شلباية ولميس، وكمان أم أيمن



عبد المجيد إسماعيل الشهاوي
2013 / 12 / 28

صورتها لا تزال حية في مخيلتي وهي تمشي حافية القدمين بصعوبة في وحل الشتاء تسحب حماراً مربوطاً بعربة كارو ذات أربع عجلات محملة بخضروات الكرنب والقرنبيط والخص والفجل والجرجير والكرات...الخ. صوت زوجها، عبد الله النصراوي، ممسكاً بكرباج يلسع به جلد الحمار المتعسر، يزعق فيها، وفي الحمار، بكل أصناف الشتائم والبذاءات اللفظية ومن حين لآخر يميل من شدة الغيظ بكرباجه عن ظهر الحمار لينهال به فوق جسد الزوجة أينما وقع. الحمار قد يقفز ويرفص ويجأر من شدة الألم وثقل العربة، لكن شلباية لم تكن تتذمر أبداً، وإذا تألمت كانت تكتم وجعها في نفسها وما كانت تنبس شفتاها بكلمة شكوى قط.

هي التي قد حرثت وغرست ورويت ثم اقتلعت الزرع كله، ثم حملته فوق رأسها في النهاية لتضعه على العربة حتى تذهب به إلى السوق. وكما يتربع الآن زوجها مستدفئاً بثيابه النظيف من فوق العربة ’في العلالي‘ بينما هي الموحلة وحدها مع الحمار في الطين من أولها إلى آخرها، كان أيضاً خلال جميع مراحل الزرع والقلع لا يزيد دوره عن مجرد الناظر صاحب الأمر والنهي وهو لابس حذائه وجوربه من على رأس الحقل دون أن يبلل أو يهين نفسه بالمشاركة في عمل شيء يذكر. وفي النهاية كانت النقود من بيع المحصول كاملة توضع بيد النصراوي لينفقها كيفما يشاء، وليس أمام شلباية إلا أن ترضى بالفتات الذي يرميه لها مغمساً بأشد عبارات المن والاستعلاء.

المرأة شلباية هي عمود الوطن مصر؛ هي التي، بشقائها وكدها وعرقها، تطعم وتسقي كل أبناء وبنات مصر. هي المدرسة التي تتخرج من تحت أيديها الزوجة والأم المصرية الأصيلة فيما بعد؛ وهي أيضاً التي ترسل الفتيان الأصحاء إلى معسكرات الأمن المركزي الموزعة على جميع المدن المصرية، خاصة القاهرة الكبرى. وهي التي تعول الجيش المصري نفسه، سواء من زرع يدها في الحقل أو من حمل بطنها من المجندين البواسل. مع ذلك، ورغم كونها تمثل الشريحة الأكبر على الإطلاق في المرأة المصرية، هي تبقى دائماً مهملة ومنسية. هي الجندي المجهول الحقيقي، لكن من دون نُصب. وهل سمع أحد أبداً عن شلباية؟!

على النقيض تماماً، ’لميس الحديدي‘ نار على علم، غنية عن كل تعريف. مع ذلك، هي لا تمثل سوى شريحة هزيلة وضئيلة للغاية، لا تكاد ترى بالعين المجردة، من المرأة المصرية. لكنها متعلمة تعليم عالي وغنية- لأنها عكس شلباية تستطيع أن تأخذ ثمن عملها وتعبها في جيبها ولا تتنازل عنه لزوجها- وتعيش تحت رفاهية وأضواء المدن الكبرى والعاصمة. إضافة إلى ذلك، هي أيضاً نافذة، مسنودة على عائلة ومعارف كبيرة واتصالات وشخصيات وجهات نافذة، وإلا ما كانت قد حققت كل هذه المكاسب التي قد عجزت عنها شلباية عبر حقول الريف المصري. الإعلامية اللامعة لميس الحديدي تمثل المرأة الحضرية ابنة النخبة ذات التعليم والتمكين العالي، المتصلة بمكتسبات الحضارة الغربية، المسلطة عليها معظم الأضواء والتي تتحدث باسم جميع النساء المصريات وتمثلهن في شتى المحافل. لميس الحديدي هي التي تتحدث باسم شلباية النصراوي وتمثلها على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية؛ في الوقت نفسه، لا لميس تعرف شلباية، ولا الأخيرة قد سمعت أبداً عن الأولى وكأن الاثنتان (الشريحتان) تعيشان في عالمين منفصلين- وقد يكون كذلك بالفعل.

أخيراً قد ظهرت في الصورة أم أيمن، أو عزة الجرف، ممثلة لبنات تيار الإسلام السياسي. إذا قلنا أن شلباية هي ابنة الأرياف والأحياء الشعبية المصرية، ولميس ابنة الحواضر والنخب ذات الصلة بالغرب، يمكن أيضاً القول مع شيء من الارتياح أن أم أيمن هي، بشكل أو بآخر، ابنة الأموال النفطية والثقافة الخليجية التي بدأت تتدفق على مصر وتحقق نمواً وانتشاراً مطرداً هناك منذ الطفرة النفطية أوائل السبعينات، لدرجة أنها قد أصبحت الآن تعد منافساً شرساً للميس على مكانة النخبة الممثلة الشرعية لبقية المصريات.

لكن رغم الصراع المستميت فيما بين لميس وأم أيمن على تمثيل شلباية، تبقى الحقيقة واضحة ومؤلمة أن شلباية لا تعرف، ولا حتى يهمها أن تعرف، شيئاً عن هذه أو تلك لأنها، ببساطة، مهمومة أكثر بصراعها مع أعباء الحياة اليومية وتدبير قوت منزلها وعيالها، بعدما تركتها الدولة- تماماً مثل عبد الله النصراوي- تدبر حالها وتلاقي مصيرها وحدها دون سند من ضمان اجتماعي أو رعاية صحية أو فرص عمل حقيقية أو عدالة اجتماعية مع الرجل المستغل لثمرة شقائها.