مديح لصبية أوروبية !



علاء اللامي
2002 / 11 / 6

  

مديح لصبية أوروبية !

                                                               

  عثر قبل بضعة أشهر على جثة فتاة أوروبية مقتولة في ضواحي إحدى المدن الكبرى ،وقد اعترف الذئب البشري الذي قتلها خلال محاكمته  أنه اغتصب الفتاة بعد قتلها فسألته القاضية : ولماذا  بعد قتلها وليس قبله ؟ فقال لأنها دافعت عن نفسها وقاومته بضراوة لبوة شرسة طوال ساعة تقريبا ، وتركت أثار جروح و رضوض على جسده ، ولم تتركه ينل  منها إلا بعد أن سقطت جثة هامدة ..

  ثمة ما هو خاص في كل ما هو عام ، استثنائي فيما هو مألوف ، خارق في كل ما هو سائد .غير أن حكاية هذه الصبية الأوروبية القتيلة ليست من غرار  ما هو خاص ، استثنائي ،وخارق . واعتقد أن من شاهدوا أفلاما أوروبية اجتماعية كثيرة  أو اطلعوا بشكل واسع على الأدب الروائي والحياة اليومية الأوربية سيفهم هذا الكلام الذي  لا يستقيم مع ما هو مألوف في مخيالنا الجمعي نحن الشرقيين  ، فلقد  نظرنا وننظر الى أوروبا كحالة إباحية مطلقة و فالتة من كل شرط أخلاقي طوال التاريخ، وتلك نظرة ساذجة الى جوهر الموضوع وقادمة من فهم شرقي للشرف الإنساني كقيمة جنسانية  لا يزيد وزنها على وزن غشاء البكارة  .

المرأة الأوروبية  عاشت ثوراتها الخاصة وساهمت في صنع مفردات حياة مجتمعها وانطلاقا من الصفر التاريخي. بمعنى ، أنها لم تسقط من السماء كامرأة متحررة وحائزة على شروط مساواتها . فإذا كانت المرأة الإنجليزية وحتى بدايات القرن الثامن عشر تجر بحبل من رقبتها بيد الزوج لتباع في سوق البهائم ، فإنها -ومع نهايات الحرب العالمية " الغربية " الثانية - أمسكت فعلا برقبة  مجتمعها  وأضحت رقما صعبا لا يمكن القفز عليه في التخطيط والبناء والقيادة .   وقد يُصدَم الحداثويون الشرقيون حين يعلمون بأن المرأة لم يسمح لها بالمشاركة في التصويت والترشيح الانتخابي   في دول أوروبية عديدة إلا منذ عقود قليلة ( وقبل قليل سمعت من القناة الفرنسية الثانية تقريرا إخباريا حول الانتخابات في تركيا ورد فيه أن المرأة التركية سمح لها بالمشاركة في الانتخابات قبل المرأة الفرنسية / نشرة الأخبار الرئيسة على الساعة الثامنة مساء الأحد 3/11/2002/ والخبر مفاجأة حقيقية لم أسمع بها من قبل .. هذه الملاحظة أضيفت للمقالة بعد إرسالها الى النشر  ) ، لا بل أن التمييز على أساس الجنس ولصالح الرجال مازال سائد في موضوع المرتبات وأجور العمل وفي تحديد  سن التقاعد للعمال والموظفين  وما زال حضور المرأة في الهيئات القيادية رمزيا لا يتجاوز الخمسة بالمائة في جميع دول الاتحاد الأوروبي.

  ومع ذلك فلا أحد يعتبر هذه المظاهر القليلة عارا أو نقيصة مجتمعية بل ربما ُنظر إليها بوصفها من بقايا المجتمع البطريكي الذكوري السائر في طريق الزوال .وفي خضم هذه النقلة المثيرة والجديدة  تاريخيا ، تمادت المجتمعات الأوروبية كثيرا في طريق التحرر الشامل الذي بدأ منذ الثورات الجذرية خلال القرن التاسع عشر بل أنه أفضى في بعض سياقاته الى  مآل يعطي الانطباع، بأن تلك المجتمعات تعيش فترة انتقال نحو نمط مجتمعي مختلف كليا وجديد كل الجد . فالزواج التقليدي أو الرسمي بشكليه الديني والمدني في سبيله الى التلاشي ، وشكل الأسرة التقليدية سواء كانت من النوع " البسيط " أو "الممتد" بدأت تزول بدورها لتحل محلها هيئة شبه أسرية بين رجل وامرأة كصديقين  قد تدوم بضعة سنوات من الحياة والمعاشرة المشتركة دون إنجاب أو ارتباط رسمي .

   ومن مظاهر  أو إفرازات هذا النمط وجود ملايين العازبات والعازبين الذين يقطنون شقق صغيرة بمفردهم في المدن الأوروبية الكبرى ، و شيوع وانتشار عادات وظواهر وعلاقات إباحية لا تكترث  لسمو الجسد الإنساني و رهافة العلاقة الجنسية ، ولعل القارئ سيفاجأ على الرغم من كل ما تقدم من ملاحظات حين نقول بأن المرأة الأوروبية لا تقل عن زميلتها الشرقية في الاعتداد بأنوثتها وكرامتها الإنسانية و شرفها الشخصي ، ولكن جوهر تلك الكرامة و الشرف الشخصي  لا يرتبط  لديها ولدى المجتمع الغربي ككل  بالفهم الشرقي القائم على القراءة الجنسانية لمسألة الشرف الفردي حيث الشرف يحيل دائما  الى مفهوم العفاف والتأثيم البدني  تحديدا.   لقد سددت الأوروبية ثمن حريتها من دمها خلال الحروب الأهلية والثورات ففي ثورة كومونة باريس  في آذار سنة 1871  قاتلت حتى الموت عشرات الآلاف من النساء  . وفي ضوء هذا الثمن ، سنفهم سبب انتصاب قامة المرأة الأوروبية وطلاقة لسانها وصفاء ضحكتها  واعتدادها  بنفسها  وسنفهم في الوقت عينه سبب تقوس ظهر المرأة  الشرقية والتصاق عينيها الكسيرتين  بالأرض دائما ورعبها التقليدي وانتظارها للمنقذ والمخلص حتى إذا كان ذئبا بشريا سينهش لحمها في أول سانحة .

وبتذكر مأثرة تلك الفتاة الشجاعة القتيلة يتساءل المرء حقا : ترى كم جنرالا من ذوي الشوارب الكثة عندنا مستعد  للقتال " كلبوة شرسة " دفاعا عن كرامته الإنسانية وشرفه الشخصي  إذا ما حاول زعيمه  اغتصابه أي دفعه لإطلاق النار على شعبه ؟

 

المقالة الأسبوعية للكاتب نشرت في يومية الزمان يوم الثلاثاء 5/11/2002