظيما لثقافة لم تعُد تستجيبُ إلا للوخز بعد أن طال بها سباتها الشتويّ ومنظومة القيم الأبوية التي سيَّجت بها نفسها منذ قرون. وبدا لي هذا الأمرُ فعلا نستطيعُ وصفه بأنه يُبشرُ بثقافة مضادة لثقافة المقدَّس والفحولة، وفعلا يُفصحُ بصورة جريئة عن أصوات الهامش في عالمنا العربيّ، وعن المَعين الأنثويّ لطوفان التغيير القادم. لقد كتبت أمينة على صدرها العاري: "جسَدي ملكي ليس شرفَ أحد". وكانت بذلك تُعبِّرُ عن حق أصيل وبداهة أولى رُميت في خانة المسكوت عنه والمُحرَّم استنادًا إلى ثقافة علا فيها الشحوب وجهَ الإنسان منذ تزوجت المُطلق وهجرت مأدبة التاريخ. "جسدي ملكي" هو كالقول "فعلي اختيارٌ يُعبِّرُ عني" أو"فكري موقفٌ حر ومسؤول لا يُلزمُ أحدًا غيري". هذا هو معنى الحرية الكيانيّة في شكلها الأكثر حداثة فعلا: استقلالية الإنسان ومسؤوليته عن نفسه بمعزل عن قيم الإخضاع التي كتبت تاريخا غير مُشرّف عن اضطهاد الإنسان واستعباده. كذلك لا يُمكنُ للشرف بمعناه الرَّفيع أن يرتبط بالعبودية والخضوع والانسحاق أمام آلة التدجين الاجتماعية الكبيرة. لقد ثارت أمينة، بهذا، ضد ثقافة الحريم والوصاية الاجتماعية والأبوية وكل أشكال الإخضاع التي ظلت تلتمسُ طلبَ الشرعية في خطاب المُقدَّس الديني وتأويلاته القروسطية.
من المعروف أنَّ الجسد – الذي مثل أداة النضال ضد ثقافة الخطيئة والقمع تحت سماوات أخر – لم يكن ليحتل مكانا له في أبجديات العمل النهضوي / الثوري العربي الذي ركز، لعقود خلت، على قضايا الاستقلال السياسيّ والحريات الفكرية والتجديد الاجتماعيّ والسياسي والبناء الوطني والقومي. لقد ظل الجسدُ، بهذا المعنى، الغائبَ الأكبر عن المشهد النضالي العربيّ وظل يُشكل – بمعنى ما – ذلك التابو الرَّاسخ الذي رأت فيه الثقافة التقليدية منذ العصور الوسطى موئلا للخطيئة والإثم والسقوط في الرذيلة؛ ورأت فيه بعض الإيديولوجيات الحديثة، أيضا، رمزا لانحطاط حضارة قامت على قيم السّوق والاستهلاك. لقد ظل الجسدُ، إن شئنا التعبير، يمثل هاجس تجارة لا حضارة عند الكثير من المُثقفين. ولكن ها هو الجسدُ يعودُ من جديد باعتباره أداة الانتهاك العظمى لثقافة ظلت تعتصمُ بمفاهيم عتيقة عن الشرف والعرض ارتبطت بأشكال تقليدية من التضامن والضبط الاجتماعي؛ كما ظلت تعتمدُ آلية تغييب الفرد والذاتية بتمحورها، ثقافيا، حول المُطلق والتعالي واجتماعيا حول المؤسَّسة ذات الطابع البطريركي الرَّاسخ. فهل نحتاجُ، بعد هذا، إلى التذكير بأنَّ هذا الفعل النضالي مثل، بامتياز، تدخلا ثقافيا وسياسيا طليعيّا جابه خيبتنا من "ربيع عربي" لم يستطع أن يحبل بمدينة الإنسان؟ هل نحتاجُ إلى التذكير بأنَّ هذا الفعل النضالي كان صرخة احتجاج أمام ثقل مُؤسَّسة التاريخ القمعي التي ظلت تخنق العقل والروح والجسد والرغبة، وتخنق شرارَ التطلع إلى الانعتاق الكيانيّ الشامل للذات العربية؟
إنني أصفُ سلوك أمينة بغير المسبوق في تاريخنا عندما أضعه في السِّياق العام لنضالاتنا من أجل تحرير الذات العربية والجسد العربيّ من ثقافة الممنوع ومركزية الذكورة وهيمنة الأبوية. ولكنني أجدني مُضطرا، أيضا، لإدراجه في السياق العام لنضال ثقافيّ نشط تقودهُ نخبٌ عربية رأت في الجسد بوابة وطريقا ملكيا إلى التحرر المنشود من زمننا الثقافيّ والاجتماعيّ الراكد. ويبدو أنَّ هذا النضال الجَسور سيطول كثيرًا قبل أن تترسَّخ في حياتنا العربية قيم الفردانية والحرية الذاتية. إذ ما معنى أن نناضل من أجل عِتق الجسد من مُؤسَّسة التاريخ العربي – الإسلاميّ ( الذي لا يُريدُ أن ينتهي ) قبل أن نُمكِّنَ لعِتق الفكر من هيمنة المرجعيات المُفارقة والمُقدَّس الذي يشهدُ انتعاشا مُخيفا وغيرَ مسبوق في حياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية؟ كأنَّ نضال طه حسين الذي بدأ منذ نحو قرن من الزمان كان معركة دونكيشوتية لا غير. أوكأنَّ الطليعة الفكرية النقدية كانت تنفخ الروح في مومياء جفَّ ماءُ الحياة في أوصالها.
2
يجبُ أن يدخل الجسدُ ساحة المُعترك السياسيّ باعتباره بؤرة من البُؤر التي يتم حولها الصِّراع: صراع الحقوق والحريات الفردية ومُجابهة المُجتمع الأبويّ التقليديّ. صراع الغبطة والإبداع والتحرر الكيانيّ الشامل. صراع المُثقف النقديّ الطليعيّ ضد مُثقف المُؤسَّسة الذي لا يهمّهُ إلا مُباركة العالم وسفح دم الإنسان على مذبح مرضاة الآباء. إنَّ عودة الإسلاميين وخروجَهم من رحم "ربيع عربيّ" غير مُكتمِل يجبُ أن يمثلا مُناسبة سانحة، هنا، من أجل إعادة النظر في مآل الانتفاضات العربية وحدودها وإمكاناتها. إنَّ سنونوة واحدة لا تصنعُ الرَّبيع كما يُقال؛ وقطع رأس الملك لا يصنعُ ربيع الديمقراطية والحرية أيضا. يبدو لي من هذه الشرفة أنَّ المُجتمع العربيّ ببنيته السوسيو- ثقافية السَّائدة ليس أرضا خصبة تتيحُ لشجرة الحرية أن تزدهر بمجرَّد حصول الانتفاضة السياسية ضدَّ النظام الديكتاتوريّ الفاسد. الثورة تغييرٌ لنظام الشرعية السَّائد، واتجاهٌ نحو المزيد من الأنسنة واعتماد المرجعيات المُنسلخة عن مُناخ التقديس والتعالي القروسطيين. ولكن أين نحنُ من هذا؟ إنَّ انفجارَ الإسلام السياسيّ والإسلام الأصوليّ - في أكثر أشكاله عنفا وتقليدية - مؤشرٌ بالغ الدلالة على فشل مُجتمعاتنا في الانتقال إلى تحديث متوازن يقطعُ مع أشكال التضامن التقليدية ليُحل محلها علاقات المدينة وفضاء المُواطنة والمسؤولية الفردية. إنَّ الإسلام السَّائد عندنا، اليوم، يمثل بحثا محمُومًا عن انتماء تقليديّ تمَّ تدميره بفعل التحديث المُتوحش الذي غزا مُجتمعاتنا منذ شرعنا في بناء الدولة الوطنية.
هذا "الربيعُ العربيّ"، بالتالي، لم يكن إلا سمفونية ناقصة. وأخشى، شخصيا، من الوقوع تحت لازمة الاعتقاد الفاجع لبعض المُثقفين العرب بأنَّ انتظار ربيع الديمقراطية العربي هو انتظارٌ آخر لغودو في طبعة عربية. ولكنني أقول إنَّ الهامش الطليعيّ هو الذي يصنعُ التاريخ الفعلي أو – على الأقل - يصنعُ ذلك التململ الذي يُتيحُ لجذوة الروح أن تبقى حية تحت رماد العصور. وعليّ أن أشيرَ، هنا، إلى الحضور الأنثويّ البهيّ باعتباره الهامشَ الأكثر غنى وفاعلية وتطلعا إلى الانعتاق من مُؤسَّسة التاريخ الذي ما زالت ترزحُ تحته الذات العربية. من هنا أهمية النضال ضدَّ قيم الفحولة والأبوية وهيمنة الذكورة. من هنا أهمية النضال ضدَّ استراتيجيات الإخضاع التي يُمارسها المُجتمع البطريركي وضدَّ ثقافته التي تعتصمُ بالمُقدَّس الديني وسلطة الماضي الرمزية. ومن هنا، أيضا، أهمية أن تتدخل المرأة العربية بسلوكها وصوتها وجسدها مُعلنة اختراق صمت الحريم التاريخيّ ومُعلنة انتهاءَ عصر المماليك. فلم يعُد للفحل العربيّ ما يُقدّمه، ولم يعُد للمُجتمع العربيّ بمُؤسَّساته وثقافته السَّائدة ما يُتيحُ له أن يُبدعَ حياة جديدة للإنسان العربيّ تمكنه من الحضور الفعليّ على مسرح العالم.
إنَّ تدخل أمينة كان نتيجة انخراط في فضاء تواصليّ عولميّ ونضالات نسائية راديكالية ضدَّ أرثوذوكسية الأنظمة والمُجتمعات وضدَّ توحش العالم وضدَّ ذلك الزواج المُقدَّس بين قيم الدين السياسيّ التقليدية وسلطة رأس المال. وقد أتاح هذا الأمر التفكير، عربيا، في نوع من الاندماج الكوكبي على صعيد القيم انطلاقا من مطلب الحرية بمفهومها الشامل باعتبارها هدما للعوالم القديمة، وتخريبا طفوليا لقلاع المُجتمع الذكوري الأبوي الذي ما زال يتمترسُ عندنا وراء أشكال عديدة من الشرعية. هذا ما يجعلني أرى تكاملا بين عمل المُثقفين النقديين الطليعيين وعمل الناشطين في مجال الحقوق والحريات. لقد بدأ نقدُ الشرعيات التقليدية في الثقافة العربية، فعلا، منذ زمن بعيد ولكنه لم يحفر مجراهُ العميق في الذات العربية والعقل العربيّ. وكان للعقل النقديّ العربيّ – في بعض أوجهه الأكثر طليعية - أن يُواجه الممنوع في تجلياته السياسيّة والدينية والجنسيّة. كان يلزمُ للفضيحة أن تخترق هذا الصمت المضروب على التابو. كان يلزمُ أن تمتدَّ يدٌ جَسُورة إلى الثمرة المُحرَّمة. كان ينبغي هتك الحجاب عن ثقافة لا تمتهنُ إلا حجب كل ما يحمل رائحة الإنسان.
إنَّ الدلالة العميقة لسلوك أمينة تكمنُ أيضا – إن استعرنا تعبير سقراط في دفاعه الشهير عن نفسه أمام المحكمة - في القول إنَّ أخطرَ ما يُزعجُ ويربك جواد المدينة النبيل الناعس هو لسعة الذبابة التي توقظه من سُباته وخمُوله. هذا السلوك فرديّ ولكنه يُعبِّرُ عن قضية المرأة العربية التي يجهرُ المُبشرون الجُدد بقصورها وضرورة خضوعها من أجل نجاتها. هذا السلوك يخدشُ بصورة حادة قيم المُجتمع الأبويّ الذي أنتجَ مفهوما للشرف يربطه بالقبيلة والجماعة والفحولة والبداوة وحجب الذات الفردية؛ ليُعلنَ أنَّ الشرفَ ليس إلا الحرية واحترام كرامة الفرد واستقلاليته الفكرية والجسدية. هذا السلوك ليس خطابا فكريا ولا يتبجحُ بإثارة عجاج المعارك الفكرية التي نسمعُ فيها، غالبا، قعقعة سيف دونكيشوت؛ وإنما هو سلوك يحملُ مطلبا ويفضحُ وضعا إنسانيا لم يعُد بإمكانه أن يستمرَّ مع تغيّر العالم واتجاهه إلى الكوكبة والتواصل بين الثقافات من أجل البحث عن صيغة جديدة لنزعة إنسانية تتجاوز الانغلاق أمام الآخر والانكفاء على الهويات الثقافية الضيقة الخانقة. من هنا يكتسبُ هذا السلوك، بالتالي، كامل دلالته وأهميته في وضعنا الذي يشهدُ التراجع وتحطم بوصلة الاتجاه؛ وهو ما يتجلى، تحديدا، في يقظة مارد الأصولية والانكماش أمام التحديات الفعلية التي تنتظرُ منا رفعها من أجل الخروج بالإنسان العربيّ من أزمنة الوصاية إلى أزمنة الحرية، وعِتق الفعل من مرجعية الماضي والمُقدَّس.
3
إنَّ تحرير الإنسان العربيّ لن يكونَ إلا بتحريره من امتدادات الماضي وضغط التاريخ الاجتماعي / المُؤسَّسي ونظام العالم الرمزيّ الذي يشكل أساس الثقافة العربية في تجلياتها الدينيّة بالأخص. من هنا يبدو حجمُ المهمة الملقاة على المثقف والمناضل العربيّ هائلا ويحتاج إلى قدرات فكرية اختراقية تنزعُ الشرعية عن بنيات القمع المستمرَّة؛ كما يحتاجُ إلى عمل مُتواصل وصعلكة ثقافية وسياسيَّة تتأبَّى على السقوط في جاذبية رمال السلطة العربية المُتحركة. ولكنني لا أحب أن أتحدث عن شهداء من أجل الحرية يكتبون أسماءهم على الماء. كما لا أحب أن يكونَ المثقف العربيّ غاليلي آخر ينوء تحت أثقال الإدانة الأبدية. لقد تعبنا من تقديم القرابين للآلهة الصماء. هذا ما يجعلني أطرحُ - بصورة دائمة - مشكلة الزمن الثقافي / الاجتماعي العربيّ الرَّاكد والذي لم تزدهُ جنة الرَّيع والاستهلاك إلا رسوخا على حساب التقدم الإنساني والأخلاقي والسياسي المنشود منذ عقود. كأنَّ دوائر المال والسياسة العربية - التي تدور في فلك الهيمنة الغربية - لا تستطيعُ أن تقدم إلا المساحيق التي تُلمِّعُ وجهَ المومياء العربية وهي تطفو على سطح العالم كقشة يابسة تفتقدُ كل أثر للحضور والفعالية.
على العالم العربيّ، أيضا، أن يُدشنَ عهدَ ثقافة جديدة تنسلخُ من هيمنة الدينيّ في أشكاله الفقهية التقليدية وصُوره الإيديولوجية النضالية باعتبارها انعكاسا لأزمة عميقة مع التحديث الذي لم نمتلك أبجدياته الإنسانية والعقلية. إذ كيف لثقافة لم يُولد فيها الإنسانُ باعتباره ذاتا مُستقلة فاعلة ومركزا للقيم أن تنخرط واثقة في العالم المُعاصر وأن تُسهم في نقده وبنائه؟ كيف لثقافة تسجنُ الجسدَ وتقمعهُ أن تؤرخ لازدهار الروح؟ كيف لثقافة تجتهدُ في ترويض العقل والنفس واستقباح الرغبة أن تُسهمَ في تحرير الوضع الإنسانيّ وإبداع الحياة الجديدة؟ كيف لثقافة تُبشّرُ بالطاعة والامتثال والعيش في كنف دوحة الأب الغائب أن تتحدَّث عن الحرية والإنسان ونقد القيم في العالم المُعاصر؟ كيف لثقافة تحصرُ الفضائل في التقليد وتحيين النماذج الفكرية الماضية المُستنفدة أن تتحدَّثَ عن زمنها القادم وسيادتها في آخر الزمان؟ كأنَّ تاريخ الإنسان والإبداع خطيئة يجبُ التطهرُ منها بمُعانقة المُطلق والانسحاب من مُغامرة إنتاج المعنى في ليل الأزمنة.
مُشكلة المُجتمع العربيّ، بالتالي، واحدة. هي مُشكلة ثقافية بالمعنى الواسع. مُشكلة بنية ذهنية ماضوية ترتبط بزمن اجتماعيّ أبوي ومنظومة قيم تدورُ في فلك المُقدَّس والفحولة وعلاقات الإخضاع التقليدية. لذا لا أرى، شخصيا، مجالا آخر لفاعلية المثقف النقديّ العربيّ غير مُواجهة هذا الوضع وفضح امتداداته في النظام السياسي العربيّ الحديث وفي أنماط الحياة الاستهلاكية السَّائدة. مأساتنا أنَّ الكوجيتو العربيّ لم يولد بَعدُ، أو قل بقي في الزاوية الخلفية من المشهد ينتظرُ إطلالتهُ بنوع من اليأس القاتل. فكيف في ظل وضع مُماثل أن يمُرَّ سلوك أمينة بدون استهجان أو تكفير وتهديد بالتصفية الجسدية؟ كيف لنا أن نتحدَّثَ عن التحديث العقلي والفكريّ وعن الديمقراطية والحرية والمُواطنة، وعن عِتق فاعلية الإنسان العربيّ من الكوابح جميعها ونحنُ نشهدُ انفجارَ المكبوت الهائل الذي يمثل انتقامَ البداوة من مُحاولاتنا الفاشلة في بناء المدينة العربية وقيم التمدُن الحديثة؟
يبدأ نقدُ الثقافة، أيّ ثقافة، من التأمل في ضحاياها وفي أشكال النبذ والاستبعاد التي تُمارسها وفي تعاظم هامش المسكوت عنهُ فيها. ونحنُ نعرفُ أنَّ الثقافة العربية – الإسلامية فضاءٌ خانقٌ يعج بأصوات المُهمَّشين والمقموعين، ويعجّ بأصناف الغياب القسريّ لفاعليات الإنسان الحية. وأستطيعُ، هنا، أن ألاحظ أنَّ ضحايا الثقافة العربية ومُهمَّشيها بامتياز يُمكنُ حصرهم في المرأة والعقل. هناك، بالتالي، قهرٌ اجتماعيّ وقمعٌ ثقافي. هذه البنية السوسيو- ثقافية البطريركية تُجيّشُ آلتها الإيديولوجية الكبيرة للدفاع عن شرعية وجودها وعن قداستها مُستنجدة في ذلك بالعنف المُقدَّس الذي يتدثرُ بلبوس الحقيقة في شكلها الدّينيّ المعياري. هذه البنية السَّائدة تجعل من المرأة كائنا ناقصا وقاصرًا وتابعا وغير مُساو للرجل. كما تجعل من العقل فاعلية غير مرغوب فيها في مدينة الطاعات وفضائل التقليد وتقديس المرجعيات مُعتبرة إياه نزقا وأداة تخريب ترتبط بالحرية والسؤال وانتهاك حرمة المُقدَّس في بيت الجبلاوي. من هنا ضرورة انحياز المُثقف النقديّ الطليعيّ إلى الضحايا لا إلى الجلادين، وإلى حلم العدالة والمُساواة والحرية لا إلى مُباركة نظام القمع. ولا يكونُ هذا بالشعار النضاليّ الجاهز وحده، وإنما - أساسا – بتفكيك خطاب الهيمنة وتعرية قداسته من خلال إبراز علاقته بالعنف المادي والرَّمزي الذي لازمهُ، ومن خلال كشف علاقاته الخفية بتاريخ الهيمنة واستراتيجيات الصراع من أجل التملك والسيطرة لا غير.


4
أقولُ، أخيرًا، قد لا تمتلك أمينة السبوعي (تايلر) – وهي شابة في مُقتبل العمر - هذا الوعي الثقافي / النقدي بصورة كافية؛ ولكنَّ هذا الأمر لا ينتقصُ من قيمة سلوكها الانتهاكيّة التي أرى أنَّ على المُثقفين أن يُساندوا من خلالها الجسارة والشجاعة على مُجابهة قلعة تاريخنا الاجتماعي والثقافي الرَّاكد. كما أود أن أشيرَ إلى أنَّ ارتباط أمينة بمُؤسِّسات حركة (femen) والحركات النسوية الرَّاديكالية قد يطرحُ أسئلة كثيرة حول طريقة نضالها وعن الغايات المُعلنة والخفية لهذه الحركات وعن ارتباطها السياسي والجهات التي تموِّلها. ولكنني، شخصيا، لا أرى لهذه الأسئلة – مهما كانت الإجابة عنها – تأثيرًا على موقفي المبدئيّ من مُساندة أمينة في محنتها أمام المُحاكمة من جهة أولى، وأمام التكفير والتهديد من قبل الإسلاميين من جهة أخرى.

----------------

حزيران 2013