الفيشاوي والحناوي.. أزمة مجتمع يفقأ عينيه بأصابعه



إكرام يوسف
2005 / 5 / 22

ربما لكوني غير معنية كثيرا بأخبار أهل الفن هذه الأيام، مررت مرور الكرام قبل شهور على خبر يفيد أن فتاة ما اتهمت ممثلا شابا، ابن فنان وفنانة مشهورين بالتهرب منها وسرقة ورقة زواجهما العرفي بعدما أثمرت علاقتهما جنينيا يتحرك في أحشائها.. لم أقرأ تفاصيل الخبر ولم أهتم، حتى التقيت صدفة ـ في مقر عملي ـ الدكتور حمدي الحناوي، والد هند بطلة القصة أو إذا شئنا الدقة "الفضيحة" التي شغلت الرأي العام العربي شهورا عديدة..
كان الرجل في زيارة لزميل قدمه لي:" الدكتور حمدي الحناوي، والد هند صاحبة القضية مع أحمد الفيشاوي".. ولأنني لم أكن أعرف تفاصيل الأمر في حين لاحظت من ملامح زميلي وضيفه أنه من المفترض أنني أعرفها، فقد شعرت بحرج شديد وأنا اسلم على الرجل متمتمة كلمات ليس لها معنى، و استأذنت متعللة بشأن من شئون العمل.
وبعد انصراف الرجل عاتبت زميلي قائلة: "تحدثني كما لو كنت أعرف القضية.. وما الذي كان ينتظر مني أن أقوله للرجل الذي عرفت بعد ذلك قصة ابنته؟" وتابعت بابتسامة خبيثة: "هل أقول له مثلا تشرفت بمعرفتك؟ أو.. ألف مبروك المولودة؟ أو .. برافو عليك وعلى بنتك؟".. لكنني بعد أن عرفت القصة وتمعنت فيها جيدا ندمت كثيرا على موقفي الظالم، الذي انسقت فيه لرؤية سائدة في مجتمعنا تتشدق كثيرا بالكلام عن الأخلاق والفضيلة، وتهاجم الخارجين عن الأعراف السائدة، لكنها تكيل في هذا الهجوم بمكيالين، مكيال رحيم ومتفهم وحنون وغفور عندما يتعلق الأمر بخطأ الرجل.. والآخر شرس ومتنمر وبالغ الضراوة عند حساب المرأة المخطئة.. ثم نتشدق بعد ذلك بالشرع والدين، رغم أن الشرع لم يضع حدودا تطبق على الرجل وأخرى على المرأة إذا ارتكبا نفس الذنب. وتعالوا معا نرى الأمور بهدوء، لنستخلص منها فهما أكبر لما نمارسه في حياتنا دون وعي:
أحمد الفيشاوي شاب مثل ملايين من أبنائنا
هند الحناوي فتاة مثل ملايين من بناتنا
لكن دعونا ننظر في موقف المجتمع العربي ـ عموما ـ من هذه القضية التي بات الجميع يعرف تفاصيلها:
أولا: ذكرت هند (وجدير بالذكر إنها لم تتراجع حتى الآن عن كل ما قالته من قبل بينما يثير التناقض في كلام الفنان الشاب شكوكا حول صدق روايته) أن أسرة الفيشاوي حاولت إقناعها بإجهاض نفسها هربا من الفضيحة خاصة وهم يعلمون أن الفتاة ليس معها عقد الزواج الذي تقول إن أحمد خدعها وأخذها معه عندما رفضت إجهاض نفسها وطالبته بإعلان الزواج.
ثانيا: اعتمدت أسرة الفيشاوي على علاقاتها بعدد من الإعلاميين ـ للأسف ـ بأمل إرهاب أهل الفتاة بالفضيحة وعمل دعاية للفنان الشاب الذي بدأ يشق طريقه، دون أن يدفع أي ثمن لفعلته اعتمادا على عدم وجود عقد الزواج وعلى تعاطف الناس مع فنان شاب.
ثالثا: ظلت أسرة الفيشاوي تعزف على نغمة أن ابنهم شاب ملتزم (كما لو كان معصوما من الخطأ) ولا يمكن أن يفعل شيئا كهذا، حتى أن الشاب نفسه أنكر في تحقيقات النيابة وفي أحاديثه الصحفية ـ في بداية المشكلة ـ أي علاقة له بالفتاة على الإطلاق!! وأنه لا يعرفها أصلا إلا كعلاقة عمل، لدرجة أن النيابة حفظت الشكوى الأولى التي تقدمت بها الفتاة وأسرتها.
رابعا: رفض الفيشاوي الرضوخ لطلب أهل الفتاة بإجراء تحليل الحمض النووي لإثبات النسب، ثم جاء قرار المحكمة الذي أجبره على إجراء التحليل، فلجأ الفيشاوي الأب إلى أصدقائه الإعلاميين لإجراء مقابلة مع الابن يبحث له عن مخرج قبل ظهور نتيجة التحليل، اعترف فيها بأنه "أخطا" لكنه لم يتزوج!!!!! ويعلق أبوه وأمه ، ووراءهم كثيرون "كلنا بنغلط"!!!
إلى هذا الحد يفقد الناس ضمائرهم.. في سبيل العند وتحقيق الانتصار على أسرة رفضت الرضوخ لإرهابهم يرضى الشاب أن يتهم نفسه بالزنا حتى يعاقب الفتاة التي لم ترضخ لتهديده، بل أنه وبجرأة شديدة يقول "لم أتزوجها ولم أقل لها حتى أنني أحبها" اعتمادا على أن مجتمعنا يغفر بسهولة زلات الرجال، وأقصى ما سيقال "شاب وأخطأ ثم اعترف بذنبه ربنا يتوب عليه"، أما الفتاة فستظل تحمل عارها طوال العمر.. وينسيهم العناد أنهم قبلوا أن يرموا "لحمهم" المجسد في المولودة الطفلة التي ليس لها ذنب!!

مفهوم الستر
لقد اضطر أهل الفتاة المكلومون ، رغم ما أصابهم من ألم، وصدمة زلزلت مكانتهم الاجتماعية إلى الوقوف إلى جانب ابنتهم، ورفضوا إجراء الإجهاض (لاحظوا أن سمية الألفي في سياق هجومها على أسرة الفتاة قالت:"لو كانت ابنتي كنت أجهضتها غصب عنها، وإن كانت صحتها لا تسمح كنت سأخفيها في مكان إلى أن تضع مولودها ثم أستعطف واحد من أهلي الغلابة لينسب إليه الطفلة"!! هكذا؟؟عندهم الحل جاهز وهو نسبة الطفلة إلى غير والدها لمجرد أن ينجو ابنهم بفعلته ويتفرغ لنجوميته).
كان موقف أسرة الفتاة حرجا، فثقافتهم ومبادئهم لا تقبل أن يقتلوا الفتاة غسلا لعار كما في الجاهلية، ولا إجهاضها والتدليس على المجتمع بنسبة الطفلة إلى غير أبيها، ولم يكن أمامهم إلا ابتلاع المرارة والوقوف إلى جانب حق ابنتهم حتى لا يتركونها تسقط أكثر من ذلك.فماذا كان موقف بعض فئات المجتمع؟؟
أولا: صدق البعض ادعاءات الشاب من بداية الأمر واعتبروا أن هند الحناوي تريد الشهرة على حسابه وتفرض نفسها عليه (رغم أنها من أسرة لا أعتقد أنها تقل مكانة عن أسرة الفيشاوي ـ ولن أزيد! ـ وكان يمكنها أن تتزوج مثلا أحد أساتذة الجامعة من وسط أبيها وأمها).. و السبب في ذلك هو المظهر الذي ظهر به الفنان الشاب كشخص ملتزم، حتى أن البعض اعتبر هذه القضية كلها مفبركة في إطار مؤامرة تهدف لتشويه الشباب المسلم
ثانيا: حتى بعد اعتراف الشاب "بفعلته" يحاول البعض التماس العذر له ، فالبعض يقول" جل من لا يخطئ".."وفيها إيه أي شاب معرض للخطأ".. "طالما أقر بذنبه فسيغفر الله له" .. ناسين أن الإقرار بالذنب جاء بعد أن حاصرته المحكمة بقرار تحليل الحمض النووي.. ومتجاهلين أن من يخطئ عليه إصلاح خطئه أيضا.
ثالثا: استمر الهجوم على الفتاة وأسرتها بسبب جرأتهم في مواجهة الأمر باعتبار أنهم لم يستروا ابنتهم.. فما هو شكل الستر؟؟ هل هو قتلها؟؟هل هو الإجهاض؟؟ هل هو نسبة الطفلة إلى غير أبيها؟؟ أو طرد الفتاة من بيت أبيها لتواصل طريق الرذيلة والانحدار؟؟
ولم يقل أحد بشأن الفتاة "جل من لا يخطئ".. أو "أنها أقرت بذنبها قبله وتحملت وحدها مسئولية هذا الخطا".
ثالثا: المفزع في الأمر تورط بعض من يسمون أنفسهم رجال دين في هذه القضية، وتطوع أحدهم بنصح الفتاة بإجهاض نفسها على أن تصوم هي ووالد الجنين 60 يوما، وتتصدق بقيمة ما يوازي عشرة إبل، ثم اختلاف العلماء في الموقف من نسب الطفلة، فمنهم من يقول بنسب الطفلة لأبيها الذي يثبته تحليل الحامض النووي، ومنهم من يقول "ابن الزنا لاينسب"، وهو أمر خطير معناه ببساطة أن يستطيع أي شاب يخدع فتاة وتحمل منه أن يفلت بفعلته، ولا يتحمل مسئولية، مما يدعوه إلى تكرار الجريمة طالما لن يدفع الثمن، كما أن نتيجته ببساطه هي اختلاط الأنساب.
كنا نعتبر في وزمن مضى أن الرجولة والشهامة تدفعان الشاب الذي أخطأ مع فتاة إلى "إصلاح الخطأ" بالمسارعة بإعلان زواجه منها ونسب الطفل إليه، فتحول الأمر الآن إلى خداع الفتاة باسم الزواج العرفي، ثم سرقة الورقة منها اعتمادا على أن المجتمع لن يرحمها وحدها وأن الشاب سيفلت بفعلته.
موقف حضاري
ولقد احترمت موقف أهل هند الذين قرروا أن يواجهوا الموقف بشجاعة ويتحملوا المسئولية إلى جانب ابنتهم. وهم بلا شك غاضبون من زواجها دون علمهم وخروجا على أعراف المجتمع، لكن الخطأ وقع بالفعل، وليس بالإمكان إعادة عقارب الزمن للوراء لنصحها ومنعها من الوقوع في الخطأ، المتاح الآن خياران: إما التخلي عنها والتبرؤ منها نفاقا للمجتمع وحفاظا على مكانة الأبوين الأستاذين الجامعيين وتركها تواصل السقوط.. أو احتضانها وفتح سبل إصلاح النفس أمامها ومحاولة الحصول على حق الطفلة الوليدة في نسبها، وعدم الاستجابة لإرهاب "الفيشاوية" وأصدقائهم من الإعلاميين.
ولعلي هنا أقارن بين موقف هذه الأسرة وبين موقف أسرة أخرى نشرته صحيفة الرأي العام الكويتية في مارس الماضي، عن كويتي تبرأ من ابنته القاصر البالغة من العمر 17 عاما يعد أن غابت عن منزله لمدة شهر قبل أن تسلم نفسها لقسم الشرطة، وتعترف إنها خرجت في بداية الأمر مع صديقها القديم الذي تعرفه من فترة طويلة إلى شقة، ثم خشيت من عقاب أهلها لو عادت لهم وبعد أن أقامت علاقات متعددة مع 13 شابا، سلمت نفسها ، فما كان من أبيها، إلا أن ذهب إلى بيته وأحضر ملابس ابنته وسلمها للشرطة وقال لهم أنه تبرأ منها!!!. وهكذا أراح رأسه من مغبة تحمل مسئولية ابنته القاصر التي لابد أنه يشترك معها في الخطأ نتيجة تقصير في التربية. وهو يعتقد بهذا أنه يحافظ على مكانته الاجتماعية، ناسيا أنه يرمي بفلذة لتواصل طريق الرزيلة.
كما أقارن موقف أسرة الحناوي وبين ما نشرته صحيفة "الشرق الأوسط" قبل نحو شهر،عن إحجام الفتيات المدخنات في السعودية عن اللجوء لعيادات لجمعية الخيرية لمكافحة التدخين، طلبا للعلاج، خشية افتضاح أمرهن أمام الأهل والأقارب، مما يعرضهن لعقاب أقسى وربما تبرؤ الأهل أيضا.
فلو كانت أي من هذه الفتيات تدرك أنها ستجد في بيتها حضن أم حانية وأب متفاهم ، لسارعت باللجوء إلى أسرتها بعد وقوعها في الخطأ لمساعدتها على تجاوز المحنة ، ولما دفعها الخوف من الإرهاب الأسري للتمادي في الخطأ، ولتجنبت مجتمعاتنا رزايا كثيرة.