التنازلات تبدأ تباعا..



أماني فؤاد
2013 / 8 / 11


سألتها أتعملين ؟ أجابت من عينين مكحولتين خلف نقاب أسود : لا ...، عينان تقفزان خارج العتمة، قدر ما تشيران إلي حياة قد قُمعت.

قالت: أنا خريجة جامعة الأزهر، بعدها سجلت رسالة الماجستير في الوثائق والمكتبات، وقطعت شوطا كبيرا بها، ارتبطت بزوجي الحالي، ولم يمانع في البداية أن استكمل دراستي وعملي ، وبمجرد أن تزوجنا ورزقني الله بأبني الأول، رفض تماما أن أنهي الشوط الذي قطعته من دراساتي، كما رفض عملي ، ووضعني في اختيار قاس: إما حياتي العملية، أو أن ننهي ارتباطنا الذي لم يكن قد انقضي عليه عاما، وأثمر طفلا .

سألتها: ألم يكن من الممكن وقتها الوصول لصيغة تفاهم كي لا تضحين بطموحاتك ؟ أجابت: كان قاطعا ورفض تماما . وانحصر الاختيار أمامي بين استكمال أحلامي الشخصية أو هدم هذا الكيان الوليد، و أن يُنسب إليّ وحدي الفشل السريع زوجة وأم.

ضحيت بما يخصني لا ما يخصه، ويخص أسلوب تربية أسرتي لي، التي لم تعترض علي قيده الذي فرضه عليّ ، ولا مايخص طفلي ، تبعثرت أحلامي وطموحاتي، وقُمع شعوري بكيان خاص بي كفرد، تحت وطأة قراره الذي اتخذه غير عابئ بي ، أضافت: حُجة زوجي وقتها لي وللأخرين بأنه الزوج الراعي لأسرته الصغيرة التي تتكون، ردد كثيرا: أتركي لي أنت العمل والشقاء، و تفرغي لي ولطفلك وبيتك..وانعمي بالراحة.

لعله السم الذائب في العسل الذي شربته وقتها راضخة، واتجرع مراراته لأكثر من ثلاثة عشر عاما.

سيدتي هو ذات المصير الذي تعانيه أكثر النساء، بعد ارتباطهن برجل يستدرج المرأة للزواج مستندا علي طبيعتها العاطفية، مزينا الأمر أمامها في البداية بأنه سيرعي كيانها الشخصي، ولن يتغول عليه ، بل سيدعمها ، ويحاول التوفيق بين شئون الأسرة وشأنها الخاص، الذي يغفل الرجال أن علوه وتنميته سيصب في مجري حياته وحياة أولاده معها.



بعد الزواج وتوالي القيود يفرض الرجل إرادته، ولا يصبح أمام المرأة سوي الانصياع؛ لأن موروثها في ظل ثقافة ذكورية بامتياز، لا يعطيها الحق سوي في التنازل ووجوب التضحية؛ لتحقيق رغبات الاخرين لا رغبتها الخاصة في تحقيق كيانها.

تُراني أدعو إذن لأن تهدم المرأة كيان الأسرة، وأن تغادر هذه المؤسسة بمجرد أن تتعارض مع تحقيق كيانها الخاص؟

بالطبع لا ..

لكن لماذا تصبح هي الضحية علي الدوام، لماذا تصبح خادمة الجموع، وتتلاشي ذاتها الخاصة في الرجل والأولاد.

لماذا لا نستطيع الوصول إلي صيغ تراعي الكيان الأسري بكل أفراده، ولا تجور علي نصف المجتمع الذي تمثله المرأة بداية من: وضع شروط واضحة في عقد الزواج ، و ترسيخ مفهوم العمل الجزئي للمرأة في طفولة أولادها، وغيرها من مقترحات يمكن مناقشتها تباعا .

هل كتب الموروث الثقافي عليها أن تكون الكائن الذي يجب أن يضحي دائما؟ والدعاوي جاهزة الإعداد، مغلفه بالنوايا الحسنة: ثقافة المجتمع لا تريد لها التعب والشقاء، فلتتركه للرجل.. لكنها حتما ستترك جزء من كيانها الشخصي معه.

لا يريد المجتمع لها أن تتعرض لمضايقات الخارج، فهو يضعها في صوبة مجهزة من الرعاية الفائفة، فتضمحل مع الوقت قدراتها، ومقومات شخصيتها، وتصبح أقرب إلي الدمية الفارغة.

ماذا تريدين ؟، دائما ما يقول الرجال: "متكفل أنا بكل ماتحتاجينه ماديا .."ثم تصبح مع الوقت تابعا اقتصاديا تُمنح بشروط الأخر، لا أن تستطيع هي بذاتها إعالة نفسها.

عزيزتي المرأة التنازلات تبدأ أولا مزينة بالورود.. ثم تستمر تباعا، ولن يصبح من حقك التوقف في منتصف الطريق، وقتها سيدعي الجميع انه اصابك لوثة ما، او انك تتمردين، واجتاحتك الانانية.

تستمر التنازلات في ظل الثقافة المجتمعية السائدة، لتصلين للحظة ان وجهك عورة، كيف بالله عليك خلقك الخالق وواجهة كيانك ، ما يميزك عن الاخرين، عورة؟ كيف تقبلين التعتيم عليك لتصبحين بالنهاية هذه الكتلة السوداء الصماء ؟ تلك العينان المنطفئتان خلف نقاب أسود.