المرأة حين تتحالف مع الموروث ضدّ إنسانيتها.



إيمان أحمد ونوس
2014 / 4 / 6

مما لا شكّ فيه أن الموروث بشقيه الديني والاجتماعي، إضافة إلى القيم والأعراف والتقاليد قد طغت في كثير من جوانب الحياة حتى على القانون، حيث صار للعرف مكانته الخاصة أثناء تشريع بعض القوانين، لاسيما تلك المتعلّقة بالمرأة.
لكن أن يصل هذا الطغيان حدّ تبني المرأة ذاتها هذا الإرث والإيمان الراسخ فيه، فهنا الطامة الكبرى، لاسيما عندما تكون هذه المرأة على قدر معقول من التعليم أو حاصلة على شهادات جامعية من المفترض أن تؤهلها للأخذ بالمنطق العلمي والقانوني أكثر من المنطق التقليدي والقيمي المتجذّر بالذهنية الاجتماعية المقيّدة لها عن كل انطلاق.
والأكثر دهشةً وغرابةً، وجود نساء مؤمنات وبقناعة راسخة بحقوق الرجل الممنوحة له إن كان في الشرع أو حتى في التقاليد والأعراف الاجتماعية سواء في تعدد الزوجات، أو سيادة مبدأ القوامة والولاية عليهنّ مهما صغُرَ شأنه، أو حق السيادة المطلقة في الحياة الزوجية والأسرية، لاغياً دورها ورأيها في تأسيس الأسرة وتربية الأبناء، منطلقة من أن الرجل أكثر دراية ومعرفة منها وهي الضلع القاصر قليل الخبرة، ضعيف الرأي بنظرها.
مها مدرّسة مادة العلوم الطبيعية في إحدى الثانويات ترى أنه من الطبيعي تماماً أن يتزوج زوجها امرأة أخرى وحتى دونما أسباب موجبة، وهي على استعداد تام وبقناعة كبيرة أن تخطب له من يختارها انطلاقاً من أن الدين والشرع قد حلل له أربعاً وهذا حقه، وأنها لا تريد أن تغضبه كي لا تخسر رضا الله.
هل يُعقل، ونحن في زمنٍ تُنادي فيه معظم نساء العالم العربي والإسلامي مع الحركات النسوية بضرورة منع تعدد الزوجات لما له من عواقب أليمة ليس فقط على المرأة ذاتها، وإنما أيضاً على الأولاد والمجتمع عموماً أن ترضى هذه المرأة لزوجها بزوجة ثانية تخلخل علاقتها العاطفية والزوجية مع زوجها ووالد أطفالها..؟ وهل إرضاء الله يتطلب تشتيت الأولاد وخراب الأسرة إرضاءً لنزوات رجل لا يكترث لمسؤولياته وواجباته الأبوية والزوجية بقدر ما يكترث لرغباته العابرة..؟ ومن جهة أخرى، كيف تقبل امرأة أخرى أن تكون زوجة ثانية تؤذي بوجودها إنسانية وكرامة امرأة مثلها..؟ ألا يمكن للرجل الذي رغب بزوجة ثانية أن يرغب مرّة أخرى بزوجة ثالثة..؟
هند جامعية وموظفة في إحدى الوزارات، ترى أنه من حق الزوج أن يتزوج ثانية إن لم تُنجب له الذكر، منطلقة بذلك من حقه في أن يرثه ابن من صُلبه يحمل اسمه، لأن البنت لا يمكنها أن تُمثّل هذا الامتداد على اعتبار أنها في النهاية لزوجها وعائلته، بينما الذكر هو من سيحمي شيخوخة أبويه.
بدايةً، ألم تتعلم هذه الجامعية في المدارس والجامعة أن الرجل هو المسؤول بيولوجياً عن تحديد جنس الجنين، وبالتالي لا ذنب للمرأة في إنجاب الإناث فقط..؟ ثمّ، ألا تُدرك هذه السيدة ومن خلال ذاتها على الأقل أننا في زمنٍ أصبحت فيه الفتاة مثلها مثل الشّاب تعليماً ومسؤولية وربما أفضل، وأننا في زمنٍ بات فيه الابن الذكر لا يمثل امتداداً سوى لذاته وكينونته فقط، وربما غير قادر بحكم الأوضاع الاقتصادية على تحمّل مسؤوليات أسرته بعيداً عن تحمل مسؤولية شيخوخة والديه، إضافة إلى أننا في مجتمع غالباً ما تكون فيه الفتاة أكثر تعاطفاً وتواصلاً وحناناً تجاه والديها من الشّاب..؟
وفاء موّظفة في إحدى الشركات مقتنعة تماماً أنها ضلع قاصر لا يمكنها حماية نفسها في مجتمع لا يرحم، وهي بحاجة دائمة لوجود رجل يحميها ويؤمّن لها احتياجاتها اليومية، معتمدة بذلك على أخيها الذي يصغرها بسنوات، ولا يملك من مقوّمات الأهلية ما يؤهله لحماية نفسه.
ما يُثير الدهشة فعلاً، أن تتمثل امرأة منتجة ومتعلمة هذه المفاهيم، وأن تُمعن في دونيتها إلى هذا الحدّ بعيداً عن أهلية الأخ، أو أن تُقلّص كيانها الإنساني إلى ضلع قاصر يحتاج لرعاية وحماية الآخرين مهما كان شأنهم، وربما هي المسؤولة عنهم مادياً، أليس في هذا المنطق استلاب مطلق للهيمنة والتبعية الذكورية، واستغراق مقيت لعدم تقدير الذات وضرورة توكيدها من خلال التعليم والاستقلال المادي..؟ ثمّ، ألا تعلم تلك المرأة أنه إن لم تكن المرأة قادرة بذاتها على حماية نفسها، لا يمكن لأحد آخر حمايتها مهما بلغت سطوته وقوته..؟
نهى ربة منزل لم تُنجب سوى البنات، دائمة الحزن والتأفف، أليس همّ البنات للممات برأيها..؟ تخاف عليهنّ من غدر الزمان لأنه لا أخ لهنّ يحميهن.
لتعلم تلك السيدة، أولاً، أنها ليست مذنبة إن لم تلد الذكر الذي يجعلها محظية لدى الزوج والمجتمع، فحظوتها ومكانتها تصنعها بذاتها ولذاتها من خلال فكرها وثقافتها ومهاراتها في التعامل مع الآخرين والحياة. ثانياً، أنها ومن خلال تربيتها لبناتها يمكنها أن تحصنهنّ وتحميهنّ عندنا تعزز لديهن قوة الشخصية من خلال الاعتداد بالنفس والاعتماد على الذات بناءً على الثقة والحرية الحقيقية التي تؤهلهنّ لذلك، إضافة إلى دفعهن وتشجيعهن على إكمال تعليمهن وانخراطهن بالحياة العملية، بدل خوفها الدائم عليهن لعدم وجود أخ يحميهنّ، لأن هذا الخوف وبشكل غير مباشر سينتقل إلى بناتها فيُعدن بالتالي إنتاج منظومة التفكير ذاتها، ويتقوقعن داخل شرنقة الضلع القاصر المحتاج إلى ولاية وقوامة وحماية، ولا فكاك لهنّ إلاّ بالزواج من رجل يحمل تلك المسؤولية برأيهنّ وأمهنّ.
أما هدى المتزوجة منذ أعوام وأعوام عاشتها بالقهر والحزن لما عانته خلالها من ظلم وقسوة وعنف زوج مستهتر لا يرحم لا إنسانيتها ولا حتى أمومتها، غير ملتزم بمسؤولياته تجاه أسرته وأولاده، غالباً ما يعتاش على راتبها دون خجل أو احترام لتعبها، ورغم كل هذا لا تريد الانفصال عنه، لأنه برأيها أرحم من كلمة مطلّقة في مجتمع ينتقص من قدر المرأة المطلّقة التي تبقى دوماً في خانة الشك والاتهام والمراقبة الحثيثة التي تُقيّد حريتها وحركتها، متناسية أو متجاهلة أن الطلاق حق لها مثلما كان الزواج، وأن المرأة الواثقة بنفسها، والقادرة على تحمّل مسؤولياتها تجاه ذاتها وأولادها تُرغم المجتمع على احترامها، ومن ثمّ تغيير نظرته ومواقفه التقليدية من الطلاق والمُطلّقة.
لكن الأكثر دهشةً وغرابة من كل هذا، هنّ أولئك الفتيات والنسوة اللواتي يُظهرن كرهاً شديداً ومقيتاً للمرأة، فهي بنظرهم مصدر شرور العالم وغيّه وانحلاله، وأن أي مشكلة أو كارثة تقع تكون المرأة خلفها حكماً، لذا تستحق العقاب والضرب وحتى الموت إذا ما أخلّت بمنظومة الأخلاق، أو أتت على تصرف فيه إهانة للرجل، وكأنهنّ يحملن في نسغهن روح الذكر وتفكيره، لا بل قد يكون الرجل أرحم على المرأة منهنّ.
أمام كل تلك الحالات، وأمام ما تحمله أولئك النساء من أفكار ومفاهيم تحطُّ من قدرهن، وتُلغي إنسانيتهن قبل أنوثتهن، لا يسعني إلاّ أن أقول كم هو شائك وطويل مشوارنا في محاولة تحرير المرأة من قيودها التي فرضتها هي كما فرضها المجتمع عليها بتعزيز موروثه القيمي والاجتماعي والديني، وكم نحتاج من وقت وجهد للوصول إلى غايتنا من خلال وجود المرأة في مكانتها الطبيعية واللائقة جنباً إلى جنب مع الرجل، وبالتالي الوصول إلى المساواة الحقيقية التي ننشد.