كلاّ....أنا لست حرة



بشرى ناصر
2005 / 7 / 8

في الثامنة من عمري تعلقت بمثل عربي يقول: تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها ... أجزم أن (الحرة) هي ما راقني في المثل؛ تلك المفردة المشعة و التي توافق أجمل ما يمكن أن أسمعه من غزل :( بنت حمايل).... لذا ارتبطت منذ سن مبكرة كلمة (الحرة) بمفردة (بنت حمايل).
(أنا حرة) ... قلتها في مراهقتي الأولى فقاطعتني أمي وحزن والدي حزناً شديداً ...كم من الزمن احتجت لأفهم أن (الحرية) ذلك الحلم العذب يختلف جملة وتفصيلاً عن تلك التي مسخ فيها عقولنا(إحسان عبد القدوس) بنساءه الخاويات ؟ وقبل أن أغادر مراهقتي بقليل كان عقلي يشتغل على العلاقة بين الحرية و(الحمولة) أو القبيلة أوالعشيرة الأصيلة والحرية ..... وبين هذا وذاك رحت أقيّم حريتي التي لا أدري كم من سنوات احتجت لأفهم أنها تبدأ من رأسي وتنتهي إليه ؛ فتفرض نمطاً معيناً من سلوك وتفكير...وتتمثل بجملة واحدة :المثقف الحر هو الذي لا يخاف ثقافة العامة ولا ثقافة الملتحين ولا (يبوس) أقدام السلطة .... ورحت أتخيل أنني أخفي تحت ثيابي قلب ذئب ... أوأقبض على جمرة بطمأنينة ؛ هذا في الكتابة التي اخترت لها الاحتفاء بالواقع كأحسن مما ينبغي ....لكنني ومع سن النضج والتأمل اكتشفت أن الكتابة أفضل محاولة لتزويق الواقع وتلفيقه ...فالحياة تنصب لك الكمائن والمصائد في كل مرة وبالقدر الداعي لطرح سؤال قديم مشتعل دائماً: هل أنا حر؟ واذا كانت المعرفة تجعلك حراً فما فائدتها إذا استطاع متطرف واحد من تهييج عشرات الآلاف من البشر ضدك ؟ ويظل السؤال مفتوحاً كلما اقتربت من المعرفة وبشكل يضعك في مواجهة مع الجسد ؛فعلاقة مجتمعاتنا العربية بجسد المواطن علاقة (تطويع)لما يخدم سلطة القانون الجمعي للنظام السائد ويتفق معها ؛ ولذا فنحن نطوع أجسادنا بما يلائم الحكومات التي تنصّب قائمين وموظفين بمراكز دينية واجتماعية وقانونية لتأديبنا أو تأديب أجسادنا وتنميطها؛ فهذا التنميط ينطبق على الرجل والمرأة معاً لكن النساء يتعرضن لتنميط مضاعف وخضوع مزدوج ولذا فنحن النساءنقمع بشكل مضاعف؛ و نحمل أجسادنا وكأنها مؤجرة لا نمتلكها كاملة بل تتبع لصاحب الحق رغم (اهتمامنا ظاهرياً بها كما ذكرت فيما سبق) فأنا ملك لوالدي وأشقائي بالدرجة الأولى ؛ ثم يأتون أصحاب الحق الأخرين بي من أعمام حتى آخر فرع في العشيرة أو القبيلة ؛ ربما آخرهم في المرتبة قرابة الأم هكذا تفززنا الذاكرة الشعبية أن:(العم وليّ) بينما(الخال خلي ) أي خالي المسؤولية لكنه لا يصير خالياً إذا اختفى قطيع الرقباء والأوصياء على جسد المرأة ؛ ولأننا لا نملك أجسادنا يعين حراساً ورقباء علنيين وسريين عليها حتى يحين الوقت ليأتي المستأجر الجديد (الزوج) فيقدم ثمن البكارة بمهر مرتفع يدعونا للتباهي والرضا لحسن صيانة الجسد؛ ولتبدأ مرحلة جديدة أكثر شراسة وقسوة تتمثل في صيانة الجسد المستمرة بكل أشكال الأنشطة (الإفروديتية) للحفاظ على نعومته وطراوته لإرضاء الزوج أو المالك الجديد ...واقتناء كل ما من شأنه استفزاز رجولته من مكمنها كي (لا تزوغ) عيناه على امرأة أخرى بما فيهن الممثلات والفنانات (العجرميات) ؛ ولأن الجسد ليس للمرأة ولا ملكها ؛ فالإرهاق والتعب يبدو ترفاً وحاجة غير شرعية طالما (الملائكة) تلعنها وثمة من ينام دون أن تقول له : هل لك حاجة أقضيها ؟ بل تصبح مسؤولة مسؤولية تامة عن إعراض الرجل عنها واتخاذ محظيات أو زوجات أو ارتكب الزنا .... ليصير جسدها مداناً متهماً مرتين؛مرة لأنه عرضة (للدنس ) بالحيض والنفاس تلك المبررات الجاعلة منا كائنات درجة ثانية؛عبر التلخيص بناقصات( العقل والدين)ودافعاً لتميز الذكور؛ ومرة لكونه لم يفرض قدسيته على الزوج طالما لم يروض الرجل ليثنيه عن غزواته وفتوحاته ؛ وللرجل حرية تغييرنا وتبدلينا كما يبدل ملابسه؛ بينما لا نملك الحق حتى للاحتجاج على ما يطالنا من تعسف واظطهاد... والأنكى أن مجتمعاتنا العربية تستقبل خيانة الأزواج بابتسامة عريضة ؛ وكأنه مسألة عادية وطبيعية.
ولأن حرية المرأة موضوع شائك ومعقد فالفرح النسائي الجمعي المرافق لاستوزار النساء أو تقلدهن مناصب قيادية لا يمثل تغييراً كبيراً طالما الثقافة السائدة لا تزال تضع جسد المرأة رهن التأجير؛ بدليل بعض التراجع البسيط لدى الحكومات العربيةلاحتكار النساء بمنحهن الفتات باستعادة النزر القليل من حقوقهن مثل قيادة السيارة؛ أو حق التنقل وحرية السفر؛وبانتظار تحقيق الكثير من المطالبات والحريات المادية والمعنوية والتي تمثل أهمها على الإطلاق : التميز القانوني؛ العنف الأسري؛ المساواة بداخل المنزل الزوجي؛ تنقيح مؤسسات التعليم من الأفكارالمسيئة للنساء؛دفع الحكومات بالقوانين الوطنية وآليات التنفيذ لصالح خلق العدل والمساواة بين الذكور والإناث فعلاً .....لتحقيق الحد الأدنى للحق النسائي والمتمثل في كثير من القرارات مثل:حرية تزويج أنفسهن واختيارما يرغبن الزواج به؛ وكثير أعجز عن المرور عليه لضيق المساحة؛ والذي يدعوني للاعتراف : أنني لست حرة ..... وأن (بنت الحمايل) ما عادت مفردة تدغدغ أعصابي وتسعدني.