في جريمة اختطاف الفتيات النيجيريات



حسن محسن رمضان
2014 / 5 / 11


تميزت ردود الأفعال على جريمة اختطاف الفتيات النيجيريات من جانب جماعة إسلامية متطرفة بأنها ذات سياق واحد متشابه فقط، وهو: (استنكار الجريمة). وإن كانت هي بالفعل (جريمة تنتهك أبسط مبادئ الإنسانية)، بل هي (جريمة ضد الإنسانية وكل قيمها) وخصوصاً أن تلك الجماعة المتطرفة تنوي بيع هؤلاء الفتيات كرقيق، إلا أن مجرد الاستنكار والشجب لا يعدو أن يكون ردة فعل أولية تلقائية، ولا تعني إطلاقاً أن هناك أي مجهود فكري لمحاولة فهم دوافع هذا التطرف، ومنبعه، ومن ثم علاج أسبابه ووأد أرضه الخصبة التي يترعرع فيه. هذه المقالة هي محاولة ابتدائية لوضع الأرضية المنتجة لهذا التطرف تحت دائرة البحث والنظر وبالتالي إعادة توجيه المجهود الفكري للباحثين والنقاد إلى المحيط المُشِكل ذاته بدلاً من لالاكتفاء بإدانة العَرَضْ.

إن إشكالية تفاعل المنهج السلفي مع النص الإسلامي تبرز بشكلها المتطرف أو العنيف من حقيقة تميز الحضارة الحديثة بمفاهيم ومبادئ متعددة كانت إما غائبة تماماً في العصور السابقة أو غير ذات تأثير واسع خارج حدود جغرافية محددة. فبغض النظر عن المنشأ الأصلي لهذه المفاهيم أو القيم الحضارية الحديثة فإن هيمنتها على العقلية المعاصرة أصبح أمراً مُسلّماً به ولا يمكن إنكاره بسبب وضوحه الشديد. بل إن المفاهيم التي تم تداولها قديماً ضمن حضارات متعددة قد تم تحويرها وتعديلها لتعني أمراً مغايراً تماماً في واقعنا المعاصر. فعلى سبيل المثال فإن السلام والعدل والعبودية وحقوق المرأة وحقوق الأقليات وحرية المعتقد والدين وقوانين الحرب ومعاهدات ومواثيق الأسرى وحقوق الإنسان والحرية، ضمن أخرى كثيرة، إما لم تكن معروفة أو تم تعديل مضامينها بصورة جوهرية ضمن حضارتنا المعاصرة. ولهذا السبب فإن الأيديولوجيات أو المعتقدات التي تصر على الثبات ضمن متغيرات الزمان والمكان لابد وأن تتصادم مع هذه المفاهيم والمبادئ بمضمونها المعاصر. وهذا التصادم، كما هو مشاهد في بقاع كثيرة في العالم وضمن ثقافات متعددة، قد يأخذ شكل الصراع المسلح العنيف أو يتدرج إلى أشكال أخرى من الرفض السلمي المعارض إلى جرائم ضد الإنسانية. ولكن في جميع هذه الصور من الرفض فإن العامل المشترك فيها هو هذا التصادم بين المفاهيم الحضارية الحديثة كما تم تنقيحها وتطويرها وبين تلك المفاهيم التي تم الثبات عليها في زمان آخر مضى.

مع الأخذ بعين الاعتبار أن (الصراع الرافض) هو ما ميز فترات سابقة في التاريخ الإنساني، ولا يزال، مع كل مبدأ أو مفهوم جديد تجابه به مجموعة ما [كل الصراع الديني والأيديولوجي بلا استثناء، وكمثال قصص نشوء وبروز اليهودية والمسيحية والإسلام]، فإن هذا الصراع اليوم يبدو أكثر انتشاراً وأعمق تأثيراً وأعنف شكلاً ومضموناً على الرقعة الجغرافية في هذه الكرة الزرقاء التي تسمى الأرض. فمع سهولة التنقل وتطور وسائل نقل المعلومات والأفكار وبروز الهويات الدينية في مجابهة الهويات القومية، والعكس، وتطور وسائل الهيمنة الإستعمارية للقوى المتغلبة في العالم أصبح هذا الصراع هو المحرك الرئيس للكثير من أشكال الرفض الذي بات يُطلق عليه إسم (الإرهاب). وإذا وجهنا إهتمامنا لمسألة التطرف الديني الإسلامي، على سبيل المثال، نجد أن المسألة في أساسها لا تعدو أن تكون صراعاً بين مبدأين، بين مفهومين، بين قيمتين، يتشاركان في الإسم ولكن يختلفان في المضمون والمعنى. فعندما يتكلم المتطرف عن "العدل" أو "الحق" أو أو "الخير" أو "المساواة" أو حتى "الجمال" فإنه يتكلم عن معايير مختلفة تماماً لما تحمله الحضارة الحديثة من معاني لهذه "القيم". هذه المصطلحات تعني أمراً مختلفاً تماماً عند المتطرف وعند مَنْ يُعارضه، ولذلك فإن (مجرد فكرة الحوار هي شبه مستحيلة، إذ لا اتفاق حتى على معاني المصطلحات التي يستخدمها كِلا الطرفين في حوارهما). وكذلك، فإن مفاهيم الحضارة الحديثة للسلام والحوار هي مباينة تماماً في المعنى والمضمون لقناعة المتطرف. وقس على هذا مبادئ حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحرية العقيدة ضمن أخرى كثيرة. فأساس (مسألة التطرف) كما أصبح يُطلق عليها هو الرفض القاطع للتخلي عن مفاهيم محددة لصالح قيم حضارية حديثة تحمل نفس الإسم ولكن تخالفها في المعنى والمضمون. ولم تكن مشكلة التطرف لتبرز على الساحة العالمية اليوم لولا أن هذه القيم والمبادئ موضوع الخلاف تستدعي من المؤمن فيها "العمل" بمضامينها، وهذا، في بعض صورها، يضعه في صدام مباشر وعنيف مع الآخرين المخالفين له. فالمسألة كلها تدور هو تباين في المفاهيم للقيم الإنسانية، ورفض المتطرف للمفاهيم المعاصرة في مقابل إصراره على العمل ضمن إطار المعنى (السلفي) للقيم الأخلاقية.

ومن الواضح أن المؤسسة الفقهية الإسلامية الرسمية تعاني من خلل وقصور شديد في فحص تلك القيم (السلفية) وبالتالي محاولة تقييمها لصالح المفاهيم المعاصرة. فأساس جريمة اختطاف الفتيات النيجيريات هو مسألة غنائم الحرب في الفقه الإسلامي وكيفية التصرف فيها. فهؤلاء المتطرفون، وببساطة شديدة، (اعتبروا ما فعلوه من مهاجمة تلك المدرسة على أنها "غزوة"، وما نتج عنها من عمليات الاختطاف لتلك الفتيات الصغيرات البريئات على أنهن "غنائم حرب"). المشكلة كلها تدور على أن المؤسسة الرسمية الإسلامية قد تقاعست حتى هذه اللحظة في النظر في (فقه الحرب) في محاولة لإخراج قيّمه الأخلاقية من المحيط الفكري القديم إلى المحيط الفكري المعاصر. فلا تزال كتب الفقه الإسلامي تحمل نفس تلك الأحكام التي اجتهد فقهاؤها بها من أول فتوح البلدان ومروراً بالتتار، ونهاية بالحروب الصليبية. ولا شيء جديد. فلا يزال (الإنسان)، كما هو في الفكر الإسلامي – التتري – الصليبي من دون استثناء، هو سلعة يُباع ويشترى في تلك النصوص. بل إن المؤسسة الفقهية الرسمية الإسلامية تتسرع أحياناً في إطلاق فتاوى القتل لكل صاحب عملية إصلاحية لتلك المفاهيم القديمة التي مِن الواضح جداً أنها لا تصلح إطلاقاً للمناخ الفكري المعاصر مما يدعم، معنوياً على الأقل، الموقف المتطرف في إصراره على العمل بـ (المفهوم السلفي للقيم الإنسانية). فمثلاً، أفتى الشيخ عبد العزيز بن باز بخصوص مقالة نُشرت في صحيفة تناولت قضية اجتماعية بأن من عاب تعدد الزوجات ودعا إلى محاربته يجب استتابته، وإن لم يتب وجب أن يُقتل مرتداً ويكون ماله فيئاً لبيت المال لا يرثه أقاربه. وكذلك أفتى بوجوب إستتابة من أنكر بأن المرأة ناقصة عقل ودين، فإن تاب وإلا وجب قتله، وكان هذا أيضاً ردة فعل على مقالة في صحيفة. فالمؤسسة الفقهية الإسلامية الرسمية هي (التي تعاني من قصور شديد، وهي التي يجب اتهام تقاعسها في عملية إصلاح شاملة لتلك المفاهيم القديمة).

إن محاولة فهم الدوافع والأسباب هو الذي يتيح عملية الحل النهائي لمشكلة التطرف الإسلامي في العالم. إذ الشواهد كثيرة جداً ومتعددة على أن (المنظومة الفقهية السلفية)، بغض النظر تماماً عن نوعية هذه السلفية أو مذهبها، هي المسؤولة عن إفراز تلك المآسي الإنسانية. ولن تنتهي إلا من خلال عمليات إصلاحية إسلامية رسمية لإخراج المنظومة الفقهية من فضائها القديم وإلى الأبد.