إمامة النساء- بين صراع السيوسيولوجيا واللاهوت



أحمد أشقر
2005 / 6 / 19

* هل يعقل أن امرأة فعلا، لم تؤم الرجال مرّة واحدة بتاريخ الإسلام المديد؟ المنطق السليم، يقول: لا يعقل بتاتا.. فأبحاث ودراسات الدكتورة سعاد الوحيدي، المتخصصة بالإسلام الصيني، تؤكد "إن المسلمات الصينيات يمارسن الإمامة على قدم المساواة مع إخوانهم المسلمين". وعندما استزدت الأمر من الدكتورة سعاد، عادت وأكدت لي ما نـُقل عنها، وأضافت: "بل هناك جامعة خاصة لتخريج المرأة الإمام، ككل الجامعات العلمية في العالم"*
من نافل القول والتأكيد على: إن الفكر الإنساني بصيرورة وجدلية مستمرتين، لأنه انبثاق عن التغيّر السوسيو- بوليتي للواقع المُعاش، يعكسه كالمرآة، أحيانا، ويقوده أحايينَ أخرى. وعليه، فقد ناقش هذا الفكر، أفكارا لا تحصى ولا تعد في المواضيع والقضايا المختلفة. ليس هذا فقط، فقد اختلف أكثر مما اتفق حول المناهج والأساليب المستخدمة في جدله، واختلف أيضا حول المقولات التي انطلق منها، والنتائج التي توصل إليها. وبما أن الفكر الديني، الذي ورث الخرافة والأساطير، يعتبر أقدم الأفكار الحيّة، فإنه يكون في مقدمة كل صراع/ نقاش/ جدل فكري، خاصة بين الأمم والشعوب التي لم تقل، بعد، كلمتها الأخيرة في قضايا العلاقات بين "الغيب" و"الشهادة". أي أنها لم تتم بعد مشروعها العلماني الأولي: فصل "الغيب" عن "الشهادة"، والعام عن الخاص، والدين عن الدولة. ولن تصبح الصيرورة العلمانية واقعية وعاقلة، إلا إذا اشتبكت جميع مكونات المجتمع: الاجتماعية والسياسية والفكرية، في صراع وجدل يحددان هذه العلاقة، وصيرورة المجتمع اللاحقة.
نشأت المنظومات الفكرية المختلفة بفعل الواقع المعاش، وكذلك الأديان. وما خطابها، في الأصل، إلا خطاب علماني بامتياز.. انه يحاكي الواقع/ "الشهادة". وما "الغيب" إلا صنيعة عجز الفكر المنبثق عن الواقع/ "الشهادة"، واغترابه عن واقعه- بتعبير فويرباخ (1804- 1872)، الذي بشّر قائلا: إله الإنسانية الوحيد، هو الإنسان.
نَظَم الواقعُ/ "الشهادة" الأديانَ وأفكارَها ومعارفها المختلفة في الكتب "المقدسة"/ "الغيب". فـ"قداستها" لم تكن سوى تعبيرٍ عن عدم قدرته إنتاج نفسه بواقعية وعقلانية متناهيتين. أي أن "قداسة الغيب" تنبع من عجز "واقع الشهادة". ولم يتوقف الفكر المنبثق عن "واقع الشهادة" عند هذا الحدّ، فاستمر بمحاولة جعل "قداسة الغيب" واقعية وعقلانية. فاستدعى الأنبياء، كي يكونوا وسطاء ومفسرين للعلاقة بين "واقع الشهادة" و"قداسة الغيب".. واستدعى التفاسير المختلفة لنفس الغرض، والتي هي علمانية (أيضا)، لأنها تحاكي "الغيب" بلغة "الشهادة".. واستدعى الطوائف والمذاهب.. والقياس.. والإجماع.. والاجتهاد.. والتأويل، الذي يعتبر العقل المفسّر الأعلى في أمور الدين، لنفس الغرض. هذا ينطبق على كافة الأديان، "الطوائف"، بحسب كانط (1724- 1804) دون استثناء. إنها محاولة لحوحة لتفاهم "الشهادة والغيب".. ولا تزال مستمرة بأكثر من منهج وأسلوب، وأكثر من منظومة معرفية.

*عن "إنشغال الأديان بالنساء"*يشكّل الانشغال بالنساء متعة خاصة، لدى الأديان المختلفة وأتباعها، لأسباب عدة: أولها- لأن النساء شقائق الرجال وينافسنهم في الحياة العاطفية، وثانيها- لأن صورة المرأة الأسطورية (الأفعى والإغواء) تسربت إلى اليهومسيحية، والإسلام بحسب الغزالي (1059- 1111)، وما اشد عشق الأديان للنساء الخاطئات والغواني. وثالثها- ولأن النساء يحاولن بكل ما أوتين من قوّة لأن يتحولن شريكات بإنتاج خطاب محاكاة "واقع الشهادة" و"قداسة الغيب". وإذا استعرنا من المعجم السوسيولوجي، نقول: إن النساء يحاولن الاشتراك بإنتاج الثروات المادية والروحية والفكرية، وتوزيعها مجددا، توزيعا أكثر إنصافا لهن. لذا، وعندما تطرح أية قضية تتعلق بالنساء، يخرج الدين عن عقلانيته- إنه عقلاني أصلاً- ويحشر نفسه في إحدى زوايا الخدر، بحالة مثيرة جدًا من حالات العُصَاب! متناسيًا القضية التي يتعامل معها. وبدلا من استعمال المناهج والأدوات والخطابات العقلانية، يستخدم خطاب الأساطير ومجهولات الثقافة: أصل الخطيئة، الشياطين والجان، الجنة والنار، العفة والطهارة، والنمص والإستحداد.. وما إلى ذلك من استعارات ومقولات، تغدر بـ"واقع الشهادة"، أحيانا، وتنتصر لـ"قداسة الغيب"، أحايين أخرى. إنها صراع، فيه من يربح جولة.. وفيه من يخسر أخرى..
بسبب اتساع دائرة المعارف الدينية وعمقها (إنها الأوسع والأعمق!)، يمكن اعتبار (الخطاب) الديني مجموعة لا حصر لها من الخطابات. تتحاور وتتجادل وتتصارع وفقًا لمصالح سوسيولوجية- فكرية مختلفة، هذا لا يعني صواب خطاب، وخطأ آخر في المستويين الفقهي والشرعي. وللحكم على الصواب توجب الاحتكام إلى العقل البرهاني- كما يقول ابن رشد (1129- 1198).
تُؤسِّسُ الأديانُ، بواسطة كتبها "المقدسة"، خطابَ التعامل بين أفراد وقطاعات ومكونات المجتمع [المجتمعات] في أكثر من مستوى. فهنالك: الإنسان والإنسانية (لدى جميع الأديان)، اليهود والـ goyem (في العهد القديم)، المسيحيون واليهود والأمم (في العهد الجديد)، والمسلمون والمؤمنون والمشركون والكفار (في القرآن). ويتواجد العبيد والإماء أيضا. هذا التقسيم، عادة ما يكون بعيدا عن أعين الرقيب من أتباع الديانات الأخرى. وعندما يحضر الرقيب، تُخْتَزَل هذه التقسيمات إلى الإنسان والإنسانية. وعلى ما يبدو هذا هو الأصل. وفي هذه التقسيمات توجد مستويات أخرى من النساء: النبيات (في العهدين القديم والجديد) وزوجات الأنبياء والمؤمنات والصالحات والضالات والزانيات (في العهدين والقرآن). ويتفق العهد الجديد والقرآن على اعتبار مريم العذراء/ ابنة عمران أعلى مرتبة بين نساء "العالمين". أي- وبما أن قضيتنا نسائية- تضع الأديان النساء ضمن مراتبية إيمانية- اجتماعية مختلفة. لن ننسى: إن الأديان جميعها، بدون استثناء، فضلت مؤمنيها على المؤمنين الآخرين، ونساءها على نساء الآخرين.
وبما أننا بصدد التعامل مع قضية إسلامية، لا بد من العودة واللجوء إلى أصل الفروع كلها، القرآن. فقد تحدث القرآن عن الإنسان والإنسانية جمعاء، لها حق العيش بكرامة، بدليل قوله: "إنا كرمنا بني آدم". وتحدث (أيضا) عن المؤمنين به من يهود ونصارى، وعن الكافرين.. وبطبيعة الحال، فقد فضّل المسلمين على غيرهم من المؤمنين بالديانات الأخرى (وبالطبع الكفار والمشركين). ومنح الرجال حقوقًا اجتماعية (والتأكيد على: اجتماعية) أكثر من النساء. فهذه المعادلات، لا يمكن فهمها- والتأكيد على فهمها- دون العودة إلى الواقع المُعاش الذي نشأ فيه الإسلام، والعودة إلى "أسباب النزول"، والتفاسير المختلفة في سياق صيرورتها السوسيو- تاريخية. وما التفاسير- وكما أشرت- إلا محاكاةً لـ"قداسة الغيب" بلغة "واقع الشهادة". لذا لا بد من ترديد ما قاله الإمام علي بن أبي طالب: القرآن حمّال أوجه، ويقرأ القرآن على سبعين وجه. لقد أدرك الإمام، "باب مدينة العلم"- كما جاء في الأثر- صيرورة "قداسة الغيب" في "واقع الشهادة". أي أنه فهم مصالح "القارئين" في فهم القرآن. وأدرك أيضا ضرورة قراءته، قراءة سوسيو- تاريخية. وإلا تحوّل إلى نصٍّ يُرَدَد ولا يفهم، وسيفٍ بأيدي السلاطين مسلطا على رقاب "عباد الله".
وبحسب ما جاء في خطاب "الأخوة الجمهوريين"، في السودان، فإنهم يؤمنون أن الإنسان والإنسانية- هي الأصول، وما تبقى من تقسيمات- هي الفروع. لذا، فهم يأخذون بالأصول. فلوجهة النظر هذه، جذور في الفكر الإسلامي الكلاسيكي الرشدي.

*بين الغزالي وابن رشد*لا يزال الاختلاف والجدل بين أبي حامد الغزالي (1059- 1111) وأبي الوليد ابن رشد (1198- 1129)، أهم جدل عرفته الثقافة والفكر الإسلاميين- في ما يخص هذا المقال على الأقل- لأسباب ثلاثة أولاً- بما يخص "الله الخالق"؛ فقد اعتقد الغزالي، أن الله يعلم "الكليّات والجزئيات"، متبنيا مبدأ الأفلوطينية المحدثة: الفيض/ apoxa. أما ابن رشد فقد اعتقد أن الله يعلم "الكليّات" فقط. ومعناه: الإنسان مُسَيّر- بحسب الغزالي، ومُخَيّر- بحسب ابن رشد. أي أن الغزالي صادر عقل الإنسان كلية، وجعله خادمًا في المعابد، كما فعل هو. وابن رشد اعتبر العقل/ الإنسان- بمساحات كبيرة- مستقلا عن "الله الخالق". و"قصارى القول، لم يعد الفعل البشري إذن تابعا لقوة خارجية بصورة مطلقة، بل صار نتيجة إرادة وقرار ذاتي للفرد"- كما يلخص محمد المصباحي (2005). (يمكن العودة إلى كتابيهما: تهافت الفلاسفة، وتهافت التهافت). وثانيًا- تبني الغزالي المبدأ اليهو- مسيحي، الذي يحمِّل المرأة مسؤولية الشرور، قائلا: متاع "شهواني" طبيعي، "ومصدر الوقوع في فتنة اجتماعية كبيرة" و"أوثق السلاح، إبليس النساء". أما ابن رشد فقد نظر إليها كما الرجل بالتمام والكمال، قائلا: الرجال والنساء "نوع واحد في الغاية الإنسانية". لذا تأسست مدرستان فقهيّتان مختلفتان، إلى درجة التناقض، فيما يسمى "فقه النساء": فقه رجعي- وفقه تقدمي (نعم تقدمي بدون تحفظ!) علما أن الغزالي فقيه بامتياز- وابن رشد فيلسوف بامتياز. وثالثًا- انتصار الغزالية وهزيمة الرشدية. والذي معناه إقصاء العقل المفكِّر، والمستقل عن "الله الخالق"، عن الثقافة والفكر الإسلاميين، منذ ثمانية قرون، وإبقاء العقل أسير الخرافات والتقليد. لذا يعتبرُ أكثر من باحث ومفكر، أن المسلمين تخلفوا، وبدأوا يغادرون التاريخ، منذ أن انتصر مريدو الغزالي على تلاميذ ابن رشد.



على ما يبدو، لم تكن نيّة لدى ابن رشد البحث وتأسيس فقه خاص بالنساء. فقد ورد فِكْرُه حولهن في فقرة قصيرة في كتابه (الضروري في السياسة: مختصر كتاب السياسة لأفلاطون). والكتاب يندرج في باب محاولة إرساء قواعد سياسية لبناء الدولة الأكثر عقلانية. لذا لم يكن بدّ من التأكيد على مكانة ودور النساء فيها.
مما تقدم نفهم، أن فقه الدين (وجميع الأديان) هو أدب الصيرورة السوسيو- تاريخية. أي أدب الواقع المعيش. وعليه، لا يمكن فهم هذا الفقه بمعزل عن واقعيته/ علمانيته. ولا نقبل- أيضا نحن العلمانيين- أن يغلق باب الاجتهاد والتجديد والإبداع العقلي. وتبقى كل قضية خاضعة للبحث المتجدد، وفقا لتطور المجتمع الاقتصادي والفكري، ولمناهج وأدوات بحثية معاصرة، عرف بعضها "السلف" أم لم يعرف.

* * * *

حسنا: إن ما يهمني في موضوع إمامة النساء، ليس الجانب اللاهوتي المحض (وإن كنت متيَّما في الكشف عن سببيته!!). وإنما تمظهر اللاهوتي في الدنيوي الاجتماعي، وحرية المؤمنين، المؤمنات تحديدًا، في المشاركة بإنتاج فقه/ فكر إنساني، يأخذ مصالحهن بعين الاعتبار، ويضع الدين في ميدان الاشتباك المجتمعي. إذ أنه لا أمل في بناء منظومة علمانية، دون أن تشتبك الآراء الدينية المختلفة بعضها ببعض، وأيضا، دون أن يشتبك العلمانيون مع الدين، في محاولة تحدّي إلى أبعد الحدود، ولا نقول تلغي، تدخل "قداسة الغيب" في "واقع الشهادة"؛ ولأن الدين هو فكر إنساني بالأساس فإمامة النساء ليست فعلا دينيًا أصلا. إنها فعل دنيوي: سوسيو- بوليتي، يتمظهر بلاهوت حاسر الرأس وسافر الوجه ويقرأ الدين قراءة مغايرة، لا ترضي "السيادات" والسلطات المختلفة. والإمامة ترمز إلى رفض النساء لمنظومة معارف المجتمع البطريركي، ودخولهن، علنًا، ميدان إعادة إنتاج مجتمع أكثر عدالة وإنسانية- حريّة مما هو عليه حاليًا.
في الخامس من شهر آذار الماضي، نظمت جمعية إسلامية أمريكية (Muslim Wake Up) صلاة الجمعة بصيغة نادرة للغاية؛ اشترك فيها أكثر من مئة وخمسين من الرجال والنساء، فقد أذنت للصلاة سهيلة العطار، وكانت حاسرة الرأس، وأمّت فيهم الدكتورة أمينة ودود، وهي أستاذة للدراسات الإسلامية في جامعة "فرجينيا" في قاعة في ضاحية من ضواحي "منهاتن" الأمريكية. وأثناء الصلاة، تظاهر العشرات من المسلمين والمسلمات، رفضًا لقيام الدكتورة أمينة بإمامة المصلين- والتأكيد على: الرجال. وقبل إقامة الصلاة، تحدثت أمينة إلى وسائل الإعلام قائلة: "إن مسألة المساواة بين الرجل والمرأة أمر هام في الإسلام. وقد استعمل المسلمون، وللأسف، تفسيرات تاريخية متشددة للعودة إلى الوراء. [...] ونحن من خلال هذه الصلاة، نتقدم نحو الأمام فهذا العمل بحدّ ذاته تجسيد للإمكانات المتاحة في الإسلام". أما أحمد ناصف، وهو ناشط ومسئول في مجموعة (Muslim Wake Up) ، فقد قال هو الآخر كلاما غاية في الأهميّة: "إن المقصود من الصلاة هو إعطاء فرصة العبادة الروحية، على قدم المساواة بين الرجال والنساء. [...] وليس الهدف أن نقول لباقي المسلمين كيف يقيمون صلاتهم، إلا أننا نحتاج لأن نكون منفتحين نحو الأفكار الجديدة".
تصدر هذا الخبر وهذه التصريحات وسائل الإعلام العالمية كلها.. أما الإعلام العربي (والإسلامي)، فقد نقل إعلاميوه (الرجال والنساء) الذين لا يميزون بين "الألف" و"القاف"، و"الألف" و"الياء"، "التاء" و"الثاء"، و"الثاء" والسين"، و"التاء" و"الطاء" و"الدال" و"الضاد"، و"الدال" و"الذال"، و"الذال" و"الزين"، ولام الجرّ ولام المزحلقة.. أن أمينة ودود، هي أول امرأة تؤمّ الرجال والنساء، في صلاة مشتركة، بتاريخ الإسلام. وبما أن "الناس على دين ملوكهم"، كان على المتلقين أمثالي، أن يشكّوا بهذه المعلومة، لأسباب عدّة: من مهام وسائل الإعلام الإثارة عن طريق الكذب. حيث أني لا أعرف صحفيا، سواء من زملاء المهنة السابقين، ولا اللذين أقرأ لهم حاليا، ممن له إحاطة بتاريخ الإسلام، كي يأخذ على عاتقة ترديد كذبة كهذه.

وكذلك، ان الإسلام الذي نعرفه هو إسلام السلطة، السني- الشيعي. أما إسلام الفرق والمجموعات الأخرى كالمعتزلة والجهمية والفاطميين.. والقرامطة، قد اختفى من بوق إعلام سلطة المؤسسة الذكورية. وكذلك (أيضا)، يتوزع الإسلام على كافة أعراق وثقافات وأقوام وشعوب وأمم المعمورة، ولا تزال ملايين المخطوطات تقبع في أروقة المخازن المختلفة في العالم الإسلامي، دون تحقيق أو دراسة. لذا: هل يعقل أن امرأة فعلا، لم تؤم الرجال مرّة واحدة بتاريخ الإسلام المديد؟ المنطق السليم، يقول: لا يعقل بتاتا! وحينما كنت أقلّب كتب التراث الورقية والإليكترونية، جاءتني النجدة من إحدى قارئات صحيفة "القدس العربي"، نالا هشام- باريس، بتاريخ (26. 3. 2004)، التي ذكرت استنادا إلى أبحاث ودراسات الدكتورة سعاد الوحيدي، المتخصصة بالإسلام الصيني، "إن المسلمات الصينيات يمارسن الإمامة على قدم المساواة مع إخوانهم المسلمين". وعندما استزدت الأمر من الدكتورة سعاد، عادت وأكدت لي ما نقتله نالا عنها، وأضافت: "[...]، بل هناك جامعة خاصة لتخريج المرأة الإمام، ككل الجامعات العلمية في العالم".
لقد قضيت ساعات طويلة بين صفحات الكتب وشبكة الإنترنيت، للبحث عن إمامة النساء في التراث الإسلامي، ومواقف المسلمين الحاليين- ليس المعاصرين. فقد ردد الحاليون ما قاله "السلف": لقد أجمعت المذاهب الثمانية على عدم جواز إمامة النساء. ثم أضافوا: إن الذين أباحوا إمامة النساء هم والمزني (791- 878) والطبري (838؟- 923) ومحي الدين ابن عربي (1165- 1240) وأبو ثور (؟). ولنا أن نضيف موقف ابن رشد أيضا، الذي قال: النساء كالرجال: فيلسوفات ورئيسات. أي أن ليس هناك مانع في "النوع" والشريعة أن تصبح المرأة إمامة.
يكفي أن نسمع: المذاهب الثمانية، حتى نعرف أن في الأمر سطو على وعينا! متى أجمع المسلمون على أمر ما؟ ولماذا تحدّث شيوخ السنّة باسم المذاهب الشيعية أيضا، ومن هم؟ حسنًا، الثمانية هم: الشافعي، والمالكي، والحنبلي، والحنفي، والوهابي- متى كانت الوهابية مذهبا؟- ومذاهب الشيعة الثلاثة: الجعفرية، والإمامية الإثنى عشرية والزيدية. هذه الوحدة نادرة بين المسلمين! فالمسلمون الذي لا يتفقون على موعد بدء صيام رمضان والعيد.. يتفقون اليوم ضد إمامة النساء!
يجب التأكيد إن في الأمر إشكالية كبرى، لعدة أسباب:

1- إن اعتبار الوهابية مذهبًا، هو موقف سياسي أولا؛ لأن نظام الحكم في شبه الجزيرة العربية، الذي يرعى شيوخ وأئمة المسلمين السنّة- لا نقول علماء- هو وهابّي. لذا أقروا له بالمذهبية.

2- يكفّر الوهابيون كافة مذاهب المسلمين.

3- بعض المسلمين، أمثال طارق رمضان، يعتبر المعتزلة مذهبا.

4- البعض يعتبر أتباع ابن حزم الظاهري (994- 1064) مذهبا.

5- تشكيك السنة والشيعة، بصحة فقه ومذهب كلّ فريق للآخر.

6- تقبل المؤسسة السنيّة، بالشيعة الإمامية والزيدية مذهبين، دون الجعفرية.

7- يعتبر المسلمون أتباع "مسلك التوحيد"، الدروز أنفسهم مذهبا.

8- يعتبر الإسماعيليون والعديد من فرق الشيعة أنفسهم مذاهبًا.

9- يعتبر المسلمون القاديانيون/ الأحمديون أنفسهم مذهبا، أو فرقة إسلامية. صحيح إن فقهاء المسلمين كفرّوهم، وصحيح إنهم إنتاج الاستعمار البريطاني في شبه القارة الهندية، إلا أن ليس هنالك ما يمنع كونهم مسلمين، إذا اعتبروا هم أنفسهم كذلك!

10- لا ننسى فرقا إسلامية قضت عليها المؤسسة الإسلامية، كالقرامطة.. مثلا.

11- وهل يمكن اعتبار "الأخوة الجمهوريون" و"المهدية" مذهبين؟!

هذه الملاحظات تضعف من كون المذاهب الإسلامية ثمانية فقط. وتضعف إجماعهم.
وإذا بحثنا في التاريخ السوسيو- بوليتي لنشوء المذاهب الإسلامية، نكتشف- وهذا هام جدا- أن جميعها نشأت في العصر العباسي، عدا الوهابي الذي نشأ عصر الانحطاط العثماني. فقد نشأت هذه المذاهب، ليس "لوجه الله"، كما يقول تقاة المسلمين، وإنما إجابات لأسئلة ومشاكل وقضايا وصراعات حياتية بين المسلمين أنفسهم، العرب ومنهم و"العجم". فقد شخّص الدكتور أحمد صبحي منصور عصر نشوء وتبلور المذاهب (عدا الوهابي) بالقول: من الطريف إن هذا الفقه الذكوري كان انعكاسًا للعصر العباسي في القرنين الثالث والرابع الهجريين، حيث نشأ وضع اجتماعي غريب للمرأة وقتها. كانت تجارة الإماء- الجواري - قد وصلت ذروتها ووصلت الإماء إلى كل بيت من الطبقة العليا ومعظم الطبقة الوسطى. [...] وامتلأت بيوت الخلافة العباسية بالجواري وكان كل الخلفاء العباسيين من أولاد الجواري عدا اثنين فقط هما السفاح والأمين. وفى العصر العباسي– خصوصا العصر الثاني– كان معروفا تسلط الجواري على تسيير أمور الخلافة.[...]
هذا التغلغل من الجواري في المجتمع العباسي بنفوذهن وثقافتهن وتأثيرهن على الرجال من العشاق والأبناء أقام حركة نهضة نسوية في العراق العباسي لم تظهر واضحة بين عناوين التاريخ العباسي الذي اقتصر التأريخ فيه على الرجال من الفقهاء والمؤرخين الناقمين على المرأة، فظلت تلك الحركة النسوية مجهولة في الحوليات التاريخية ومذكورة بعض الشيء في كتب الأدب والشعر، مع أنه نشأ عنها مطالبة المرأة بوظيفة الكتابة والحجابة والخطابة كالرجل تماما. قال شاعر عباسي يتندر على ذلك:

ما للنساء والكتابة والحجابة والخطابة-هذا لنا، ولهن علينا أن يبتن على جنابة.

في مقابل الجواري السافرات النشطات كانت الحرائر داخل البيوت والنقاب يعانين العزلة والإهمال والحبس والعنوسة أو تعدد الزوجات وهضم الحقوق. في هذا العصر لم يستطع الفقهاء الاحتجاج على نفوذ الجواري المتحكمات في الخلافة العباسية والوزراء. لم يجدوا إلا الفتاوى الحانقة يكتبونها لتعبر عن إحباطهم ونقمتهم. هذه هي الأرضية التاريخية للفقه السني الذكوري في عصره الذهبي، وليس الإسلام مسئولا عنها بالطبع".
هذا الوضع يفسر لنا شبق الفقهاء والشيوخ في حينه، وإلى يومنا هذا طبعًا، التعاطي مع كيانية المرأة من منطلق عُصَابيّ جنسي. وعندما نراجع كافة التسويغات الرافضة إمامة النساء كما الرجال، نقرأ مصطلحات مثل: المرأة الجميلة المشتهاة، والعجوز غير المشتهاة، والقبيحة غير المشتهاة، والحائض والنفاس.. ولا كلمة عن المقوّمات العقلية والإيمانية، التي تحدد أهليّة النساء- وكذلك الرجال- للإمامة. ولا نقرأ (أيضًا) نصّا صريحا من القرآن يمنعنهن من الإمامة. لأن وببساطة: لا يوجد أي نصّ في القرآن يمنع المرأة من تولي أية مسؤولية أو وظيفة، (وكذلك الأثر..).

*التصدي لقاطرات التاريخ بالخرافات*وبعد: إن رفض الغالبية العظمى من رجال الدين لإمامة النساء، ليس موقفا لاهوتيا فقهيّا صرفًا، كما بيّنت. إنه موقف سوسيو بوليتي، يصرّ على التصدي لقاطرات التاريخ بنصوص من الخرافات والعُصاب النفسي. إن هذا الموقف ينتصر لمؤسسة الكومبرادور العربي (والإسلامي)، الذي لا يمنع مشاركة النساء فقط في الحياة العامة، وإنما الرجال أيضا، وإنتاج الثروات المادية والروحية للأمة. والموقف ينتصر أيضًا لكارتيلات السلاح والنفط الأمريكية، التي تحاول جاهدة الاستمرار باحتجاز تطوّر الأمة. فأكبر خدمة تقدمها الأنظمة والسلطات المختلفة، هي الفصل بين "النوع الواحد"، الرجال والنساء؛ كي تتعطل قدراتها، ويصبح أبناؤها عصابيين، ومهووسين جنسيًا.. فعندما يصبح مصير الأمّة بأيدي أبنائها من الرجال والنساء، حتما سيعرفون أن عدوّهم هو، الأنظمة والسلطات التي ترعى من يرفض إمامة النساء، وإمامة المجتمع لنفسه. عندها تستعيد الأمة إمامتها لنفسها، وحريتها الكاملة بإعادة إنتاج مجتمع سليم ومعافى، وحتما سيعرفون أن أمريكا هي الراعي الأكبر لكافة الرعيان الصغار..
يبقى العودة والتأكيد على ما قاله أحمد ناصف: "إن المقصود من الصلاة هو إعطاء فرصة العبادة الروحية، على قدم المساواة للرجال وللنساء. [...] وليس الهدف أن نقول لباقي المسلمين كيف يقيمون صلاتهم، إلا أننا نحتاج لأن نكون منفتحين نحو الأفكار الجديدة". إنه كلام غاية في الأهميّة.. إنها الحريّة.. إنها الحريّة.

باحث في مقارنة الأديان