في نفي دونية المرأة – بين داروين و العلم الحديث



نضال الربضي
2014 / 2 / 18

في نفي دونية المرأة – بين داروين و العلم الحديث

تشارلز داروين العالم الكبير و صاحب نظرية التطور و آلية الانتخاب الطبيعي، الرائد ُ الذي أخرج البشرية من دائرة تصورات طريقة الخلق ال "كُن" وية الضيقة إلى فضاء الأحافير و الجينات الرحب، كان يخفي في ذاته العلمية جزءا ً ذكوريا ً عتيقا ً، و رؤية ً دونية ً نحو المرأة، فلقد صرح في كتاباته أن من الأفضل ألا يكون الإنسان لوحده في أيامه و صُحبة المرأة تتفوق على صحبة الكلب و لذلك فهي شر ٌ لا بد منه.

رأى داروين في المرأة كائنا ً أقل َّ من الرجل من الناحية التطورية و التكوينية، و احتقرها في داخله، فكانت النتيجة أن ما ينشره لقي دائما ً القبول و الرفض في آن ٍ معا ً، فقبله أنصار التطور حينما تكلم في العلم و رفضوه حين تكلم في دونية المرأة، بينما رفضه أنصار الخلق حينما تكلم في العلم و قبلوه حين تكلم في تفوق الرجل.

يعنينا أن نتكلم في داروين و نفحص ما كان يرى، لأننا باحثون عن الحقيقة و دُعاة ُ تنوير و ساعون نحو الإنسان. و قد أوردت ُ في مقالات سابقة الكثير عن تطور نوعنا المعروف باسم الـ Homo Sapiens و ربطت التطور البيولوجي بالأنثروبولوجيا و خصوصا ً في شقها الميثالوجي الديني، و أجد ُّ أنه من الضروري أن أُتابع عن جزئية الدونية الأنثوية لنفحص و نرى هل ما قاله داروين حق ٌّ يؤخذ به أم كلام ٌ يدحضه العلم و التجربة الواقعية و الخاصية الإنسانية لنوعنا.

إن كون داروين صاحب نظرية التطور لا يجعل منه إله الإلحاد و نبيه و صاحب كتابه الذي لا يُرد ُّ منه عليه، و الباحثون عن الحقيقة يُدركون أن كل شئ ٍ خاضع ٌ للنقد، لا أقداس و لا مُقدَّسات إلا ما جاءت بُبرهان و أجلت نفسها ببيان، و توافقت مع طبيعة الكون و البشر و قدمت لهم ما رقى بواحدهم و ارتقى بنوعهم و أغناهم، لا ما فُرض بالنقل و خالف الفطرة َ أو ناقض العقل. و لا يعدو دارون كونـَه ُ صاحب فكر ٍ و علم ٍ أجاد و أبدع و صنع للبشرية ِ صنيعا ً يُذكر له ما دام الإنسان ُ يدوِّن ُ و يتناقل ُ إرثه، لكنه لا يعصمُه ُ عن الفحص و لا يرفعه من تحت ِ عدسة ِ التحليل و التفكيك ِ و التشريح ِ و الحُكم ِ بأهليتهِ للتوارث قبولا ً و ممارسة ً أو إبطالا ً و انصرافا ً عنه.

تُفيد ُ الدراسات ُ الحديثة أن عقل الرجل يحتوي على أكثر من ستة ِ أضعاف المادة ِ الرمادية ِ الموجودة ِ في عقل المرأة، بينما يحتوي عقلها على عشرة أضعاف المادة ِ البيضاء الموجودة ِ عنده. تختص ُ المادة ُ الرمادية بعمليات التفكير و البيضاء بعمليات نقل الإشارات العصبية داخل َ الدماغ، و تكون ُ الخلايا العصبية مُتراصة ً في عقل المرأة بأشد َّ كثافة من نظيراتها عند الرجل.

قد يعتقد القارئ الكريم أن المادة الرمادية هي المهمة و بذلك يقدم العلم دليلا ً على أن عقل الرجل أذكى من عقل المرأة، لكن الواقع أن هذا الأمر غير صحيح، فالدماغ يعمل بطريقة معقدة جدا ً تتضافر ُ فيها كل المناطق لتحديد النتيجة الصادرة عن هذا الدماغ، فبينما يتفوق الرجال في بعض اختبارات العلوم، تتفوق النساء في اختبارات اللغة و التواصل و الحجة و المنطق، و يُسجل لهن َّ سرعة ٌ في عمل الدماغ أكثر من أقرانهن في عالم الذكور.

تدحض ُ اختبارات الذكاء IQ Tests نظرية تفوق الذكر، فلا فرق بين مستوى ذكاء الذكور و الإناث حسبما تسجله تلك الاختبارات، و يتدخل العامل المجتمعي في تحديد التوجه النوعي الجندري، فالمجتمعات تشجع أطفالها الذكور على المهام الخاصة بالحساب و الهندسة و العمل اليدوي الذي يتطلب تفكيرا ً علميا ً بينما تُحبِّب لإناثها منذ الصغر القنوات الخاصة بالمهام الهادئة مثل اللغات و التواصل و التسويق.

من المهم أن نُدرك أن الدماغ البشري يتشكل ُ بالتوجيه و يُخرج طاقته و مقدرته بما يتناسب مع هذا التوجيه، فتدريب العقل على الحساب و المنطق و الفيزياء يجعل المرء َ مُبدعا ً فيها على حساب التفوق اللغوي، دون أن يفقد العقل مقدرته على تحقيق هذا التفوق إذا تمت استثارته بالطريقة المناسبة و بالتمرين، و كذلك ينطبق الأمر على كل المهارات الأخرى. هذه الحقيقة العلمية تقودنا إلى الاستنتاج الصحيح أن تقديم الدعم المُتماثل للذكور و الإناث و دون توجيههم المُمنهج منذ الصغر سيؤدي في النتيجة إلى توازن خياراتهم بحيث نرى نساء ً في تخصصات علمية ووظائف كانت مُقتصرة ً على الرجال، و بنفس المعيار رجالا ً حيث اعتدنا مشاهدة َ نساء.

ما يزال الدماغ ُ البشري يُشكل تحديا ً خاصا ً للعلماء، فهو ملئ ٌ بالمفاجآت المُدهشة، فعلى سبيل المثال أظهرت صور ٌ طبقية لمرضى فقدوا حاسة البصر أن دماغهم يستخدم ُ أجزاء ً خاصة بالرؤية في عملية استيعاب الأصوات و تمثيلها و إدراكها، مما يُوضح بما لا يدع مجالا ً للشك أن التفكير و الذكاء والعمليات الدماغية هي أعقد مما يستطيع الإنسان أن يتصوره أو يفك كامل أسراره، خصوصا ً إذا ما أدركنا أن هذه العمليات الدماغية التي قد تتعطل بسبب آذى ً ما، تعود ُ مرة أخرى حينما تقوم النهايات العصبية في الدماغ بتكوين ترابطات شبكية جديدة مع نهايات أخرى لفتح ممرات كهربائية تسمح للدماغ بالعمل مجددا ً و تُنتج المحاور العصبية فروعا ً جديدة لم تكن موجودة لتكوين شبكات تُعوِّض الشبكات المُدمَّرة، و هي العملية التي تُعرف باسم Neuroplasticity.

لم يكن بإمكان داروين أن يتوصل بعلوم تلك الفترة و معارفها إلى النتائج السابقة و بقي حُكمُه شخصيا ً و غير علمي، لكن خطأه القاتل كان في إهمالِه لتأثير البيئة و المجتمع على توجه الإناث و مُخرجات قدراتهن الإبداعية، و على الرغم من كونه عالما ً عظيما ً إلا أن محدودية َ عناصر التأثير التي درسها ليتوصل إلى النتائج و بُعدها عن التجرد الشخصي و الشمولية العلمية أوقعته ُ في خطأ ٍ قاتل.

يٌخبرنا علم الجينات أن الطفل يرث من والدته ِ 23 (ثلاثة ً و عشرين) كروموسوماً و مثلها بالضبط من والده، و تُشكل جيناتُهما معا ً كيانه و تُعطيه قدراته وخصائصه و إمكانياته، و في ذلك لوحدِه لو شئنا أن نتغاضى عن كل ما أسلفتُه دليل ٌ على استحالة ِ فوقية ِ نوع ٍ على الآخر، فخصائص الأنثى و زوجها تذهبان إلى الإطفال و تتوارثهما الأجيال، فلو كانت هناك فوقية لنوع ستذهب ُ بالوراثة إلى النوع الآخر، و لو كانت هناك دونية ٌ لنوع ستذهب أيضا ً بالوراثة إلى النوع الآخر، لكن الحقيقة تبقى أنه لا فوقية و لا دونية، هكذا يقول العلم. أما مشاهدات الواقع ففيها نجد رجالا ًو نساء ً علماء و عالمات، فنانين و فنانات، أدباء و أديبات، رؤساء و رئيسات دول و مجالس إدارة ووزارات، و رواد و رائدات فضاء.

لقد أحب َّ الرجل المرأة و خشيها في نفس الوقت، ووجد فيها مُبتغاه و تهديده الأعظم َ معاً، و احتفظ َ لها في نفسه بالتقديس العظيم أما ً له حينما نزل من الرحم، و كرهها بنفس مقدار الحب حين فطمته ُ عن ثديها و حين أدرك أنها ليست فقط موجودة ً من أجل تثبيت نرجسيتِه، و كرهها أكثر عندما عجز لا شعوريا ً أن يبادلها الحب الجنسي الذي يختص به أبيه فقط، و أتت كل ُّ هذه التصارعات لتشكل أعقد علاقة ٍ موجودة ٍ على هذا الكوكب و عرفها الزمان و الحضارة ُ البشرية، و هي علاقة الرجل بالمرأة، فكان ما نشاهدُه في بعض أدبيات الأديان و بعض أدبيات العلماء كداروين، دون أن يملك لا الأول و لا الثاني أن ينتقصا من المرأة ِ شيئا ً، تلك عشتار و هل يُنتقص ُ من عشتار؟

بعيدا ً عن العلم، غنى الراحل العظيم عبد الحليم حافظ رائعة َ نزار قباني: قارئة الفنجان، فقال:

قد تغدو امرأة ٌ يا ولدي يهواها القلب هي الدُّنيا.

صدق نزار و صدق حليم.

http://www.youtube.com/watch?v=Ptd3R51Qj-s