الحب الحر والنسوية



كمال الدين
2013 / 10 / 1

خلال فترة المراهقة التي تبلغ ذروتها بين سنين السادسة عشر والثامنة عشر، تجد كثير من الفتيات منخرطات في علاقات تبدو للوهلة الأولى غير مبررة. كأن ترتبط الفتاة عاطفيا برجل يكبرها بعقود، أو شاب متزوج أو خاطب. بغض النظر عن ميول كل فتاة في هذا السن على حدة، ودرجتها الاجتماعية، تسيطر عليهن تلك الظاهرة مسببة لهن مشكلات قد تدوم لأعوام. تلك الظاهرة تبدو حلولها بسيطة، وتتمتع تلك الحلول بمنطقية متناهية، لكنها غير فعالة، أو بالأحرى ليست لها مكان على أرض الواقع. وهنا -تلقائيا- تبرز مفارقة المنطق. ويؤكد ذلك أن المنطق فرضي يفتقر للمدلول الواقعي. وعلى الرغم من أن هذا يعد فرصة مناسبة لمهاجمة المنطق، إلا أنه لا يقع على عاتقي سوى إرجائه إلى حين.

في العام 1929، بعثت أمريكا سكارفو، الأرجنتينية ذات الستة عشر ربيعا، برسالة إلى إيميل أرماند. كانت أمريكا سكارفو أناركية تؤمن "بحرية الفعل، التفكير، والحب للجميع"؛ وعلى قولها “أريد الأناركية لكل البشرية”. كانت أمريكا سكارفو واقعة في حب شاب يكبرها بعشرة أعوام، متزوج ومنجب. لم يكن ذلك الشاب سوى سيفيرنو دي جيوفاني. تعرضت أمريكا سكارفو وسيفيرنو دي جيوفاني إلى انتقادات لاذعة من الرفاق، ووضع أمام علاقتهما عوائق أدت إلى أزمة عند أمريكا حملتها على مخاصمة حبيبها، وأخبرته أنها تعزم على إنهاء العلاقة. لكن كما في كثير من خلافات العشاق، أنهى لقاء تالٍ كل هذه المشاكل وأعاد العلاقة بينهما أقوى مما سبق. وجاءت رسالة أمريكا سكارفو لإيميل أرماند بعد عودتها لسيفيرنو دي جيوفاني. وكانت بمعنى من المعاني تهدف لجعل تلك المشاعر، التي أبقوها حتى تلك اللحظة فيما بينهما، معروفة للآخرين. وأبلغها إيميل أرماند في رده عليها: “أيتها الرفيقة… إذا كنت تشعرين أنك منسجمة، تجاهلي إذن تعليقات وإهانات الآخرين، وواصلي مشوارك الخاص.” كانت زوجة سيفيرنو دي جيوفاني على علم بعلاقة زوجها مع أمريكا سكارفو، وتعرف جيدا أن كل امرأة تربط حياتها بأناركي، أنه لا يجب عليها أن تمارس عليه، أو أن تقبل منه، أي نوع من أنواع الهيمنة*.

إذن، في إشكالية الحب الحر، قد تمثل أمريكا سكارفو الين، ويمثل سيفيرنو دي جيوفاني اليانغ، وهنا ينبغي لي على الأقل أن أتيه في رحلة البحث عن الطاو الذي يشملهما. خاصة أن تجربة أمريكا سكارفو لا تقتصر عليها وحدها، بل تشترك فيها مع كثيرات من عمرها. فهنا، بإمكاننا أن نعتبر أمريكا سكارفو تنوب عن كل التجارب الشبيهة بها، وكذلك الأمر بالنسبة لسيفيرنو دي جيوفاني.

في سنين المراهقة، يغلب علينا التشويش العقلي والخطأ في اتخاذ القرارات. وتختلط كل الأمور ببعضها البعض، كما الحال في المثلية الجنسية على سبيل المثال. فهنا من يتعرضون لاعتداءات جنسية في صغرهم، يعمل ذلك عمله في انجذابه لأبناء جنسه، أو الشيء الأكثر شيوعا، وهو استكشاف المسائل الجنسية مع آخر من نفس الجنس، خصيصا في مجتمع كمجتمعنا يعمل على كبت الرغبة الجنسية منذ نعومة أظافر أبنائه. هكذا، ومع الوقت وتكرار التجارب، تترسب فكرة قد تستحيل لميمة دخيلة، وهذه الميمة في الغالب ما تكون زائفة. أما المثلي الجنس فهو لا يتحول إلى المثلية، بل يولد كما هو. وبالمناسبة، أن يذهب المراهقون أو يُذهبوا إلى طبيب بسبب ميوله الجنسية التي تعتبر منحرفة من قبل المجتمع -سواء كان هذا الانحراف مثلية جنسية أو غير ذلك- قد تفيض استشارة الطبيب، الذي يكون في الغالب غير ملم بهذه الأشياء، ومعاد للمثلية الجنسية والفعال الجنسية التي تضاد تقاليد المجتمع أو العرف أو الدين من وجهة نظره، بنتائج عكسية تماما قد تدفع المريض المزعوم إلى الانتحار. وكذا يمارس الطبيب سيطرته المطلقة على المريض، الذي -وإن لم يكن مريضا من الأساس- عليه أن يخضع تماما دون إذعان لذلك الطبيب. لأن من الترسبات النظامية أن كل فرد -دائما وأبدا- في حاجة إلى خبير في كل المجالات. كما أن علاج -وليس بالمعنى الحرفي- الالتباس الجنسياني لا يتم إلا عن طريق الممارسة الفعلية للجنس.

وكما بدأنا، هناك بعض الظواهر المشتركة بين النساء، تمنح -دون إرادة حرة- الرجل سببا مشروعا لاسغلالهن عاطفيا وجنسيا. وعلى هذا الأساس تصاب النساء بعقدة من الرجال، وتسبب لهن تلك العقدة نفورا من الجنس الآخر برمته. ومن الممكن أن يتطور هذا النفور ليصبح عداء صارخا، دون مراعاة لأية فروق ثقافية أو أدبية، التي تتفاوت بالطبع، من رجل لآخر. فإذا أقرينا بأن “وراء كل رجل عظيم امرأة،” فعلينا إقرار أن “وراء كل عاهرة رجل.” إذ إن استغلال الرجال لمشاعر المرأة أو جسدها أو الاثنين معا، يسبب تعاسة سوداوية لا يظهر من خلالها غير وميض ضوء الموت الذي سوف يضع حلا أخيرا لكل تلك المعاناة.

وعلى الجانب الآخر، يكون أثر تلك الحالات على الرجل التباسا وتشويشا من نوع آخر. فيشعر أن النساء كائنات عجيبة غير قابلة للفهم، ولو أن ذلك قد يكون صحيحا من جهة. وكذلك الأمر بالنسبة للمرأة التي ترى الرجل كان شيطاني غير مفهوم، يسعى وراء الأعضاء التناسلية وكأنه امتلك منخار كلب صياد. كل ذلك يغذي في أغلب الرجال نواة الذكورية المستقرة في أغوارهم. ومن هنا يتصاعد ويتكثف دخان التصادم بين الجنسين في مجتمع لا يحسن التفكير كمجتمعنا. وعن ذلك الصراع تتمخض ميمات ذكورية تعزز من الفكر الذكوري أن الرجل مركز الكون، وميمات أنثوية (نسوية) تقر بمركزية المرأة للكون. وهذان الشيئان يعدان صورة من صور التطرف والجنون. ومن ثم إذن تنطلق أبواق وتدق طبول الحرب الشعواء بين صراع الأضداد، ويُحشر الفكر في الجزئيات، والجزئيات أم الصراعات. وتلك الحرب الشعواء تقودها مجموعة من المشاعر السلبية كالحقد والكره، وتحركها ذرائع الانتقام والعداء.

وعلى أية حال، لن يكون في مقدور أحد منا رمي اللوم كله على كاهلي المرأة، والرجل في أي وضع كان لا يمكن اعتباره مظلوما، ما خلا حالات نادرة تكاج تكون غير ملحوظة. وهذا ليس تطرفا، إنه فقط رسم للواقع. ومن الممكن أن يستمع أي ناقم على هذه الكلمات لقصص النساء اللائي تعرضن للخداع من الرجال، وليركز جيدا على نظرة تلك الفتيات -قبل الخداع وبعده- لا للرجل وحسب، بل للحياة كلها. ولا أنصحه بالمفاجئة حين يدرك أن تلك النظرة تشاؤمية سوداوية.

وعلى الجانب الذكري، هناك أيضا ظواهر مشتركة بين أكثر الرجال، كاحتراف الكذب واختلاق الحكايات عن حقوق المرأة وحريتها. ويتم استغلال ذلك كساتر شرعي للوصول للمرأة. والرجال الذين هم هكذا -وهم يشكلون أغلبية الرجال- ينتهون في العادة بالزواج من امرأة تقليدية تنحصر حياتها بين جدران المنزل. أي أنه ببساطة، عندما يفكر في الزواج، فإنه لا يبحث عن الحرائر، بل عن الإماء الذليلات.

وتلك الظواهر المشتركة بين الرجال يمكن ردها بطريق مباشرة للموروث الثقافي الذكوري (الميمات الذكورية). أما في حال النساء، فلا يتسنى لأحد إرجاع الأمر برمته للذكورية، وهنا مكمن الفجوة. فمثلا، أن تجد نسوية تستغل أنوثتها وقوتها الجنسية لإنجاز بعض المهام، ذلك يمكن رده للذكورية، لكن ليس بصورة مطلقة. هناك امرأة خاضعة مسبقا (أو حتى إن كانت نسوية) للفكر الذكوري، وترى أن استغلال الأنوثة مجون، واستغلال القوة الجنسية التي من الممكن أن تذهب بعقول كثير من الرجال صورة من الفجور، وبالتالي تعدل المرأة الحرة -في وجهة نظرها، وتكون محقة في هذا القول- عن اللجوء إلى مثل تلك الأساليب. ونسبة النساء اللائي يرفضن استغلال المنافع الذكورية قد تتساوى مع نسبة الرجال الذين ينأون عن استغلال المرأة. وللأسف، هؤلاء وهاتيك، قليلون جدا.

لو اتفقنا مع كل ما سبق، فسوف نستطيع أن نرى أن الذكورية تتحكم في أغلب الرجال، خاصة أولئك الذين يزعمون التحرر ومساندة المرأة للحصول على حقوقها وحريتها الكاملتين. أما المرأة، نعم، تحتلها الذكورية دون إرادة وفي الأغلب دون إدراك منها، لكن ليس في كل الحاجات. أقول أن الأمر في هذه الجزئية أشبه بتجربة كالهون مع الفئران. فانتشار الفئران وتكدسهم في قطعة أرض لم تعد تكفيهم (الزيادة السكانية) تفسر العنف والقتل خاصة للأطفال، لكنها بأي حال من الأحوال لا تعطي تبريرا مناسبا عن شيوع العلاقات الجنسية غير المنتجة. ولنكتفي حتى الآن، بهذا القدر.

_______________________
*رسالة من أمريكا سكارفو إلى إيميل أرماند – مازن كم الماز