هل ستبقى المرأةُ السعوديةُ مُكرّسةً للعَلَف والخَلَف فقط؟!



شاكر النابلسي
2005 / 6 / 29

قلنا في مقالنا السابق ، في التعليق على موضوع المذكرة التي قدمها د. محمد آل زلفة ود. عبد الله بخاري عضوا مجلس الشورى السعودي بخصوص مناقشة السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة، أن المجتمع السعودي، رغم أنه يُعتبر جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الخليجي، إلا أنه يختلف عن كافة المجتمعات الخليجية الأخرى. وله من المكونات التاريخية والدينية الخصوصية ما يجعله أكثر المجتمعات الخليجية خاصة، والعربية عامة، تشدداً ومحافظة وانغلاقاً كذلك. وهذا بفضل عوامل جغرافية ودينية، منها أن المجتمع السعودي مجتمع متفرد، باعتباره مجتمع الوحي الإسلامي. وأن هذا المجتمع مجتمع في غالبيته زراعي/رعوي. وأن أكبر عدد من القبائل العربية في الجزيرة العربية تسكن فيه. وأن هذا المجتمع لم ينتقل بعد كليةً إلى المجتمع الحضري. فهو ما زال في مرحلة ما بين البداوة والحضرية. ومنها أن هذا المجتمع، هو من أكثر المجتمعات ذكورية في العالم، وفي العصر الحديث. وهناك عوامل سياسية لعبت دوراً كبيراً في تفرّد المجتمع السعودي بانغلاقه هذا الانغلاق منها، التلاحم القائم بين السلطة الدينية والسلطة السياسية. وأن المجتمع السعودي لم يشهد عهوداً من الاستعمار والاحتلال الأجنبي. ومنها كذلك، أن الأحزاب السياسية لم يكن لها مكان في المجتمع السعودي. ومنها أن النسبة الكبرى من المهاجرين من العالم العربي ومن جنوب شرق آسيا إلى السعودية، كانت من دول ذات مجتمعات مغلقة ومختلفة. وأخيراً، دور الإخوان المسلمين الذين فروا من الديكتاتورية الناصرية وحكم حافظ الأسد، ولجأوا إلى السعودية، وسيطروا على التربية والتعليم والإعلام، فزادوا التعليم إظلاماً، وزادوا الإعلام انغلاقاً وتشدداً.

الأسباب السياسية لخصوصية

المجتمع السعودي الفريدة


1- لم تقم أنظمة سياسية في الخليج على تلاحم تاريخي تام بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية، كما كان عليه الحال في السعودية. وغني عن القول أن الوهابية كحركة دينية سلفية متشددة لعبت دوراً كبيراً في انغلاق المجتمع السعودي نتيجة لذلك، كما لم تلعبه أية حركة دينية أخرى في العالم العربي. وقد أصاب النظام السياسي السعودي صداع كبير، نتيجة لربط المؤرخين والباحثين بين الوهابية وبين نهوض بيت آل سعود السياسي، خاصة بعد تزايد موجات الإرهاب في الشرق الأوسط من قبل سلفيين متشددين، وُصفوا بأنهم استقوا أحد ينابيعهم من الوهابية. ومن هنا، كان توحُّد وتفرُّد المجتمع السعودي، لسوء الحظ، أو لحسن الحظ.

2- كان للاستعمار في العالم العربي عامة وفي الخليج خاصة دور ايجابي، في انفتاح المجتمع على العالم. وفي تبني هذه المجتمعات لبعض القيم الغربية، وخاصة ما يتعلق بتموضع المرأة. والسعودية، هي البلد الوحيد في العالم العربي، الذي لم يُستعمر من قبل الغرب، ولم يطأ أرضه حتى الآن بسطار عسكري محتل. وما الوجود العسكري المؤقت الذي شهدته السعودية، أثناء الحرب العالمية الثانية (قاعدة الظهران)، وفي 1991 ، إلا من ضمن ما كان يجري في الشرق الأوسط عموماً. وعدم خضوع السعودية للاستعمار الطويل كباقي بلدان الخليج العربي، أدى إلى مزيد من الانغلاق الاجتماعي والثقافي عن العالم، رغم ما للاستعمار من مساوئ كثيرة معروفة. وبقيت السعودية حتى الآن نتيجة لذلك أكثر المجتمعات العربية ابتعاداً عن قيم الغرب الاجتماعية والثقافية. ومن هنا، كان توحُّد وتفرُّد المجتمع السعودي، لسوء الحظ، أو لحسن الحظ.

3- لقد لعبت الأحزاب العربية على فقرها السياسي والفكري دوراً اجتماعياً أكثر أهمية من دورها السياسي في العالم العربي. فكان انتشار هذا الكم الكبير من الأحزاب في بلد كالأردن – مثالاً لا حصراً – سبباً رئيسياً في الانفتاح الاجتماعي، وخاصة في العاصمة والمدن الرئيسية التي كان للأحزاب السياسية فيها نشاط ملحوظ. كذلك لعبت الأحزاب العلنية والسرية في الكويت وخاصة "حركة القوميين العرب" دوراً مهماً في الانفتاح الاجتماعي الكويتي، أكثر مما لعبته في الانفتاح السياسي. وهذا العامل المهم لم يوجد في السعودية. وظلت الأحزاب بعيدة عن المجتمع السعودي. ولم يتم انشاء الأندية الثقافية والجمعيات الخيرية الاجتماعية، والتي هي من عناصر المجتمع المدني، إلا منذ مدة قريبة في الثمانينات والتسعينات. وهذه الأندية من أقدم أشكال المؤسسات الحديثة في المجتمع الخليجي عامة، وقد بدأت الأندية أدبية- دينية، ثم تطورت إلى جمعيات وأندية ثقافية ورياضية، وبعضها تخصصية (الخريجين، النساء...الخ)، ثم تداخلت معها في مرحلة ثانية بتشكل الجمعيات بمختلف أنواعها (المهنية، والنسائية، والتخصصية) (عبد النبي العكري، الديمقراطية المعاقة في الخليج).

4- لا شك أن المزج الاجتماعي بين المجتمعات العربية بفعل الهجرة والهجرة المعاكسة، وخاصة بين المجتمعات المتقدمة اجتماعياً وثقافياً، وبين المجتمعات التي دون ذلك، قد ساعد على انفتاح هذه المجتمعات. وهذا ما شهدناه في الأردن مثلاً بعد عام 1948 عندما هاجرت جموع الفلسطينيين إلى الأردن، وتمّت الخلطة الاجتماعية الأردنية – الفلسطينية بين البدو والحضر، والتي انتجت النخب الحالية. وهذا ما شهدناه في دولة خليجية كالكويت – مثالاً لا حصراً - التي انفتحت منذ الخمسينات على الفلسطينيين والمصريين خاصة، مما أسهم في انفتاح الكويت الاجتماعي والثقافي. وتأخر وصول العمال والموظفين العرب إلى السعودية، الذي بدأ بشكل كبير في السبعينات فقط، خاصة بعد الطفرة النفطية 1973، وبشكل محدود لم يتعدَ في عام 1971 أكثر من 18 بالمائة، في حين كانت نسبة الهجرة إلى الكويت 60 بالمائة (خلدون النقيب، المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية، ص127) وقد لعب هذا العامل دوراً في انغلاق المجتمع السعودي على نفسه. ولعل مما ساعد المجتمع السعودي على الانفتاح قليلاً، هو هجرة المسلمين من جنوب وشرق آسيا وتركيا وأوروبا الشرقية إلى منطقة الحجاز(المنطقة الوسطى) بالذات التي تعتبر اجتماعياً أكثر انفتاحاً من منطقة نجد والمنطقة الشرقية (الدمام والخبر) والجنوبية (عسير وما حولها) . إلا أن المجتمع السعودي لم يستفد انفتاحياً من الهجرة العمالية العربية في الطفرة النفطية الأولى (1973-1982) اليه، فيما لو علمنا أن النسبة الكبرى من المهاجرين كانت من اليمن (أكثر من 40 بالمائة) المتخلف والمنغلق اجتماعياً ودينياً. في حين كانت هذه النسبة متدنية جداً من المجتمعات المدنية الحديثة (مصر 12 بالمائة، ولبنان وسوريا 2 بالمائة فقط) وبلغت نسبة الآسيويين من باكستانيين وفيلبينيين 20 بالمائة، وهي دول متخلفة ومنغلقة اجتماعياً أيضاً (سعد الدين ابراهيم، النظام الاجتماعي العربي الجديد، ص 155، 156).

5- وأخيراً، فإن استضافة السعودية للإخوان المسلمين الفارين من مصر ومن سوريا، في الستينات والسبعينات، ضمن حركة "التضامن الإسلامي" السياسية التي قادها الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز، لكي تقف في وجه المد الاشتراكي/القومي/الناصري/البعثي، قد ساهمت في انغلاق المجتمع السعودي، حيث نشرت وسيطرت عناصر جماعة الإخوان المسلمين على التربية والتعليم والإعلام، وفرضت كتب سيد قطب وأفكاره على مناهج التعليم وسياسة الإعلام. كما أن انتشار التيار الديني بين الطبقات المتوسطة وبخاصة الفئات الدنيا المسحوقة قد ساهم أيضاً في هذا الانغلاق. وقد اشتد هذا التيار في السبعينات متزامناً مع الثورة الاستهلاكية التي أعقبت زيادة أسعار النفط بعد حرب 1973 رغم أنهما في الواقع يمثلان تيارين متناقضين متعارضين، كما يقول خلدون النقيب ( المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية، ص176).

وهناك سبب اجتماعي نتج عن كل الأسباب السابقة وهو:

فات على الكثيرين ملاحظة، أن المجتمع السعودي هو أعرق المجتمعات الإنسانية المعاصرة ذكوريةً. وأن السلطة والهيمنة والسطوة الذكورية البطركية/الأبوية الموجودة في المجتمع السعودي، لا يوجد مثيل لها في أي مجتمع آخر في العالم. علماً بأن المرأة تمثل أكثر من خمسين بالمائة من عدد السكان. والمرأة منذ نعومة اظافرها معزولة عن الرجل في المجتمع السعودي بشكل لا مثيل له في أي مجتمع من المجتمعات. وهي مُكرّسة للعَلَف والخَلَف فقط (في بيتكِ تُحمدي). وهذا أدى إلى أن يصبح المجتمع السعودي كمجتمع بطركي/أبوي وذكوري مقاوماً للتغيير. وهذه خاصية أساسية من خصائص المجتمع الذكوري بمعنييها الديني والقومي على السواء (هشام شرابي، البنية البطركية، ص58). ومجلس الشورى السعودي الذي التهمه "ثعبان آل زلقة والبخاري"، ليس فيه امرأة واحدة تدافع عن حقوق المرأة. كما أن المرأة مغيّبة في كل الشؤون العامة. وباعتراف النساء السعوديات، فإن المرأة السعودية تعيش ضمن مجتمع تسوده أعراف وعادات وتقاليد وهيمنة سلطة المجتمع الذكوري بالكامل ، وذلك نتيجة للخلط القائم بين مبادئ الدين الإسلامي الذي أعزَّ المرأة وكرّمها، وبين تلك الأعراف والتقاليد والعادات المجتمعية المقيتة والبالية (نوال اليوسف، المرأة السعودية وحقها الحواري). وهو ما سبق وقلناه، من أن اشكالية المرأة السعودية وتموضعها الحالي، ناشئ عن القيم الاجتماعية وليست الدينية بالدرجة الأولى. ويؤكد الشيخ محمد تقي باقر، أن "المجتمع الذكوري هو الذي ظلم المرأة لا الإسلام، وان المرأة في ظل الإسلام محترمة ومكرّمة وليس عليها تكليف أو واجبات ما عدى التبعل. وهذا يعني انها الأولى والأخيرة في بناء جذور المجتمع الإسلامي. وعلى الرجل أن يُهيئ كافة الأسباب لإسعادها وخدمتها. وهي بنص القران أرفع مقاماً من الرجل بدرجات، وأنها الطريق الى الله. فالله لا يتقبل دعاء الاعزب". (موقع المسلم الحر على الانترنت). وقيم المجتمع الذكوري/القبلي في السعودية فيما يخص المرأة، تتركز في حجب النساء ودونية الأنثى، التي لخصها الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري بقوله، أن "النساء حبال غي". وعلينا أن ننتبه، أن قيم المجتمع الذكوري/القبلي في السعودية وفي العالم العربي عموماً، هي مثار قلق الأوساط الغربية عموماً، ومثار سخطهم على المجتمعات والأنظمة العربية. وأن قضية المرأة أصبحت اليوم تستأثر باهتمام المجتمع الدولي، لما تعانيه من حيف في المجالات الاجتماعية والسياسية، ومن دونية وإقصاء. وهذا يعود إلى جذور تاريخية وأنظمة اجتماعية متعاقبة، كرّست تسلط المجتمع الذكوري، الذي لا يعترف بقيمة عمل المرأة بحجة القوامة، أو ذريعة الفوارق البيولوجية. فتعززت مكانة المرأة بصدور الاتفاقية الدولية للقضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة، ثم بانعقاد مؤتمرات دولية انطلاقاً من مؤتمر نيروبي 1985، ووصولاً إلى مؤتمر بكين 1995 ، الذي اعتمد استراتيجية النهوض بالمرأة والقضاء على كل أشكال التمييز القائمة على الجنس والعرق، كما تقول الباحثة المغربية فاطمة وريط. وتكاد تتفق تقارير المنظمات الدولية الخاصة بحقوق الانسان، على أن المرأة السعودية، تمثل نموذجاً فريداً في سياسات الاضطهاد القائمة على الجنس (ذكور/إناث). وهذا الاضطهاد القائم على أضلاع متعددة: سياسية وثقافية واجتماعية، يأتي في ظل تواضعات محلية، على اعتبار أن حقوق المرأة جزء اعتيادي وغير جدير بالاهتمام والملاحظة. وخصوصاً حين ينظر اليه في سياق نقص الوعي الحقوقي وسط النساء السعوديات، الذي ساهم بدرجة كبيرة في تكريس الاختراقات المتكررة ضد حقوق المرأة. ولا يغيب عن بالنا، بأن المجتمع السعودي الذكوري، كأي مجتمع آخر، هو مجتمع أحادي. وقد انعكست هذه الأحادية في المجتمع الذكوري التقليدي إلى أحادية في الحياة الدينية والسياسية (حسن حنفي، النساء بين الغياب والحضور، جريدة "الزمان"، 11/2/2004).

إذن، فموضوع طرح مذكرة السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة أو عدم السماح، ليس موضوعاً عابراً، ومجرد مذكرة شورية، أصبحت حديث مصاطب المساء، ومجالس القهوة العربية المُرّة، منفصلاً عن الحراك الإصلاحي التعليمي والتربوي والسياسي والاقتصادي في السعودية. بل هو خيط رفيع أو غليظ، في ذلك النسيج الإصلاحي الأعم والأشمل. ومن هنا تأتي أهميته وحيويته.