هل مازالت حواء العربية مزنزنة في علبة مكياجها ؟



محمد القصبي
2014 / 3 / 9

مع كل حركة للتغييرات الصحفية في مصر أخوض والعواجيز مثلي في صحيفة المسائية التي تصدر عن مؤسسة دار أخبار اليوم القاهرية جدلا واسعا ..من نرشح من صحفيي الجريدة ليشغل منصب رئيس التحرير؟وكل يدلي برأيه ..وكل الأراء تتوحد في اتجاه واحد ..ذكورية المنصب ..وخلال إحدى جلساتنا قلت :ولماذا رجل ؟ لماذا لانشذ عن هذا العرف المتداول منذ تأسيس الصحيفة ونرشح زميلة وندعمها بقوة ؟فإذا بنظرات الدهشة تتقافز في الوجوه في صمت ..انفلت منه أحد الزملاء ليسأل: وهل توجد بين الزميلات من تصلح رئيسة للتحرير ؟ قلت :الصحيفة تضم أكثر من 70 محررة ..من بينهن مديرات و نائبات رئيس تحرير ..هل نعجز عن العثور على واحدة تصلح لشغل المقعد ؟!فإن فعلناها فلن نأتي بما لم يأت به غيرنا ..تاريخ الصحافة المصرية يحتشد بصحفيات شغلن مناصب قيادية.. فاطمة اليوسف التي أسست دار روز اليوسف ..أمينة السعيد رئيسة مجلس إدارة دار الهلال .. سناء البيسي رئيسة تحرير نصف الدنيا ...
ليقاطعني أحدهم : كن رئيسات تحرير مجلات أسبوعية ..ولاأظن أن واحدة تطيق عبء قيادة جريدة يومية !
تخبو نظرات الدهشة ..لتحل مكانها عتمة الفتور بما قلت والرضا بما قال ..لكن هذا لم يفت في عزيمتي ..اتصلت بزميلة .. تملك قدرات مهنية ولغوية وثقافية جيدة..كما أنها زوجة شهيد سقط خلال أحداث ثورة 25 يناير..ربما منحها هذا أولوية عند طرح إسمها على المجلس الأعلى للصحافة .. عرضت عليها الأمر..شهقت في دهشة : أنا !
شعرت بأن دهشتها تنبع من البئر الذي طفحت منه مشاعر ذكور الجريدة حين عرضت عليهم اقتراحي ..وذاتها نفس المشاعر التي تقافزت في عيون أخريات عندما ناشدتهن أن يترشحن! ماذا يحدث ؟ وهذا ما ألحظه في الصحيفة وفي مواقع عمل أخرى ..وكأن طموح المرأة المصرية..بل العربية استقر عند خط بعينه ..لاالرجل ..ولاحتى المرأة يرغبان في تجاوزه ..حين تلتحق الفتاة بالجريدة تبذل جهدا كبيرا ..وتغوص في الشوارع والميادين بحثا عن مادة صحفية جذابة إلى أن يجري تعيينها وتصبح عضوا بنقابة الصحفيين..فيبدأ مداد قلمها يجف ..وتتكاسل خطاها ..فإن تزوجت ..وأنجبت ..فلانراها في الصحيفة إلا نادرا ..تأتي في الصباح الباكر لتثبت حضورها وتنصرف ..واليوم الوحيد الذي يمكن أن تظهر فيه على الملأ..مع صرف الراتب أو المكافآت ..!لتنقطع علاقتها بالمهنة إلا من بيانات بطاقة نقابة الصحفيين ..وإسمها الذي يعلو أخبارا باهتة تصيغها إدارة العلاقات العامة والإعلام بالوزارة التي تتولى تغطية شؤونها...وترسلها لها عبر البريد الأليكتروني ..لتعيد الزميلة إرسالها للجريدة ! بالطبع ثمة نماذج جيدة ..لاتكل ولاتمل من العمل ووأرق المهنة ومتاعبها ..والسعي الدائم نحو السبق الصحفي يلاحقها حتى في منامها ..لكن حتى هؤلاء يستقر في قرارهن أن منصب رئيس التحرير مدموغ بختم الذكورة ..هن يعملن بكد ليثبتن وجودهن كصحفيات ..لكن أن يقودن فلا أظن أن هذا هدف يتصدر قائمة طموحهن .
ولقد تحدثت مع اكثر من زميلة في الأمر..وكان سؤالي لكل منهن :هل تشعرين بالفعل أنك صحفية ؟
وكانت إجاباتهن أعذارا تتوحد حول ظروف كل منهن كزوجة وأم تحول دون أن تمضي بعيدا في طموحها الصحفي .
هذا شأن قطاعات كبيرة من النساء المصريات ..بل والعربيات الآن ..وتبدو المرأة و كما يقول المثل المصري "زي اللي رقصت على السلم..لااللي فوق شافها ..ولا اللي تحت شافها !!"..أي أنها حين خرجت تطالب بحقها في العمل كان ينتظر منها أن تسعى بقوة لإثبات وجودها كشريك فاعل في بناء المجتمع !ولقد حصلت على ماتطمح إليه ..وبدعم من الرجل ..فهل هي جديرة الآن بما حصلت عليه من مكاسب ؟!
أفكار تلح علي ونحن نحتفل بالثامن من مارس / آذار - اليوم العالمي للمرأة-..وهو الاحتفال الذي تحتفي فيه حواء ونحتفي معها بما حققته من طموحات على مدار رحلة كفاح تمتد لأكثر من مئة عام..ولمن لايعرف كانت ضربة البداية في 8مارس عام 1908حين خرجت الآلاف من عاملات النسيج الأمريكيات للتظاهر في شوارع مدينة نيويورك ..وهن يحملن قطعا من الخبز اليابس وباقات من الورود في خطوة رمزية لها دلالتها.. واخترن لحركتهن الاحتجاجية تلك شعار "خبز وورود". حيث طالبن بتخفيض ساعات العمل ووقف تشغيل الأطفال ومنح النساء حق الاقتراع..وكانت مسيرة الخبز والورود تلك اللبنة الأولى في حركة نسوية نشطة في الولايات المتحدة سرعان ما امتد تأثيرها إلى أوربا ..ثم أنحاء العالم .. لتتخذ منظمة الأمم المتحدة قرارهاعام 1977 باختيار الثامن من مارس يوما للمرأة ..ولم تمض سوى سنوات قليلة ..حتى بدأ جنين موجة أنثوية جديدة يتشكل في الرحم الأمريكي
تلك التي أطلقوا عليها "نسوية ما بعد الحداثة"..؟ وترتكز فلسفتها على أن المرأة تختلف عن الرجل في بعض الخصائص البيولوجية والنفسية.. وأن في ذلك تمييزاً حقيقياً وليس انتقاصاً من شأنها..وواكب ظهور هذه الحركة موجة قوية من الانتقادات ل "المنجزات" التي حققتها الهيمنة الذكورية على العالم.. كما ظهرت دعوات لرفض انفراد الرجال بحكم الكوكب بسبب المآسي التي جرها ذلك الأمر على الإنسانية بشكل عام .."
ويرى أنصار نسوية ما بعد الحداثة أن المرأة الأجدر بأن تكون المهيمنة على غرف صناعة القرار ..من منطلق أن السيطرة الذكورية على القرار السياسي كانت وراء الظاهرة الإستعمارية واضطهاد الشعوب الضعيفة .. وتدعم هذا الاتجاه دراسات علمية وأكاديمية تحاول الربط بين الهيمنة الذكورية على غرف صناعة القرار في الغرب بشكل خاص واضطهاد الشعوب الضعيفة عبر تشريح فترات الاستعمار التي تعرضت لها تلك الشعوب.. كما ظهرت دراسات نقدية لما سمي بالعقلية الذكورية التي خلصت إلى أن تلك العقلية تسببت في قهر شعوب العالم الثالث والطبيعة والمرأة!. وبدأ في تلك المرحلة تغير واضح في نوعية الأهداف التي تناضل من أجلها المنظمات النسائية داخل الولايات المتحدة حيث ظهرت دعوات لتحسين ظروف معيشة الشعوب المقهورة ومنح جميع سكان العالم فرصة تحصيل العلم والتمتع بالديمقراطية ! وهذا بلاشك تطور نوعي ..فما عادت المرأة مزنزنة مطالبها في علبة مكياجها ..أعني الحقوق الخاصة جدا بكونها إمرأة ..بل أصبح لديها من الوعي والبصيرة لتدرك كم المظالم التي حاقت بالبشرية..من فقر وقهر للشعوب الضعيفة ..وعلى ما يبدو يتكيء خطاب "نسوية ما بعد الحداثة " على أن قرارات الرجل تصدر من تلك الخلايا الغريزية في الفص الأيسر من دماغه ..لذا تستهدف إشباع غريزة القنص والقتل والتملك ..فإن ملكت المرأة مفاتيح غرف صناعة القرار ..فمن نهر إنسانيتها الذي يترقرق بهرمون الإستروجين تتدفق قراراتها بردا وسلاما على البشر!
هل أبدو متعاطفا مع قضية حواء ؟ وهذا مثار فخري كإنسان ..لدي شعور عميق بأن المرأة أكثر رقيا وتحضرا وجلدا من الرجل ..هكذا خلقها الله ..ولو أتيحت للفتاة نفس البيئة التربوية التي تتاح للصبي لكان لها شأن أعلى في رؤيتها الإنسانية والاجتماعية ..بل والسياسية ..لذا أكن تقديرا خاصا لكل من يطهر الطريق أمامها من المتاريس لتنطلق ..فتخصب مجتمعها بفكرها وإنسانيتها ليتحضر ويرتقي..
وأتذكر حين وطأت أقدامي أرض سلطنة عمان للمرة الأولى عام 1979أدهشني ما أرى ..النساء يعملن في الوزارات وبعضهن يشغلن مناصب قيادية ..وعدت إلى البدايات ..إلى اللحظة الأولى لتوليه مقاليد الحكم ..حين وجه السلطان الشاب المفعم بالحماس والطموح نداءه لكل العمانيين وفي كل أنحاء المعمورة ..أن يعودوا وينخرطوا في معركة بناء الدولة الحديثة ..وما أقصى السلطان قابوس النساء ب" إلا "..
لم يقل الكل مدعو للمشاركة في العمل والبناء إلا المرأة ..فلاتبرح بيت أبيها إلا لبيت زوجها فالقبر !لم يقل هذا ..بل شمل نداءه الجميع .. رجالا ونساء ..ومنح للكفاءات بينهن أدوارا ومناصب ..مثل الرجال ..في الوقت الذي كانت فيه مجتمعات أخرى غارقة في جدليات تنهك قواها على شاكلة : هل إذا ظهر ظفر إصبع إمرأة أمام غريب تكون بذلك قد ارتكبت إثما يجلب لها ولأهلها العار ..ويكون مثواها النار !! لذا كان حماسي متدفقا وأنا أمارس عملي الصحفي كمدير تحرير مجلة الأسرة .. أجوب الوزارات والولايات ..ومراكز تعليم الكبار أفتش عنهن.. فأغمس قلمي في أنهار طموحاتهن لأكتب ..
ومازلت أتلقم كل خبر عن مكسب لهن بفرح..فمكاسبهن مكاسب للمجتمع ..للحياة .. كهذا الخبر الذي فاجأتني به زوجتي وأنا منهمك في كتابة سطوري تلك : حزب الدستور المصري اختار الدكتورة هالة شكر رئيسة له خلفا لرئيسه السابق الدكتور محمد البرادعي !
هرعت إلى المواقع الأليكترونية في لهفة إلى التفاصيل ..وما أطيبها..
هالة شكر حصلت على 107 من إجمالي أصوات الجمعية العمومية للحزب والبالغ عددها 203..بينما احتلت المركز الثاني الإعلامية جميلة إسماعيل " مطلقة الدكتور أيمن نور زعيم حزب غد الثورة " وقد حصلت على 57 صوتا .. .أي أن إمرأتين فازتا بالمركزين الأول والثاني ..رغم أن غالبية أعضاء الحزب من الرجال ..هذا يعني أن ثمة شعورا عميقا لدى الأعضاء بأن المرأة الأقدر على أن تقود هذا الحزب الكبير وسط تلك الأجواء العاصفة التي تمربها مصر الآن ..وتلك المرة الأولى عربيا التي تشغل فيها نون النسوة ..منصب رئيسة حزب ..وعقب إعلان النتيجة ..لم تبد الرئيسة الجديدة لأحد أهم الأحزاب المصرية فرحتها ..بل قالت في هدوء : أظنها مسئولية كبيرة جدا جدا ..أجد نفسي أمامها الآن !
وآمل أن تؤديها بنجاح ..! كي أشعر أن ثمة نماذج أخرى تسير في الاتجاه الصحيح ..ولم يختزلن طموحهن في ..بطاقة نقابة الصحفيين !