الأنثى الداجنة



عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
2013 / 12 / 17

في البدء كان الإنسان يمارس الجنس بطبيعية تامة مثل بقية حيوانات البراري، خاصة الأقرب منه شبهاً كالقردة؛ كان يعيش إما في مجموعات صغيرة منعزلة من ذكور وإناث، أو في قطعان ضخمة تضم، بخلاف النوع، كل الفئات العمرية. في هذه الأزمان البعيدة، لم تكن الأسرة قد نشأت بعد. بالتالي، لم يكن الإنسان يعرف أي من روابط النسب مثل الجد والجدة، الأب والأم، الأخ والأخت، العم والعمة، الخال والخالة...الخ. كل ما كان هناك هو ذكر وأنثى، صغير وكبير، قوي وضعيف، فرد المجموعة أو القطيع والمتطفل أو الدخيل من منطقة نفوذ أخرى.

في ذلك الزمان البدائي كانت العلاقات الجنسية الإنسانية مشاع في المطلق، لا تحكمها أو تنظمها سوى موازين القوة النسبية فيما بين الذكور، تماماً كما لا يزال الحال قائماً وسط مجموعات وقطعان الحيوانات البرية إلى اليوم. طالما لم ينازعك على الأنثى ذكر أقوى منك، بوسعك أن تمارس الجنس في أي وقت تشاء ومع أي أنثى تشاء، حتى لو كانت سوف تكتسب لاحقاً أي من التسميات الاجتماعية "أم" أو "أخت" أو "عمة" أو "خالة" أو "جدة"... أو خلافه من ’المحارم‘.

ثم مع الزمن، الذي طال آلاف السنين بحسب علماء الأنثروبولوجيا، تعلم الإنسان كيف يزرع النباتات ويدجن الحيوانات البرية، ليستغني بذلك عن حياة التنقل والترحال من مكان لآخر بحثاً عن غذائه وصيده البري. عند هذه النقطة، حقق الإنسان نقلة حضارية أولية من ’حياة المشاع‘ البرية القائمة في كل شيء على الملكية العامة لجميع أفراد القطيع والحرية المطلقة التي لا تنظمها أو تحدها سوى موازين القوة النسبية فيما بين الأفراد والمجموعات إلى ’حياة التدجين‘ حيث بدأ الإنسان يعرف، لأول مرة في تاريخه، معنى أن يكون هذا الزرع ’زرعي‘ أنا، وهذه الأنثى ’زوجتي‘ أنا، وهذه الصغيرة ’ابنتي‘ أنا...الخ، وليس لأي أحد على الإطلاق أن يشاركني في ’ملكي‘ هذا أو يأخذ أي منه دون تراضي واتفاق مسبق. هكذا قد نشأت المصلحة الفردية، وولدت من رحمها بمرور الزمن بقية العلاقات الحضرية التي لا تزال في نشوء وتطور حتى اليوم.

في هذه النقلة الحضارية، وبحكم قوته العضلية النسبية، لم يدجن ذكر الإنسان الزرع والحيوان البري فقط- هو قد دجن أنثى الإنسان البرية أيضاً. في أدوارها المختلفة كابنة أو شقيقة أو زوجة أو حتى أم، قد تحولت الأنثى من حياة ’الملك المشاع‘ السابقة في البراري والغابات إلى حياة ’الملك الانفرادي‘ الاستحواذي والحصري في القرى ثم في المدن التقليدية فيما بعد. وقد نشأت وتطورت التقاليد والأعراف المجتمعية ثم المبادئ القانونية حول هذا الواقع الإنساني الحضري الجديد، لكي تحمي وتصون لكل رجل زرعه وحيوانه، وأرضه وبيته، وماله و’عرضه‘، وتؤمن له ولاية قانونية حاسمة على صغاره وإناثه. في أماكن كثيرة، على سبيل المثال، لا تزال الأنثى البالغة لا تستطيع أن تزوج نفسها أو أن تسافر بمفردها، أو توقع أي مستند قانوني، من دون موافقة ولي أمرها- الذكر. هكذا كانت ولا تزال تعيش ’المجتمعات التقليدية‘.

لكن في العصر الحديث، ولأول مرة منذ دجنها وتملكها الرجل وأخضعها لولايته القانونية مع الزرع والحيوان والأرض والبيت والأطفال الصغار، اكتسبت المرأة تدريجياً حقوقها الفطرية واحداً تلو الآخر، إلى أن أصبحت في الدول الديمقراطية المستقرة الآن على قدم المساواة التامة مع الرجل في كل شيء. في الدول التقليدية، الولاية القانونية شبه حكر على الرجل، بينما المرأة أقرب إلى مجرد ملك مثل سائر الممتلكات الأخرى. على العكس من ذلك، في الدول الديمقراطية الحديثة، المرأة تتمتع بأهلية وشخصية وولاية قانونية متساوية في كل شيء مع الرجل؛ بعد سن الرشد، لا ولاية قانونية على الإطلاق لذكر على أنثى، حتى لو كانت ابنته أو أخته أو زوجته أو أمه. للمرأة الراشدة، تماماً مثل الرجل الراشد، شخصية قانونية مستقلة تماماً، تفعل بها كل ما تشاء، في حدود هذه الشخصية.

في ممارسة الجنس كمثال توضيحي، في الحياة البرية كانت المرأة ’مفعولاً بها‘ بالمطلق، لا تملك من أمر جسدها وأعضائها الجنسية إزاء الرجل المتغلب أي شيء سوى أن تذعن وتسلم له نفسها من سكات. بينما في طور الحياة الحضرية التقليدية، تحولت المرأة إلى ’سلعة‘ مقننة قابلة للبيع والشراء، ويتبادل عليها الرجال فيما بينهم القوامة والولاية طبقاً لأعراف شفهية أو عقود مكتوبة. ثم، أخيراً، ظهرت المرأة المتحررة المعاصرة، ’الفاعلة‘، عكس المفعول بها الأولى، كيفما تشاء بجسدها وأعضائها الجنسية، من دون أي ولاية عليها من الرجل.

هكذا، تلخيصاً، قد شهدت أنثى الإنسان ثلاثة مراحل تطورية منذ وجدت فوق الأرض: (1) ’الأنثى المشاع‘، تلك المستباحة جنسياً لأي وكل ذكر قدر عليها، في أي وكل وقت شاء؛ (2) ’الأنثى الداجنة‘، تلك التي تكون ملكاً منفرداً لذكر معين، مشمولة بحرمة أهل بيته أو ’حريمه‘، وتضمن وتصون له الأعراف والقوانين السارية تلك الحرمة والملكية الحصرية، ولا يمكن أن تلمسها يد أي ذكر إنساني غريب من دون رضا وموافقة الذكر المالك، سواء في شكل شفهي مشهر أو عقد كتابي موثق؛ (3) ’الأنثى الحرة‘، وهي صاحبة الشخصية القانونية المستقلة التي، بعد بلوغ سن معينة، لا ولاية لأحد أياً ما كان عليها، سوى القانون الذي أعطاها تلك الشخصية أصلاً.

أين تقع الأنثى العربية من هذه الإناث الحضارية الثلاثة؟