-الزلفيون- والمسألة النسوية السعودية



شاكر النابلسي
2005 / 6 / 26

-1-
هذه عودة إلى موضوع (قيادة المرأة السعودية للسيارة). واهتمامنا بهذا الموضوع يعود إلى ذلك الرفض المدوي الذي تمَّ للمذكرة التي قدمها عضوا مجلس الشورى السعودي محمد آل زلفة وعبد الله بخاري، والتي اعتبرت بمثابة "ثعبان ضخم" أُلقي في قاعة مجلس الشورى، فهرب الأعضاء فزعين منه، كما وصفه كاتب سعودي (علي سعد الموسى، جريدة "الوطن" السعودية، 23/5/2005). وهذا الرفض والنقاش الذي دار حول المذكرة، يجب أن لا يثار في ضوء موضوع السماح أو غير السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة، وأن يُحصر في هذه الزاوية الضيقة. بل علينا كمحللين أن نوسّع عدسة الكاميرا، ونوسّع دائرة النقاش إلى امكانية أو عدم امكانية التغيير والإصلاح. فالنظر لما جرى في مجلس الشورى (قيادة المرأة السعودية للسيارة) بهذا المنظار الضيق دون تخطيه إلى أزمة التغيير والإصلاح، هو من باب قُصر النظر الثقافي والفكري. ولعل هذا سبب عودتنا إلى هذا الموضوع الذي لا نعتبره اشكالية نسوية محدودة، ولكنه جزء من اشكالية التغيير والاصلاح على النطاق الأوسع.

فهل سقط مشروع التغيير والإصلاح السعودي الذي ذهب ضحيته الدميني والفالح والحامد، بسقوط مذكرة آل زلفة وبخاري؟

وهل قضت رياح "الطوز" الغبراء، على براعم خزامي الصحراء؟

-2-

لا داعٍ لأن نكرر احترامنا وتقديرنا للمذكرة الشجاعة التي قدمها د. محمد آل زلفة ود. عبد الله بخاري عضوا مجلس الشورى السعودي، بخصوص فتح النقاش حول قيادة المرأة السعودية للسيارة وليس للطائرة ، فقد سبق وقادت سعودية طائرة دون ضجة تذكر. ولا جناح – فيما أعلم - على الطيّارات السعوديات من قيادة الطائرات، حيث قوانين السماء تختلف عن قوانين الأرض، علماً بأن للمرأة نصف السماء كما لها نصف الأرض (النساء شقائق الرجال). وكنا قد كتبنا في هذا الموضوع مقالين (هل تليق الديمقراطية بالسعودية، 22/5/2005) و (الطريق إلى الديمقراطية السعودية، 29/5/2005) وركزنا في هذين المقالين على نقطة مهمة، وهي أن ممانعة السعوديين حكومة وشعباً، ساسة ورجال دين، لقيادة المرأة للسيارة، ليست ممانعة سياسية أو دينية بقدر ما هي ممانعة اجتماعية. وردَّ كثير من الكتاب "الزلفيون" (نسبة إلى الذين أيدوا مذكرة آل زلفة وأنا منهم ) على هذه النقطة بنقضها، حين قارنوا المجتمع السعودي بالمجتمع الكويتي والمجتمعات الخليجية الأخرى التي سمحت بقيادة المرأة للسيارة منذ زمن.

فكان السؤال العريض:

لِمَ لا يُسمح للمرأة السعودية بذلك، أسوة بالنساء الخليجيات الأخريات؟

-3-

ليسمح لي هؤلاء "الزلفيون"، بأن أقول لهم أن قياسهم ذاك "قياس فاسد" كما يقول أهل المنطق. فمعظم الذين كتبوا وأبدوا استغرابهم من عنت السعوديين تجاه قضية قيادة المرأة السعودية للسيارة أو تجاه أية قضية أخرى تدفع بالمجتمع السعودي إلى الأمام نحو الحداثة، لم يعيشوا في السعودية وربما لم يزوروها. ومن عاش فيها لم يمكث فيها المدة الكافية للتعرف عليها والحفر فيها بعمق لكي يصل إلى الينابيع. ومن كان من أهلها لم يقرأ أرض الواقع قراءة مبصرة وواسعة وجيدة. ويؤسفني أن اقول أن د. محمد آل زلفة نفسه - وهو استاذ التاريخ العريق - عندما قدم مذكرته المثيرة للجدل، لم يقرأ تاريخ المنطقة الاجتماعي جيداً قراءة المحلل، لا قراءة المُلقن لتلاميذه. ولعل هذا ما يفسر خيبة الظن بمذكرة آل زلفة التي أعرب عنها وزير الداخلية السعودي ("إيلاف" 13/6/2005). فالمجتمع السعودي رغم أنه يُعتبر جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الخليجي، إلا أنه يختلف عن كافة المجتمعات الخليجية الأخرى. وله من المكونات التاريخية والدينية الخصوصية ما يجعله أكثر المجتمعات الخليجية خاصة والعربية عامة تشدداً ومحافظة وانغلاقاً كذلك، بفضل عوامل جغرافية ودينية، منها أن المجتمع السعودي مجتمع متفرد باعتباره مجتمع الوحي الإسلامي. وأن هذا المجتمع مجتمع في غالبيته زراعي /رعوي. وأن أكبر عدد من القبائل العربية في الجزيرة العربية تسكن فيه. وأن هذا المجتمع لم ينتقل بعد كلية إلى المجتمع الحضري فهو ما زال في مرحلة ما بين البداوة والحضرية. ومنها أن هذا المجتمع هو من أكثر المجتمعات ذكورية في العالم وفي العصر الحديث. وهناك عوامل سياسية لعبت دوراً كبيراً في تفرّد المجتمع السعودي بانغلاقه هذا الانغلاق منها، التلاحم القائم بين السلطة الدينية والسلطة السياسية. وأن المجتمع السعودي لم يشهد عهوداً من الاستعمار والاحتلال الأجنبي. ومنها كذلك أن الأحزاب السياسية لم يكن لها مكان في المجتمع السعودي. ومنها أن النسبة الكبرى من المهاجرين من العالم العربي ومن جنوب شرق آسيا إلى السعودية كانت من دول ذات مجتمعات مغلقة ومتخلفة. وأخيراً، دور الإخوان المسلمين البارز في هذا التشدد وفي هذا الانغلاق، والذين فروا من الديكتاتورية الناصرية وحكم حافظ الأسد ولجأوا إلى السعودية في الستينات والسبعينات والثمانينات.

الأسباب الدينية والجغرافية لخصوصية المجتمع السعودي الفريدة

1- علينا أن لا ننسى أن المجتمع السعودي هو مجتمع الوحي الإسلامي، وهو مركز الدعوة الإسلامية. وأن مكة المكرمة والمدينة المنورة، مركزان لا مثيل لهما للاشعاع الديني الإسلامي. وعلى البلد التي تقع فيها هاتان المدينتان وما تمثلان من تراث ديني، مسؤوليات دينية لا حدود لها. ومهما حاولنا استخلاص الحداثة من الدين، فإن الدين يبقى ديناً له ضوابطه. "فلا يمكن أن تقفز السعودية على شرعيتها التاريخية التي تقوم عليها، ولا يمكن أن تتجاوز واقعها الجغرافي المقدس لدى المسلمين" (محمد عبد اللطيف آل الشيخ، كيف يصنع القرار السياسي في السعودية؟ "الشرق الأوسط"، 18/4/2005) ومن هنا، كان توحُّد وتفرُّد المجتمع السعودي لسوء الحظ أو لحسن الحظ.

2- ما زالت السعودية مجتمعاً زراعياً بدوياً رعوياً. وما زال هذا القطاع يشكل أكثر من خمسين بالمائة من السكان في حين أن هذا القطاع لا يشكل أكثر من 2 بالمائة من سكان الكويت مثلاً (خلدون النقيب، المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية، ص187) وأن معظم سكان المدن السعودية هم قبليون يسكنون المدن. وقد استبدلوا بيوت الشَعر ببيوت من حجر، واستبدلوا الجمال بالسيارات، والتمر واللبن بالرز الأمريكي "آنكل بنـز". وأصبح المجتمع السعودي بعد الطفرة النفطية مجرد "مجتمع البداوة المميكن" (سعد الدين ابراهيم، النظام الاجتماعي العربي الجديد، ص 23). أما القيم فما زالت هي قيم المجتمع القبلي الزراعي والرعوي. وما زال مجتمع المدن امتداداً لمجتمع الريف (هشام شرابي، البنية البطركية، ص 42). والانتقال من "القبيلة" و "العشيرة" إلى "الطبقة" و "الدولة" بالمعنى الحديث، لم يتم بعد في السعودية. فالمجتمع السعودي ما زال "مجتمعاً عصبويا" يقوم على اعادة تأكيد الانتماء إلى القبيلة والعشيرة، على حد تعبير برهان غليون (المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، ص87). وأن "التصور النظري للأشياء لا يتم إلا عبر ادخالها في النسق القبلي، وتصويرها بحسب النظام القبلي" كما يقول الناقد السعودي عبد الله الغذامي (القبيلة بوصفها نسقاً ذهنياً، جريدة "الحياة"، 21/4/1997). كما أن التحوّل الذي حدث في حياة البداوة السعودية، تحوّل سطحي. وأن جهود الدولة السعودية لتحديث المجتمع البدوي انصبَّ على مجالين فقط: العمل في حقول النفط، والجيش والحرس الوطني (سعد الدين ابراهيم، النظام الاجتماعي العربي الجديد، ص24). وهذا مؤشر على أن أخلاق وقيم وعادات المجتمع الزراعي البدوي الرعوي ما زالت هي المسيطرة بشكل مباشر أو غير مباشر على المجتمع السعودي، رغم ارتفاع نسبة العاملين في مجالات الصناعات الخفيفة والخدمات العامة. ورغم عملية "الحراك الاجتماعي" المهمة التي حدثت في المجتمع السعودي تحت تأثير "المتغير النفطي" وعمليات الهجرة الواسعة للعمالة خلال السبعينات والتي أدت إلى "تسييل" المجتمع السعودي جزئياً تحت ضغط "السكرة النفطية" أو "المخدر النفطي" على حد تعبير محمود عبد الفضيل (التشكيلات الاجتماعية والتكوينات الطبقية في الوطن العربي، ص 221) الذي عاد الآن يمارس فعاليته بفعل ارتفاع أسعار البترول. ولكن هذا "التسييل" تمَّ من الخارج أي من الشكل، في حين أن المضمون الاجتماعي بقي على حاله. وبقيت قيم المجتمع الزراعي الرعوي المستوحاة من عقلية ومعارف الحضارات الزراعية المشبعة بالأساطير والتفكير المضاد السحري الايحائي هي المسيطرة، كما يقول العفيف الأخضر. وتتمثل هذه القيم بالنسبة للمرأة في تشييئها وامتلاكها كامتلاك الأرض، وأن أعزَّ ما يملك المجتمع الزراعي هو الأرض والعِرض. وعند التدقيق في مكونات المجتمع السعودي الحديث نرى أن العنصر القبلي داخل المدن هو المسيطر. فقد سيطر على الادارات الحكومية المهمة كالقضاء والعدل والدفاع والداخلية والأمن العام والحرس الوطني. في حين سيطر المدنيون الذين هم أصلاً إما من سكان المدن أو من المهاجرين العرب والآسيويين والأتراك على المراكز التقنية والفنية. وظل هذا النموذج من التوظيف معمولاً به حتى الآن .

3- تحوي السعودية - وخاصة منطقة نجد والشرقية والجنوبية - أكبر كم من قبائل الجزيرة العربية سواء كان بعدد القبائل أم بعدد أفراد هذه القبائل. وهذه القبائل تقسم إلى قسمين: قبائل زراعية تقوم بفلاحة الأرض وقبائل رعوية. والقبائل الرعوية تقسم أيضاً إلى قسمين: قبائل ترعى الأغنام وقبائل ترعى الإبل (محمود عبد الفضيل، التشكيلات الاجتماعية والتكوينات الطبقية في الوطن العربي، ص 58). وبعض هذه القبائل هي التي تحكم في بعض دول الخليج كقبيلة "عنـزة" (السعودية والكويت والبحرين) وبني اياس (أبو ظبي ودبي) وقبيلة القواسم (الشارقة وعجمان) وبني تميم (قطر). بل إن آل سعود تزوجوا من كثير من القبائل السعودية. وكما قال الأمير خالد الفيصل "فقلما تجد فرداً من آل سعود لا يكون خاله أو خالد والدته أو خال والده من إحدى القبائل السعودية" (صالح ناصر الخريجي، شاعرنا، ص224). وتظل منطقة الوسط (مكة والمدينة وجدة) في السعودية الأكثر انفتاحاً اجتماعياً، رغم وجود المدينتين المقدستين فيها، ورغم أنها ذات أسر محافظة معظمها جاء من تركيا ومن جنوب شرق آسيا. وهذا الانفتاح تأتى من كثرة الأجانب (يُطلق في السعودية على كل من هو غير سعودي أجنبي) الذين يزورون المدينتين المقدستين (مكة المكرمة والمدينة المنورة) من كافة أنحاء العالم، ونشاط التجارة فيهما نتيجة لذلك.

وأنا لا أوافق د. متروك الفالح في قوله: "إن فاعلية القبيلة في السعودية لم تعد واضحة الا في مسألة الانتساب الاجتماعي وحل بعض المشاكل مثل الديّات. وتلك الاخيرة ليست أساساً مسألة سلبية، بل انها قد تكون اضافة في اطار بعض التكوينات للمجتمع الاهلي" (د. متروك الفالح، المستقبل السياسي للسعودية في ضوء 11 سبتمبر). فالقبيلة في السعودية – كما هي في كل دول الخليج - ما زالت هي المستودع البشري الرئيسي لتوظيف أفراد الجيش والشرطة والحرس الوطني. وأن قيم القبيلة الاجتماعية ما زالت هي المسيطرة في السعودية، رغم ما يقال من أن القبيلة فقدت فعاليتها السياسية.

4- والنقطة المهمة التي يجب أن نلتفت اليها، أن المجتمع السعودي وبقية مجتمعات الخليج العربي وكذلك المجتمع الأردني والعراقي، لم تنتقل بعد من البداوة إلى الحياة الحضرية انتقالاً تاماً. فما زالت هذه المجتمعات في مرحلة بين البداوة والحضرية. وقد لاحظ العالمان الاجتماعيان ديفوس وماينر، أن مرحلة الانتقال هذه تصاحبها مشكلات نفسية، يصعب تجاهل أثرها في تكييف الفرد للحياة الجديدة، وهو أمر متوقع نتيجة لاختلاف معايير السلوك والقيم ومتطلبات الحياة. وأن الجانب العصي في هذه المرحلة ليس هو الجانب المادي أو الفني، ولكنه الجانب الحضاري والاجتماعي (محيى الدين صابر ولويس مليكه، البدو والبداوة: مفاهيم ومناهج، ص 146). ولعل هذا ما يفسر لنا تعثر التموضع الحداثي للمرأة الخليجية عموماً والسعودية خاصة حتى الآن.

وفي المقال القادم نستعرض الأسباب السياسية والاجتماعية التي جعلت من المجتمع السعودي مجتمعاً خاصاً ومتفرداً، وتحول بينه وبين قيادة المرأة السعودية للسيارة. فإلى لقاء.

[email protected]