من سفر الإنسان - المرأة



نضال الربضي
2013 / 11 / 25

من سفر الإنسان - المرأة

اليوم هو الخامس و العشرون من نوفمبر، و هو اليوم الدولي المُعين للتذكير بضرورة إنهاء العنف ضد النساء في العالم، و هو يوم ٌ للتذكير شأنه شأن أيام كثيرة للتذكير بالعمل و الشجرة و الأم و جرائم الحرب و السرطان و سائر ما يجب أن يتذكره بنو البشر. و سيمضي كأي يوم ٍ آخر من الأيام التي ينطلق فيها الناس لأعمالهم في الصباح ثم يعودون إلى بيوتهم في المساء، لا جديد تحت القبة الزرقاء، تحت سماء "أبو عيسى" كما نسميها نحن المسيحيون من باب التحبب لله و لابنه.

المرأة، من هي؟

قبل حوالي أربعمئة ألف عام، كانت قطعان البشرية الأوائل Homo Erectus قد تعلمت استخدام النار و التحكم بها، و يتخذ الباحثون من هذا سببا ً لتطور الدماغ البشري حيث أن طبخ الطعام و الكربوهيدرات المعقدة و بالتالي جعلها أكثر قابلية للهضم قد أتاح للبشر الاستفادة منها إيجابيا ً لامتصاصها مؤدية ً إلى خصائص أكثر "بشرية ً"، مثل تكبير حجم الدماغ، و الدفع باتجاه تصغير حجم الأسنان لأن الطعام الأسهل تناولا ً لا يتطلب وحشية ً و ضخامة ً فيها، بالإضافة إلى صفات أخرى.

القطيع البشري الأول كان يتجه نحو التحول إلى "مجموعة" أكثر منه قطيعا ً، و كان الرجال يخرجون للصيد ربما بعض يوم و ربما أياما ً لكنهم يعودون بعدها إلى مخيم المجموعة. كان المخيم بحدوده الجغرافية الصغيرة يتوسطه "البيت" و هو ربما كهف ٌ يضم المجموعة في الليل، و هذا هو مفتاح السر.

الإنسان الأول ارتاح إلى النهار و أحبه و مارس فيه نشاطاته، و انتظر الليل بخوف و قلق، يُراقب نزول القرص الشمسي بترقب ٍ كاره، يأوي إلى كهفه في الليل، لتبدأ كل يوم حلقة جديدة من مسلسل الخوف الدائم، حشرات ٌ زاحفة، أصوات ُ حيوانات مفترسه، طيور ليلية تضرب بجناحيها في الليل أمام كهفه، يسمع كل هذا فيرتعب و لا يفهم، يحاول التفسير فيُسعفه دماغه الصغير بتحليلات بدائية يرى فيها ربما تفسيرا ً و ربما دعوة ً لتحديد موقعه من كل ما يحدث.

يُطل القمر ُ كل يوم، ما هذا؟ من هو هذا الجبار الذي يجرؤ على تحدي الليل و حيواناته و قواه الخفية؟ و هو لا يتحدى فقط لكنه يهزم الليل لأنه ينيره، لا بد أن هذا القمر هو إلهة الليل، سيدة القوى الخفية، سيدة الحياة المُحتجبة و الحياة الظاهرة. هكذا نظر الإنسان الأول إلى القمر.

كان الرجل ينظر و المرأة تنظر، و بينما هو الصياد الخارج إلى الصيد في النهار هي المُلتقطة للأعشاب خارج المخيم المجربة لها، المُدركة لخواصها الغذائية، و العلاجية، و الروحية أيضا ً، فهذا كله للإنسان الأول كان واحدا ً مُتحدا ً لا انفصال فيه للروحي عن العلاجي عن الغذائي. كانت المرأة الأولى هي الطبيبة، و الكاهنة، و الساحرة الأولى. تخبرنا رسوم ٌ على جدران كهوف أن المرأة الأولى و السيدة الكبيرة بالذات تتمتع بمنصب زعامة المجموعة، و يظهر هذا واضحا ً من تصوير الرجال و هم يصيدون الحيوانات، بينما بجانبهم رسم ٌ للساحرة و هي تقوم بطقوس السحر التشاكلي (أي أن الشبيه ينتج الشبيه: التعريف مُقتبس من الدكتور سيد القمني)، المُدهش في الصورة أن الرجال أحجامهم في التصوير عادية بينما حجم الساحرة كبير بشكل مقصود وواضح، و فيه اعتراف بدورها كما يراها الراسم بعينه. الذكر الهائج العنيف كان يحتاج الغذاء و اللجم أيضا ً و لم يكن أفضل من أعشاب ٍ تحضرها المرأة ليشربها فتلجمه فيهدأ حين تريد له الهدوء أو ينفعل و يهلوس و يدخل في الطقس الروحي حين تريد له ذلك، فكان الرجل يفهم سيطرتها و يخضع لها، تُرى لماذا؟

القمر يجيب، فهذا الإنسان الذي كان يراقب القمر يعلم أنه يظهر كل 28 يوم، و قادته الملاحظة لربط 28 يوم ظهور القمر مع 28 يوم ظهور الدورة الشهرية عند المرأة، هذا النزيف الغريب للدم، الدم الذي هو الحياة، فالمرأة معطية الحياة حين يصدر من رحمها الدم، وتأخذ هذه الحياة من القمر نفسه الذي بدورة ِظهوره كل 28 يوم يعطيها هذه الحياة لتخرج منها واضحة ً إعلانية ً جلية ً تُظهر نفسها.

هذه المرأة نفسها تُدهش الرجل أكثر فأكثر، فبطنها ينتفخ بلا سبب معروف ثم تلد إنسانا ً، و تُرضعه من أثدائها طعاما ً حليبا ً أبيض مجهول، من هي هذه الإلهة التي يخرج منها دم الحياة ثم تأتي منها الحياة نفسها على صورة طفل ثم يخرج منها الغذاء أيضا ً، لا بد أنها تجسيد القمر نفسه. لهذا كان القمر عند الإنسان الأول مؤنثا ً لا مُذكرا ً كما هو الآن في تشويه آخر من تشويهات الذكورية.

لقد أدهشت المرأة الرجل و كانت بساطة عقله و عدم قدرته على ربط الجنس بالولادة - لأن مشاعية الجنس عندها كانت طبيعة العلاقة في المجموعة، بالإضافة إلى أن علاقة فترة ال 9 شهور حمل و فعل الجنس كانت تحتاج عقلا ً أكبر لإدراكها من عقل الإنسان الأول- عاملين يعيقان الرجل الأول عن تحديد دوره في الأحداث. فظلت المرأة للرجل تجسيدا ً للإلهة القمر قاهرة الليل مانحة الحياة، المُتحكمة بعواطفه و مشاعره و انفعالاته و هلوساته و روحانيته.

كان المجتمع البشري الأول أموميا ً خالصا ً لا ذكوريا ً و أتاح هذا للإنسان أن يتطور و يتقدم لأن الأنثى بغريزتها تلتصق بأبنائها فتعطي لكل واحد ٍ حاجته دون محاباة أو تفضيل، وواقعيتها مُرتبطة بالأرض و الطبيعة، و هي في سلطتها و زعامتها لا تميل للنزاع و الخصام، و تصرف جهدها في حفظ انسجام المجموعة دون اللجوء إلى المنافسة التي يتسم بها الذكر، و هي مُدافعة شرسة و مُحرضة فاعلة للذكر ضد الخطر سواء ً كان من المجموعة أو من خارجها، لا تتوانى في القضاء عليه لكي تستعيد المجموعة توازنها و هويتها.

رحلتنا اليوم تنتهي هنا، عندما انتهت الأمومية بسيطرة الذكر بعد الاستقرار و الزراعة و تكوين الدول، و بعدها لم نعد نعرف المرأة أبدا ً، كل ما نعرفه عنها الآن أنها جميلة الشكل، ناعمة الملمس، مُمتعه في الجنس، تنجب الأطفال، و مطمع للذكور. نقطة.

العنف ضد المرأة بدأ قبل عشرة آلاف عام، و هو مستمر:

- المرأة وسيلة الترويج الأولى في الإعلانات. بدأت كاهنة القبيلة و تجسيدا ً لألوهية القمر و الأم الأرض فأصبحت الآن أراجوزا ً مطليا ً بألوان ناعم الصوت يروج للمنتجات.
- المرأة وسيلة القهر الأولى لكرامة المجتمع فهي ضحية الحرب الأولى، لأن اغتصابها هو سلاح الردع الأول للخصم.
- المرأة وسيلة الترفيه الأولى في العالم. بدأت مُعطية الحياة من دم الرحم تُخرجه منها، فانتهت إلى ممثلة أفلام البورنو تلتهم سوائل الرجال التي تخرج منهم و يقذفونه عليها.
- المرأة السبب الأول لتعاظم ثروات الرجال، فهي العاملة بأجور زهيدة (في المصانع) و الموظفة بأقل من نُظرائها الرجال. بدأت موزعة الثروة البسيطة للتجمع البشري و انتهت أداة إنتاج لا روح لها.
- أما عندنا نحن العرب، فهي كل شئ ما عدا المرأة، اختزلناها في قطعة قماش و لفظ عورة.

متى سينتهي العنف ضد المرأة؟

لن ينتهي، لكن من واجبنا أن نربي أبناءنا على الإنسانية و احترام الإنسان و رؤية جوهره البشري و كرامته الإنسانية، و تنبيهه إلى أن النوع لا يحدد القيمة و لا يُبيح الاستغلال و لا يُعطي لأحد النوعين ميزة على الآخر و لا درجة و لا وصاية، و أن الإنسان إنسان باستحقاقات حريته و طبيعة تكوينه لا بنص كتاب مُنزل و لا بإقرار دين و لا بوحي من إله.


بدأت ُ بالمرأة و انتهيت ُ بالإنسان، أفضل من يمثل الإنسان هو المرأة، من أراد أن ينظر للإنسان، فلينظر للمرأة.

من كانت له أذنان للسمع، فليسمع!