الثقافة النخبوية ، وحقوق المرأة .



حامد حمودي عباس
2014 / 4 / 20

لم تعد أغلب الجهود الثقافية ، المبذولة من قبل المهتمين بشؤون المرأة في المنطقة العربية عموماً ، وفي العراق على وجه الخصوص ، بحاجة الى التذكير بكون أن تلكم الجهود ، سوف تبقى محكومة بمصير لا حدود لمعالمه ، وانه سيبقى في ذمة المجهول ولفترات زمنية قد تمتد لحياة أجيال متعاقبة جديدة ، تضل المرأة خلالها تعاني من الحرمان والتشرد وهدر الكرامة والخضوع لسنن القوانين المتخلفة والمجحفة .. كل ذلك إن لم تتوفر للمجتمعات العربية عموماً الوسائل والصيغ التي تسير بها نحو المعرفة الحقيقية بتفاصيل حقوقها المشروعة ، وإن لم تعي تلك المجتمعات ، بنسائها ورجالها ، من هم اعدائها الحقيقيين ، وكيف يمكن للطاقات الفاعلة فيها وخاصة شريحة الشباب ، أن تتقدم صوب صروح الرجعية بمختلف صنوفها ومواقعها ، بهدف هدها وازاحتها عن مراكز التأثير ، وإحلال معايير الحداثة والمدنية محلها ، كي تعم مظاهر الثقافة النافعة وغير المرتبطة بأية أجندات سلفية أو دينية أو مذهبية جامدة .
لقد تعرضت النساء في بلادنا ، ولزمن غير منظور ، الى شتى صنوف الاستغلال ، وتكالبت عليهن أبشع مظاهر العبودية المخزية ، لتكون المرأة مجرد محطة يجد الرجال عندها ملاذاً ترتاح فيه شهواتهم المتدنية ، فكانت مفاهيم الزوجة المطيعة ، والابنة البارة المبتعدة عن مراكز الرذيلة ، تشكل لب الدعوات التي تروج لها المنابر العدوة لحقوق النساء ، وحيكت اكثر الشباك قوة للايقاع بالمرأة وايهامها بأنها مخلوق من الدرجة الثانية ، وانها عليها ابداء الطاعة المطلقة لولي أمرها والقيم على حياتها ، حتى تحظى بمرضاة الله ، ولكي تكون صالحة ولا يحكم عليها بالنشوز عن مسالك الأخلاق والفضيلة .
تحت ذرائع هذه الشرائع المتخلفة ، سيقت المرأة ، وبدم بارد ، لتذبح على دكة حمامات الدم ، و تحرق وتقتل ، وتجبر على الانتحار حينما لا تجد من يناصرها ويقف الى جانبها ضد الرجل المتلحف بقوانين تحميه ، وتطلق يده وبكل حرية ، للنيل من كرامتها وبشكل مطلق .
في جو كهذا ، مفعم بالظلم ، راحت العديد من أوساط الثقافة الموصوفة بانها مدنية ومناصرة لحقوق المرأة ، تكتفي باعداد الديباجات ( الناعمة ) والمستندة في أغلب تفاصيلها على أجزاء من فلسفات قديمة لم تعد بمقدورها أن تضع لنا تفاسير مقنعة لما جرى في جسد المجتمعات العربية من تغيير .. انها أصول لمفاهيم شكلت في زمنها أسساً لبناء مجتمعات أكثر تطوراً ، غير أنها ، وبمرور الزمن ، أصبحت بحاجة الى توفير القدرة على مقاومة أسلحة مغايرة ، امتلكتها جحافل الرجعية المعادية لحقوق الانسان وحقه في ممارسة حياته بحرية واقتدار .
ان المرأة في بلادنا ، وبشرائحها الواسعة ، تفتقر اليوم ، وبشكل لم يحمل لنا التاريخ العربي منذ بدايته ، صوراً مشابهة ، الى ابسط وسائل المعرفة ، وهي ان لم تكن أمية لا تقرأ ولا تكتب ، فهي ضحية الابتزاز المستند على الفقر ، ويحرث جوانب حياتها اليومية معول العوز ليجعل منها مشروعاً جاهزاً للاستغلال الذكوري وفي أي وقت يشاء .. فهي تشحذ ومعها اطفالها على قواطع الطرق العامة ، وتجمع شتات القمامة لتبيعها الى محلات تدوير النفايات وبأرخص الأثمان ، وهي عاملة رخيصة الأجر في معامل صنع طابوق البناء ، وهدفاً لتوفير المتعة العابرة من خلال شتى انواع الزواج المؤقت ، لا تحميها القوانين ، ولا تقف الى جانبها السنن مهما كانت مصادرها ، تأكلها الاعراف العشائرية البالية بتهم جاهزة ومدعومة من قبل منابر الافتاء الديني المتربصة بها شر تربص .. المرأة في بلادنا ، أصبحت ، وفي اغلب كياناتها ، عبارة عن هياكل يلفها السواد ، ويكبلها اليأس ، وتميت عناصر العطاء في دواخلها كوابح الخوف من الوقوع تحت رحمة الجلاد .. انها مأمورة بأن تقر في بيتها كي لا تكون فتنة للرجال ، وان تحركت خارج حدود منزلها فستكون عرضة للتحرش الجنسي وباوسخ صوره .. هي لوحة جميلة تمنح الذكور متعة الاستجمام وراحة النفس ، لتغطيها بعد ذلك خرقة تسترها عن مشاعية الانحطاط حسب ما أقرته الذكورية العربية المنبعثة من اعماق إرث الصحراء .
المرأة في بلادنا ، تعج بوجودها المحاط بمشاعر الذل ، قاعات محاكم الاحوال الشخصية بهدف ايقاع الطلاق بحقها لا لسبب غير انها قد اصبحت سلعة ( عتيقة ) لا ينتفع منها الزوج على سرير طلب اللذة .. وما دامت تلك السلعة متوفرة في واحات العرض ، فلا بأس من استبدالها وبأيسر السبل .
هذا جانب لم تعرض فيه كل التفاصيل الدقيقة لحياة النساء في بلادنا ، لعدم امكانية ذلك ، كونه مستحيلاً بحكم السرية المطبقة على المنافذ المؤدية الى فك طلسم هذه الحياة .
ولكن .. واعتماداً على هذه الحقائق .
ماذا يمكن للثقافة المناصرة لحقوق المرأة ، عمله لكي تكون منصفة ، وقادرة على إحداث فعل مؤثر وبقدر ما ، يدفع بحياتها الى حيز أفضل ؟ .
ان الدعوة الحثيثة والجادة ، لأقامة صروح لمنظمات المجتمع المدني ، المتسمة بالقدرات الذاتية على البقاء في ساحة الصراع مع الاجهزة المتنفذة في السلطة ، وخاصة التشريعية منها ، بهدف اجبارها على الانحياز لحقوق النساء ، والابتعاد عن معاداة هذه الحقوق ، هو من المهام الملقاة على عاتق المثقفين العرب ، والعراقيين منهم ، إذ أن المتوفر من تلك المنظمات حالياً ، إما أن يكون محكوماً بانتماءات حزبية تضيق عليه حرية الابداع ، وتسد أمامه سبل الوصول الى قاع ما تعيشه المرأة من واقع مزري ، أو أنه موجود لاغراض الانتفاع الذاتي فحسب .
على المثقفين العرب ، والعراقيين منهم ، العزوف عن الاستمرار في عزلتهم الخانقة عن الجماهير ، وعدم الاكتفاء بصيغ التخاطب النخبوي المنقطع الجذور ، وعليهم الانحدار الى قاع الحياة العامة لرسم صيغ فنية صادقة تعبر عن واقع ما تعيشه تلك الجماهير ، ومنها النساء .. عليهم أن يفتحوا منافذ يكثر عددها وتبلغ سعتها بمقدار الحيف الواقع على حياة البسطاء من الناس ، ومن ثم الشروع بتنفيذ بواعث تعريف النساء بطبيعة حقوقهن وتحريضهن على المطالبة بهذه الحقوق .
اننا بأمس الحاجة اليوم ، الى اعادة الحياة الى الابداع الثقافي المنتمي الى صفوف الشعب ، لتعود الينا المسرحية الشعبية ، والاغنية الشعبية ، واللوحة الشعبية واضحة الخطوط ، والى القصيدة المبتعدة عن محاولات التزلف الى الحكام .. اننا بامس الحاجة اليوم ، الى خلق وعي ثقافي تعبوي تعد له النخبة المثقفة ، وفق برامج مكثفة ، الهدف منها هو زحزحة عناصر اليأس من نفوس العامة من شرائح المجتمع ، وفتح مسالك الفرح أمامهم بدل المسالك المؤدية الى العيش وفق قدرية لم تترك فيهم غير حب الموت وكره الحياة .
هذا ما نحن بحاجة اليه .. وليس تلك المصوغات الفكرية العصية على الفهم ، والتي تدور في ذات المحور ، لا جديد فيها ولا منفعة .