إستراتيجية جديدة لإعادة إنتاج النوع .... قراءة فى رواية ( حسن الختام ) لصفاء النجار



حمدى عبد العزيز
2014 / 6 / 8

وأنت تقرأ رواية (حسن الختام ) لكاتبتها الروائية المصرية ( صفاء النجار ) تدرك على الفور انها رواية تحتوى على لغة ابداعية رشيقة وطاقة سرد خلاقة بتنوعاتها .. وتطرق ماهو غير مطروق لا على مستوى آليات السرد المدهشة ولا على مستوى موضوع الرواية ذو الجرأة الفادحة ..
تبدأ الرواية فى شهرها الأول أو فلنقل زمنها الأول بحضور الحس التشكيلى حضورا ذكيا وجدليا داخل الرواية فقد بدأت الكاتبة روايتها بلوحة سلفادور دالى الشهيرة ( فتاة خلف نافذة ) ولكنها حررتها واطلقتها بحضور واقعى فى الرواية عبر إعادة انتاج دلالات جديدة فجرتها قراءة صفاء النجار الإبداعية للوحة ..
فالفتاة خلف اللوحة لم تعد فتاة تطالع البحر من وراء نافذة وهى مرتخية القدمين إلا لأنها قد تكرست عبر أجيال من الإناث كأسيرة لوضعية الوقوف خلف النافذة ومطالعة ذلك البحر المتلاطم الأمواج والذى يتمثل فيه فعل الحياة بأمواجها العارمة وصخبها وضجيجها وماتصيبه من فرح وماتسببه من الآم وإغتباط وأسى وامال وإحباطات ..
تتطالع الفتاة ولاتشارك .. ليس كموقف وجودى اختيار ، وإنما كموضع فرض عليها فيما يقترب من قسمة إجتماعية ظالمة للأنثى تكونت عبر جغرافيا وتاريخ إنسانى فظلت المسموح لها ان تتطالع من خلف النافذة فقط دونما ان يكون لها نصيب من الفعل المباشر الذى تموج به الحياة أمام النافذة التى ربما تغيرت دلالاتها تماما هنا لتصبح فى وظيفة جديدة مغايرة لكونها انفتاح على عالم الى كونها - فى الرواية - فتصبح - حاجزا بين الفتاة وبين العالم .. وفصلا تعسفيا بين ماهو مسموح وماهو غير مسموح .. وتصبح شفافية النافذة تعبيرا عن كون هذا الحاجز - السجن - قد ترتب فى ظلال ماهو مسكوت عنه عبر تراكمات بشرية تاريخية واجتماعية أسست لها صفاء النجار بذكاء عبر اشارتها العميقة على لسان البطلة لحكاية جدتها البسيطة فى سياقها عن خروج المرأة من القسمة الأجتماعية العادلة مع الرجل منذ تاريخ بدأ التقسيم الإجتماعى للعمل والظهور التاريخى لمجتمع الإستغلال الطبقى الذى دفعت المرأة الثمن فيه مرتين ..
وكان بداية التمييز السلبى ضد المرأة وبداية الأقصاء الإجتماعى لنصيبها فى التعبير عن ذاتها .. وحيازتها كملكية إجتماعية للرجل .. ضمن الأنصبة الإجتماعية التى كانت المرأة شريكا كاملا متساويا فيها فيما قبل هذا التاريخ ..
وهو ماحملته - بفداحة والم - عبارة (حبيبة النحال ) بطلة الرواية عندما قالت فى الأسطر الأولى من الرواية :
( وحدى أحمل صليبى على كتفى .. بالأدق فى رحمى ) ...
وهى عبارة تصلح كمفتاح لفهم مايحيط بعالم الأنثى من ظلم وقهر وطابع ذكورى يختزل الأنثى فى قيمة إستعمالية هى وظيفتها الفسيولوجية التى تساوى الجنس كمصدر لمتعة النوع الذكرى والإنجاب ..
وبالتالى فأن ( حبيبة النحال ) بطلة الرواية تقرر كمسيح أنثى ان تخلص بنى نوعها من الإناث من أسر تلك القيمة الإستعمالية التى تم انتاجها عبر تقسيم العمل الإجتماعى وخلق الإستغلال ذو الطابع الذكورى ..
وهكذا تحمل صليبها فى رحمها بحثا عن خلاص جديد للأنثى عبر خوض تجربة التحكم فى إنجاب الأنثلى من الأنثى دونما ان يمثها ذكر أو ان تكون هناك خلية أولية تنتمى الي نوعه بأى شكل من الأشكال عبر مغامرة ضد كل الثوابت الكونية والمجتمعية ...
الرواية تدور حول فكرة إفتراضية تحتمل التحقق العلمى وتلتبس بواقع موضوعى وحادث جوهرى يحدث لذات إمرأة من خلال حديثها عن تلك التجربة الملتبسة التى تقوم بها ( حبيبة النحال ) بطلة الرواية على مستويات مختلفة ومتشابكة من السرد حيث يتم انشاء الرواية وفق تخطيط سردى يعتمد التقسيم الزمنى للرواية على أساس خطوط طولية تشبه خطوط القلم الرصاص ليست حادة ولا فاصلة بين زمن وزمن ولا مستوى سردى عن مستوى آخر ولكنها خطوط لها ايضا حضورها التى تحدده الضرورة الموضوعية ..
انها تلك الخطوط الطولية التى قسمت الرواية هيكليا الى تسعة أجزاء زمنية أو بمعنى أصح خلقت تخطيطا طوليا وفق تسعة أشهر هى أشهر الحمل والولادة التى تبدأ من حيث أن تبدأ ( حبيبة النحال ) خطوتها الى خارج البلاد لتنفذ فكرة ان تستنسخ أبنتها - والتى أختارات لها أسم( مريم ) - دونما إخصاب يشارك فيه الرجل كنوع جنسى ودنما ان يكون متداخلا فى هذه المغامرة حتى بحيوان منوى يخصب بويضة الأنثى كما هو مألوف فى جوهر عملية الإنجاب ...
أنها عملية استنساخ أنثى من داخل أنثى - يبدوا انها تحمل فى جوهرها إقصاء إفتراضى للنوع الجنسى البشرى الآخر وهو الرجل - تتم عبر اخذ خلية من ذات الأنثى ( حبيبة النحال ) وتخصيب إحدى بويضاتها بها .. فى عملية علمية معقدة ( وان كانت شديدة المنطقية والإقناع فى خطواتها والتى عرضتها الكاتبة بروح شديدة العلمية تشى بجهد دارس وعميق للتتبع العلمى لفكرة الإستنساخ ذاتها ممايجعلنا نعتقد ان ذلك الجهد كان جزءا أساسيا من التخطيط الإستراتيجى للرواية ( أى التخطيط الهيكلى لكيفية بناء الرواية ) ..
وتصعد الأحداث فى الشهر الأول مع بداية نجاح عملية التخصيب التى يقوم بها (د. برنارد ) العالم الذى تتطورت تجاربه فى الإستنساخ عندما مرضت زوجته بالسرطان وعرف ان نهايتها باتت وشيكة فكان يصارع الوقت من أجل استنساخها واحتفظ ببويضات مجمدة منها لدية الى بعد ان تنجح تجاربه فى الإستنساخ وهكذا كانت ( حبيبة النحال تجربته التى نجحت وفى ذات الوقت التى كانت هى مغامرة تشكيلية وجودية تقوم بها حبيبة ) ..
وهكذا يبدأ تشكل مضغة الجنين ( مريم ) فى رحم ( حبيبة النحال ) وتمضى بنا الرواية الى الشهر التاسع حيبث تتم ولادة الجنين المكتمل ( مريم ) إلى الحياة الموضوعية ..
لم يكن التخطيط الطولى كماقلت هو عائقا لمستوى آخر هيكلى من السرد ..
فقد وجدت ( مريم ) بدءا من الشهر الأول فى تشابك أو التباس مابين الذات الحاضنة وخارجها والتباس بين ذات الجنين الحاضرة بقوة لدرجة التباسها بهوية الذات الحاضنة ..
كل هذا يتم خارج التقسيم الطولى للرواية كما اسلفت .. بمعنى خارج منطق الزمن عبر حلول كامل للذات الحاضنة فى الذات الجنين و حضور كامل للذات الجنين يسمح بأن يكون بينها وبين الذات الحاضنة ( ديالوجات ) طوال الوقت مع تنحية فعل التشكل جانبا ليعمل ليعبر عن نفسه عبر التطور السيكولجى والفسيولجى وتزاحم الهواجس والالام التى تمربها البطلة طوال التسعة أشهر ... ووتباين إيقاعات تلك التطورات كلما اقتربت الولادة .
و فى نفس الوقت نجد التقاطعات طوال الرواية مابين منولوجات داخلية وسرد عن الذات والتشكل فى مقابل سرد عن الذات للذات وسرد من الذات الى الجنين وتبادل لأدوار المخاطب ( بكسر الطاء ) للمخاطب ( بفتح الطاء ) داخل سطور القصة ..
وبراعة الكاتبة هنا دائما ماتنقذنا من التشتت والإحساس بتعقد السرد .. كل ذلك يجرى التحكم فى سيولة السرد إيقاع تدفقه وتحرر اللغة من أعباء زخرفها وإستخدام لغة موحية وبسيطة وطازجة فى نفس الوقت ..
كذلك تتميز تلك الهيكلية السردية للرواية بصور يتم بنائها فى تداخل يشبه ضربات فرشاة الرسم العنيفة والموجهة بنفس الوقت بدقة مشرط الجراح وبألوان متمردة وفى غاية الوحشية اللونية تنفذ الى عمق سطح اللوحة بحيث تزيح تلك الألوان إمكانية ان يظل هناك جزء من سطح الرواية دونما ان تصرخ أعماقه بتمرد الألوان ووحشيتها كبلطة فى أم رأس هذا العالم ..
وهنا يكون التشكيلى حاضرا طوال الرواية كطعم أساسى للعالم السردى .. فحبيبة النحال تعلمت الفن التشكيلى وتخوض طوال القصة تجارب فى هذا العالم وتتحاور مع شخوص رسامين يعبرون من سطور تلك الرواية أضافة لذلك الجدل الدائم مع رسامين عالميين كبار .. بدأ من سلفادور دالى وفتاته التى وراء النافذة التى حضرت فى السطور الأولى الى رودان ومايكل انجلو مرورا ب إدوارد مانييه وماتيس وآخرين ..( ماذا تقول لوحاتى عنى ؟ .. هل هناك فروق بينهما ؟ لوحاتى هى أسلوبى الذى يتطور ) ..
فنجد انفسنا ام تسعة لوحات سردية تمثل تطور شهور الحمل وتتطور الجنين ..
ولكن تظل علاقة البطلة بالجنين طوال الوقت هى علاقة تتخطى تلك الخطوط الزمنية الطولية التسعة لتصبح علاقتها بالجنين هى علاقتها بذاتها ( أو ليس الجنين ،الكائن ، الطفلة ، والأنثى هو اسنساخا من ذاتها ويحمل ملامحها وتعرجاتها الذاتية بل تاريخها الأنثوى الخالص الذى سيمتد الى جدتها انتهاءا بانتسابه لها كجيل أنثوى جديد يرتجى له ان ينتج سلالته على نفس هذا النحو ؟ ) ..
وتتحول أيضا علاقة حبيبة النحال بالجنين عبر أشهر الحمل التسع الى حالة من الكسر والتتطويع لذلك التقسيم الزمنى الواقعى والإفتراضى معا وتتطور علاقة الذات بالزمن لتصبح هى علاقة إرتداد به الى تكوينها الأول ومن ثم انتاج زمنية جديدة تتسع لجدلية الذات وحضورها فى مريم وحضور مريم فيها كطرف جديد لنفس الذات وككائن جديد خارج الذات مع بقائها فى نفس الوقت داخل الزمن العقلانى الذى خططت به هيكلية الرواية ..
- تقول صفاء النجار على لسان البطلة :
( هل يمكن لى ان أوقف عجلة الزمن ؟ أن اجمع خلاياى وأجمدها وأعيش فى إطار الوقت المناسب ، وأراقب نفسى وهى تنمو وانا اتلاشى ؟ ) ..
ويتواصل الحلول المتبادل - عبر ذلك الاستنساخ - بين الجنين كذات قد تأكدت إفتراضيا وبين الذات الحاضنة ليتحول الى منولوجات تتقاطع طوال الوقت مع ديالوجات البطلة بالعالم المحيط والعالم الداخلى الذى تتشابك فيه ذاتها بذات الجنين المستنسخ منها (( أغوص لأجدنى فى عينيها وانا احدق فى المرآة والزهرة البنفسجية ترنو إلى فلا أعرف من منا ابتلع الآخر )) ..
وهكذا فبالإضافة الى الى المستوى الزمنى الغير مستقر و المخطط لهيكلية الرواية فتلك الهيكلية تهتم بمستوى آخر هو أيضا لايضمن الإستقرار ويتمثل فى السرد الذاتى للبطلة بالولوج الى الذات والحديث اليها والخروج من الذات والحديث عنها والإشتباك القائم مابين الذات القائمة من قبل بدء الرواية والذات التى تتشكل كعالم افتراضى وواقعى فى آن واحد تتبادلان فيه مراكز الوجود من حيث ماهو كان وماهو كائن وماسوف يكون افتراضا ...
فى ظنى أن الرواية قد خطط لها مسبقا عبر عنصرا أساسيان تمت دراستهما بعناية ضمن عناصر تشييد ذلك الصرح الروائى الهائل وهما :
1- الفن التشكيلى .. الذى لم يحضر طوال الوقت حضورا انطباعيا عابرا بقدر ماكان جزء من فلسفة الرواية ..
2 - علوم الإستنساخ والأجنة وطب الولادة وعلم النفس كعنصر يتصل بعمق موضوع الرواية ولايمكن التعامل معه ببساطة دونما الإلمام بأسرار تلك العلوم والتقنيات الخاصة بها ..
هذا بالاضافة الى عنصر ثالث هام لم يكن يحتاج الى تدريب ودراسة لوضوح تمكن الكاتبة منه ووضوح مقدرتها المختزنة على نثره ببساطة وتتطويعه لاستراتيجيات الرواية وهو عنصر اللغة التى سبق ان سبهتها بضربات الفرشاة المتلاحقة والتى لاتحتمل أية ترهلات أو زخرفيات تمنعها من أداء مهمامها فى السرد ..