تقييد المشرع لتعدد الزوجات لا يخالف شرع الله



عمر أبو رصاع
2014 / 6 / 6

تقييد المشرع لتعدد الزوجات لا يخالف شرع الله

كتبنا قبلاً تحت عنوان "تقييد المباح أو الالزام به" ان من حق ولاية الامر العام أن تجتهد في تقييد المباح أو الالزام به، بما في ذلك التشريعات الخاصة بالمرأة وعلى رأسها "تعدد الزوجات"، والغريب كما قلنا قبلاً ان من نصبوا انفسهم سدنة لحماية ما يصرون على انه الدين بينما هو فهم قروسطي (نسبة للقرون الوسطى) معين للدين، لا يضيرهم في الغالب الاعم كل القوانين التي هي في واقع الامر داخلة تحت باب "تقييد المباح او الإلزام به" إلا إذا تعلقت بالمرأة حصراً، وعلى وجه اكثر خصوصية عندما يتعلق الامر بتقييد تعدد الزوجات وسن الزواج للأنثى، هنا يزأر واحدهم زاعماً زوراً وبهتاناً أن هذا الامر تحريم لما أحل الله، دون ان يميز ما ميزناه اصلاً بين التحريم وتقييد المباح، والكلام على ان تقييد المباح جائز فقط في غير مورد النص خاطئ يعتوره كثير من الخلط والغلط، ولنا في تقييد المباح عموماً وتقييد تعدد الزوجات خصوصاً من المسائل ما يلي:

الأولى: أن المباح ابتداءً لا يمارس إلا مقيداً، من الأكل إلى البيع كل مباح لا يمارس إلا مقيداً شرعا أو اختياراً، فالاحتجاج مثلاً بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} لا يمنع من تقييد هذا المباح الوارد في النص، فلا يعقل ان يقال لإنسان: "لما تحرم ما احل الله لك؟!" لأنه منع نفسه من تناول اغذية معينة في اطار حمية ما فقد منع منها نفسه ولم يحرمها، أو ان نقول بأن الدولة حرمت ما احل الله لأنها منعت استيراد مادة غذائية معينة ومنعت وجودها في الاسواق واستهلاكها لأسباب اقتصادية خاصة، أو انها حرمت ما احل الله لأنها قيدت أو منعت شكل معين من اشكال التجارة بغذاء.

الثانية: بطلان القول بأن تقييد المباح بنص هو تحريم لما أحل الله، فقد احل الله البيع بنص {واحل الله البيع وحرم الربا} ومع ذلك فإن جل انشطة الحسبة هي شكل من اشكال تقييد البيع، وكل شرط يضمن عقود البيع والشراء واتفاقيات التجارة، وكل قرار قد ترى فيه الدولة المصلحة في تقييد البيع كأن تخصص لبيع سلع معينة مكاناً معيناً حصراً (سوق السمك، المسلخ، سوق الذهب...الخ) أو زماناً معيناً كأن تحدد فترة لفتح الاسواق والبيع فيها من الساعة كذا للساعة كذا حصراً مثل البُرَص (جمع بُرصَة) مثلاً، أو ان تمنع الاتجار بسلع معينة أو أن تفرض ضريبة ما على الاتجار بأنواع من البيوع، أو شروط على انواع من البيوع كأن تفرض ان لا تعرض سلعة ما إلا في اماكن لحفظ حرارتها او شكلها او قدرها أو أن تفرض أن يوضع السعر عليها....الخ، كل هذا يدخل في تقييد مباح ورد النص دالاً صراحة على اباحته.
هذا وقد بينا أن جل القوانين الوضعية المعاصرة وحتى التاريخية منها من قبيل قانون السير والبناء والتجنيد الاجباري والكثير من الاحكام القانونية التي تجرم التهريب مثلاً وغيره كلها تندرج تحت باب "تقييد المباح أو الإلزام به"، وأن هذا جائز شرعاً، حتى وإن كان هناك نص بالإباحة، فالتعدد مباح بنص وتقيده جائز في عقد النكاح نفسه، فلو صح القول بأن تقييد المباح الذي ورد نص في اباحته تحريم لحلال لكان كذلك الشرط في العقد ولما جاز قبوله وهذا باطل.

الثالثة: توافر السوابق الدالة على بطلان القول بأن تقييد المباح بنص هو تحريم لما أحل الله، من ذلك مثلاً ما ورد عن النبي من انه نهى في احد الاعوام عن ادخار لحوم الاضاحي فوق ثلاث لوجود الجوع ذلك العام، فلما حال الحول عادوا وسألوه فقال حسب ما وردنا: ((كلوا وادَّخروا، إنما نهيتكم من أجل الدافَّة التي جاءت المدينة)) فهو في الأولى قد نهاهم عن مباح بنص، ومنه ايضاً منع عمر لعدد من الصحابة مغادرة المدينة لما رأى ان في مغادرتهم المدينة ما يضر بالصالح العام رغم أن ذلك مما اباحه لهم النص صراحة في قوله تعالى:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ۖ-;- وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15) ومما أُثِرَ عن معاوية بن ابي سفيان حين كان يلي الشام أنه كان يمنع أهل الجزيرة القادمين إلى الشام من الاقامة بها وكان يدفعهم للثغور، ولم يرى احد من الصحابة في ذلك بد ولا قال له احدهم حرمت حلالاً رغم ما جاء في كتاب الله في الآية آنفة الذكر، وكلاهما قدم ما رأى فيه تحقيقاً للمصلحة العامة كولي للأمر فقيد بما فعل مباحاً ورد في كتاب الله، وهذا كثير جداً في تاريخ المؤمنين.

الرابعة: بطلان القول بأن تقييد تعدد الزوجات تعد على ما فرض الله في كتابه، لأن الله في الكتاب لم يفرض تعدد الزوجات وانما اباحه، واباحه مثنى وثلاث ورباع، مقيداً كذلك بشرط العدل، فلا بد ابتداء من التمييز بين الفرض والمباح، فما فرض الله لا يقيد بينما يجوز تقييد ما اباح وفق ضوابط محددة لا على الاطلاق، كذلك جاءت الاباحة مقيدة اصلاً للعدد أي ان اتجاه التشريع هو للتقييد وليس الاباحة، تماماً كما كان اتجاه التشريع الإلهي في الرقيق، حيث بدأ بتقييد ذلك النظام الاجتماعي المتخلف وشرع للحد منه والتشجيع على نبذه سواء بسواء كحاله في مع التعدد الذي جعل له حد اعلى هو اربعة ثم اشترط العدل وانتهى للقول: { ....فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَ} (النساء: 3) وكذلك قال في موضع آخر: { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَاء وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا } (النساء: 129).

الخامسة: الدفع بتعارض التطبيق مع غايات الشريعة أو بعض الاحكام الثابتة يتيح لولي الامر الاخذ بأولى الامرين في التطبيق، من ذلك مثلاً لا حصراً ان الله اباح أكل الطيبات جميعاً: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} وقد يأتي الطبيب كولي امر في حالات مخصوصة فيمنع المريض من أكل غذاء معين لأنه سيؤدي إلى هلاكه هنا غلب الطبيب الغاية الشرعية الأعلى "حفظ النفس" فقيد المباح، ومنه ايضاً لو أن الدقيق شح في المجتمع فتدخلت الدولة وقيدت استهلاك الفرد من الدقيق بحصة معينة فهنا الدولة قيدت مباحاً لأنها إن لم تفعل سيستهلك البعض الكثير من الدقيق بما يفضي لهلاك البعض الآخر لشح الدقيق أو اختفائه من الاسواق، وفي الآية التي تبيح التعدد شرط واضح هو "العدل" ولا يجوز الدفع بالزعم ان العدل مما لا يجوز وضع التشريعات الموجبة لضمانه فمادام مما اشترط الله جاز ان يجتهد ولي الامر لضمان تحقيق شرطه وهو الاولى والاوجب، كذلك الامر بالإيفاء بالعقود لقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۚ-;- أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ-;- عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ۗ-;- إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } (المائدة:1) فإذا ضُمِّنَ الشرط في عقد النكاح صار ملزماً.

السادسة: صواب الدفع بأن التقييد أو الإلزام مرتبط بظرف ملجئ إليه فهو ليس إلغاء او تعديل للتشريع الإلهي الأصلي، وانما مرتبط بالظرف الذي ألجأنا إليه، فهنا لا يتم تغليط الاصل وهو الاباحة وانما تقييده مبرراً بما ألجأنا إليه، من ذلك الامثلة التي سبق بيانها.

السابعة: في بطلان الزعم بأن العنوسة تبرر التعدد، فالأصل في المجتمعات التوازن بين عدد الذكور وعدد الاناث ومشكلة العنوسة لا تخص الاناث دون الذكور فهي مشكلة للجنسين، والزعم بأن تشجيع تعدد الزوجات سيؤدي للحد من مشكلة العنوسة زعم خاطئ، لأنه في واقع الامر سيفاقم المشكلة، سيؤدي إلى زيادة تكاليف الزواج على الذكور وكذلك ارتفاع نسبة العنوسة بين الذكور، والصواب الدعوة لمكافحة عنوسة الجنسيين بطرق اخرى كالعمل على تحديد تكاليف الزواج والمعيشة وتحسين معدلات الدخل، وتحسين منظومة الامن الاجتماعي....الخ

الثامنة: في أن اتجاه التطور التاريخي للمجتمع كان باتجاه تقييد تعدد الزوجات شأنه في ذلك شأن تقييد الرق بل ومنعه، فمن الجدير بالتأمل انتشار ما بات يعرفه المجتمع التونسي لاحقاً ب"الصداق القيرواني" في المجتمع الاندلسي، وهو عقد زواج يحمي المرأة من تعدد الزوجات ومن التَّسرِّي بالجواري ايضاً وكان هذا النوع واسع الانتشار في بلاد الاندلس، ولعل اشهر مثال على ذلك النوع من الزواج زواج المعز لدين الله الفاطمي بامرأة تونسية، لكن توقُّف المجتمع عن التطور وما حاق ببلاد العرب من تخلف واحتلال واتباع كان سبباً في وقف هذا الاتجاه التطوري للتشريعات عموماً وليس فقط لتشريعات الاحوال الشخصية، حتى عاد الاستقلال وظهرت معه حركات تدعي انها تدعو إلى تطبيق شرع الله فيما هي داعية إلى تطبيق رؤية مجتمعية تاريخية معينة للشريعة وهنا جوهر مشكلتنا.

التاسعة: في أن نص الاباحة جاء لغاية افصح عنها النص نفسه وهي العدل في اليتامى، قوله تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ، وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا} (النساء: 3)، وانك لتلحظ هنا أن انصار تثبيت التعدد يوردون الآية مبتورة فيبدؤون ب {فانكحوا...} ويتجاهلون عن عمد وقصد صدر الآية وفيه العلة: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ ...}، كذلك يتجاهلون ان التطور الاجتماعي التاريخي اسقط ملك اليمين {...أو ما ملكت ايمانكم...} قال في غير موضع ايضاً: { والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } ولنا ان نتخيل ماذا لو ان التشريع اليوم عاد فسمح ببيع الجواري والتسري بملك اليمين، وبالمناسبة فالشاري لا علاقة له بسبب تحول تلك المرأة إلى جارية طالما انه اشتراها بعقد صحيح وانها لا تملك ما تؤكد به حريتها، إن القضاء المبرم على الرق جاء في القوانين المعاصرة ويمكن ادراجه تحت باب "تقييد المباح"، فلا شك ابداً ان الرق كان مباحاً وان التسري بملك اليمين مباح بالنص، ولا شك ايضاً أن حركة الشد العكسي ضد التطور الاجتماعي التاريخي احتجت وقتها ضد الاتجاه لمنع الرق بأن ذلك "تحريم لما احل الله"!
فهل نسي من جاء يحتج ظلماً بعدم جواز تقييد المباح الذي ورد نص بإباحته ، أن ملك اليمين مما ورد النص صريحاً بإباحته؟! فهل حرم المشرع الوضعي ما احله الله عندما منع الرق بقانون؟! أفلا تعقلون أفلا تتعلمون؟! ام تراكم تحلمون بيوم تعيدون به الرق إلى هذا العالم؟! أليست هذه قوى ظلام حقيقي تشد العالم إلى الوراء عنوة لو استطاعت؟! والمشكلة انها تفعل ذلك باسم الله والله بريء من هؤلاء ومن ظلام عقولهم وسواد نفوسهم، وعدائهم للانسان.

نقول اخيراً ان العدل وتحقيق مصالح المجتمع وضمان تطوره وتقدمه وازدهاره ورفاه افراده وخيرهم في معاشهم وآخرتهم هو غاية الشارع الاعظم، فالعدل اعظم صفات الله سبحانه بعد الوحدانية واعظم غايات شريعته، بناء عليه فإننا نرى تعديل قانون الاحوال الشخصية وضبط التعدد في حالات مخصصة محددة، ولأسباب موضحة بدقة وبالقانون لأن في ذلك دفع لفساد في المجتمع واستغلال للفقر والعوز، وفتنة للمرأة في دينها ودنياها وقهر وظلم لها، فما اكثر من يستخدمون رخصة التعدد للممارسة زواج هو للدعارة اقرب منه لأي شيء آخر، كذلك نرى أن يشترط عند كتابة عقد النكاح سؤال المرأة من قبل كاتب العقد إن كانت ترغب في تضمين العقد الشرط على زوجها أن لا يتزوج عليها، وذلك ضماناً لمعرفتها بحق من حقوقها ولها بعد ذلك إن شاءت أن لا تفعل ذلك.