رسالة من نزار قباني للمرأة العربية



عماد البابلي
2005 / 7 / 27

إلى ذكرى روح الأب والمعلم نزار قباني ..

أتشرف عزيزي القارئ .. عزيزتي القارئة
بجمع وأعداد هذه المقالة
وهي مقدمة لديوان شاعر الإنسانية الأكبر السيد نزار قباني ( يوميات امرأة لا مبالية )
وقد كانت بالأساس الكلمة التي ألقاها الشاعر
على جمع من الطالبات
في الجامعة الأميركية في بيروت ..

(( يوميات امرأة لامبالية )) هو كتابكن ، هو كتاب كل امرأ ة حكم عليها هذا الشرق الغبي الجاهل المعقّد بالإعدام ونفذ حكمه فيها قبل أن تفتح فمها . ولأن هذا الشرق غبي وجاهل يضطر رجل مثلي أن يلبس ثياب امرأة ، ويستعير كحلها وأساورها ليكتب عنها . أليس من مفارقات القدر أن أصرخ أنا بلسان النساء
ولا تستطيع النساء أن يصرخن بأصواتهن الطبيعية . ثم أليس من مفارقات المضحكة ، أن آتي إلى قاعة الوست هول لأشرح لكنّ أيتها المباليات مشاكل هذه اللامبالية النفسية والجسدية ..
لماذا تصمتن أيتها النساء ؟؟
لماذا أكل القط ألسنتكن ؟؟
لماذا تنتظرن من يأخذ بثأركن ولا تأخذن ثأركن بأنفسكن ؟؟
نحن الرجال لا نعطي شيئاً . نأكل البيضة وقشرتها . ندّعي التحضر ونحن أكثر بدائية من ضباع سيـبريا .
ندرس في جامعات أوربا ونعود أكثر توحشاً من الماو ماو . نقدم الورد لعشيقاتـنا وننشر رقبة شقيقاتـنا بالمنشار . نحن الرجال ، نضع في فمنا السيجار ونـتصرف بغريزة الجمل . نتمشى مع صديقاتـنا في حديقة عامة
وفي أعماقنا تصرخ الغابة . نتحدث عن الحرية وفي داخلنا تصطك أبواب الحريم وتخشخش مفاتيحه وأقفاله .
نحن الرجال خلاصة الأنانية وشهوة التملك والإقطاع .
نحن النفاق الذي يمشي على قدمين ، والوصولية التي تمشي على أربع .
فلماذا تسكتـن علينا أيتها النساء . لماذا ؟؟
أليس هناك واحدة منكن ، واحدة لوجه الله تستطيع أن ترد الصفعة صفعتين والكرباج كرباجين ؟؟
منذ كان الرجل وهو يتحكم بكنّ ، بأقداركن ، بأجسادكن ، بعواطفكن ، بدموعكن ، بلذتكن ،
بفراشكن...منذ أن كان الرجل وهو يحتكر لنفسه كل شيء ، يحتكر المعرفة والحكمة والذكاء والدولة والسياسة والتشريع والحب والشهوة ، يحتكر حتى غطاء السرير ..
ومن هنا لابد العثور على امرأة من هذا الشرق ، تمتلك القدرة على الصراخ ، تمتلك الجراءة على التحدث عن نفسها وعن جسدها دون أن تلطخها عقدة الذنب وفؤوس العشيرة . كان لابد العثور على واحدة . امرأة واحدة . تنزع القفل الصدئ الموضوع على فمها وترميه في وجه سجّانها . كان لابد من امرأة فدائية تقبل بمحض إرادتها أن تمدّ جسدها وسمعتها جسراً تمر عليه بنات جنسها إلى الأخرى من النهر ، إلى ضفة الحرية ..بحثت عنها طويلا هذه المرأة الشجاعة ، في المدن بحثت عنها ، في القرى بحثت عنها ، في الحقول بحثت عنها ، في مدارس البنات ، في الجامعات ، في الجمعيات النسائية ، في حفلات عرض الأزياء حيث الحرية تتحرك على مدى عشرة سنتيمترات فوق الركبة ولا تتعدها إلى قلب لابسة الثوب وإنسانيتها .
ما أضيق الحرية التي طولها عشرة سنتيمترات فقط ، ما أضيقها ؟؟
اكتشاف امرأة من هذا الطراز . كان معجزة . وجه الأعجاز فيها أنها تتكلم و تكتب أيضاً. ليس
من المنطق أن تمارس امرأة في شرقنا النطق والكتابة ، المسؤولون عن سجن النساء منعوا لسانها عن الحركة ، قطعوه وأكلوه ، أنسوها غريزة النطق ، وصادروا منها أدوات الكتابة . الكتابة التي أقصدها ليست كتابة الفروض المدرسية وأعداد الأبحاث والأطروحات الجامعية ، الجامعيات عندنا برغم كونهن يكتبن فأنهن
لا يكتبن ، برغم كونهن ينطقن فإنهن لا ينطقن . بر غم كون الخـنجر مزروعاً في ظهورهن فإنهن
لا يصرخن . أنا لا أومن بحرية تنفصل عن النطق والسلوك ، حرية المرأة هي أن تسقط في الماء بكامل ملابسها
لا أن تتنزه في حديقة الجامعة وهي تتأبط الكراريس المدرسية . الحرية جواد أبيض لا يستطيع ركوبه
إلا الشجعان ، قلعة لا تفتح أبوابها إلا للمقاتلين ، العبودية سهلة ، إنها جسد مشلول يتعاطى الحبوب المنومة ،
أما الحرية فوجع أبدي لا يريح ولا يستريح .
في شتاء عام 1958 عثرت على هذه المرأة الكنز ، أرتني جروحها ، أرتني مكان المسامير على نهديها ،
أرتني أثار الكرباج على ظهرها ، أرتني أوراقها ، حكت لي كل شيء ، تحدثت بلا نظام ولا ترتيب ، تحدثت بشفتيها وأهدابها ودموعها وأظافرها ، تحدثت بلين وشراسة ، بطفولة ووحشية ، بحقد وغفران ، بكفر وإيمان ، باحتقار وسخرية ، بهدوء وعصبية ، بشجاعة وتحدٍ .. تكلمت بطلاقة من قضى آلاف السنين ممنوعا عن الكلام ، تكلمت بحماسة طير وجد أمامه فرصة للهرب . كانت المرأة تأتيني كل مساء في شتاء عام 1958 وكنت يومئذ ديبلوماسيا في الصين ، شتاء كامل وأنا أستقبل هذه المرأة دون أن يخطر ببالي مرة أن أسألها ما اسمها ؟ أين تسكن ؟ ماهي مدينتها ؟ كان حضورها أقوى من كل أسئلتي ، وكانت قضيتها أكبر من التفاصيل والعناوين والأسماء ، وذهبت هذه المرأة وأنا لا أعرف عنها سوى أنها كانت جميلة ورائعة وشجاعة .
ذهبت ولم تترك سوى بصماتها على جدران حجرتي ، وسوى حزمة أوراق ممدودة على طاولتي على شكل جرح ،
ظلت هذه اليوميات نائمة في درج طاولتي عشر سنوات ، كانت وصية صاحبتها لي قبل أن تذهب أن لا أنشر يومياتها ، وبعد عشر سنوات قررت فجاءة أن أخون صاحبة اليوميات وأنشر كلامها على الدنيا ..
لماذا لا أخونها ؟؟
إن ما كتبته لا يخصها وحدها ، فهي عندما تتحدث عن حزنها فإنها تتحدث عن كل الحزن ، وعندما تتحدث عن جسدها فإنما تتحدث عن كل الأجساد ، وعندما تتحدث عن وجدها وحبها وكرها وشهوتها فإنما تتحدث عن وجد وحب وكره وشهوة النساء جمعياً .. من هذه الزاوية أستطيع أن ابرر خيانتي لهذه المرأة ، لأنني أعتبر هذه اليوميات مصدراً من مصادر النفع العام كالتماثيل والمتاحف والحدائق العامة يجب أن يرها كل إنسان .
نعم ، لقد خنت متعمدا هذه المرأة عندما نشرتُ يومياتها ، وللمرة الأولى أحب خيانتي وأتلذذ بمذاقها .
(( اليوميات )) عمل من أعمال السخط والتحدي ، سخط على التاريخ وتحدٍ له في منتصف الشارع . ثم هي رفض لوضع تاريخي واجتماعي ووراثي مهـين ومستمر في زوايا كثيرة من عالمنا العربي . قد لا ينطبق وضع اللامبالية مئة بالمئة على وضع المرأة البـيروتية التي تسكن شارع الحمراء أو الدمشقية التي تقطن حي أبي رمانة أو القاهرية التي تسكن الزمالك ، فقضية المرأة الشرقية لا تنحصر بثلاث مدن وثلاثة شوارع . لقد اخترت نموذجي من قرانا وأحيائـنا الشعبية وبوادينا حيث لا تـزال المرأة تُـقايض بالنوق والماعز ، وتوزن كأكياس الطحين ، وتقوم خلال حياتها بزيارتين .. بزيارتين لا ثالث لهما ، واحدة لبيت لزوجها والثانية لـلـقبر .
من أجل ماذا كتبت (( اليوميات )) من أجل من ؟؟
من أجل الحربة .
كتابي هو كتاب الحرية ..
والحرية التي أطلبها للمرأة هي حرية الحب ، حرية أن تقول لرجل يروق لها : (( أنني أحبك )) دون أن تقوم القيامة عليها ، ودون أن يُرمى رأسها في تـنكة الزبالة . حرية أن تقول كل ما تقوله العصافير و الأرانب والحمائم في حالات وجدها العاطفي وعشقها والتحامها العاطفي . أطالب بنزع الأقفال عن شفتيها ، وإنهاء حالة النفاق الكبــير الذي تعيش فيه . نعم ، النفاق الكبـير ، فالمرأة الشرقية مستودع نفاق كبـير فوجهها وجهان ، ونفسها نفسان ، وخارجها وداخلها متناقضان ، تقول شيئاً وتضمر غيره وتحب رجلاً وتتزوج سواه بسرعة النسانيس .
أنها تحتال على الحب وتكذب وتغش ، لأن مجتمعنا علّمها أن تكون محتالة وكاذبة وغشاشة ، ومادام مجتمعنا ينظر إلى الحب نظرته إلى حشيشة الكيف ، ومادامت كتابة رسالة حب تكلف صاحبتها الوصول إلى حبل المشنقة فسوف تستمر الازدواجية واللصوصية والتهريب العاطفي ويظل الحب في بلادنا غلاما بلا نسب يطرق الأبواب ولا يجد من يفتح له . نحن مجتمع بلا عافية لأننا لا نعرف أن نحب ، لأننا نطارد الحب بكل ما لدينا من فؤوس ومطارق وبوار يد عثمانية قديمة ..
أما لماذا نشرت (( اليوميات )) في هذا الوقت بالذات ؟؟
لماذا اخترت هذا الجو المشبع برائحة البارود والرصاص لأفجر هذه الثورة الجنسية ؟؟
السبب هو أن ثورة يقوم بها الجيل العربي الجديد لا تأخذ بعين الاعتبار تحرير هذا الجيل من بعبع الجنس وأفاعيه وعقده الطاحنة ، تبقى ثورة في الفراغ ، ثورة خارج الأرض وخارج الإنسان .
مادام جسد المرأة العربية مسيجاً بالرعب والعيب والخرافة ومادام فكر الرجل العربي يمضغ كالجمل غلافات المجلات العارية ويعتبر جسد المرأة منطقة من مناطق النفوذ والغزو والفتوحات المقدسة ، فلن يكتب النصر أبداً ، لأننا عاجزون عن الانـتصار على أنفسنا .
مخطئ من يظن أن هزيمة حزيران كانت هزيمة عسكرية فقط ، فحزيران كان هزيمة للجسد العربي أيضا ،
هذا الجسد المحتقن ، المتوتر ، الشاحب الذي لا يعرف ماذا يفعل وإلى أين يذهب ، الجسد العربي هُزم لأن المحارب لا يستطيع أن يحارب إلا إذا كان في سلام مع جسده . نحن بحاجة أن نتصالح مع أجسادنا .. أن نـلـتقي بها ..
فنحن نعيش في قارة وأجسادنا تعيش في قارة أخرى .
كل ثورة عربية يجب أن تضع في حسابها إعادة الحوار الطبيعي بيننا وبـين أجسادنا ، وإعادة الحب إلى مكانـته
الطبيعية كـفعالية إنسانية مبدعة وخلاّقة ، لا كلـصٍ خارج عن القانون تلاحقه شرطة الآداب العامة .
ما لم نفتح أمام الحب الضوء الأخضر فسوف نظل مرتبكين ومعقّدين ومفلوجين على الأرض كسيارة فرغت بطاريتها .. ما لم نفتح للحب نوافذنا فسوف نـظل نباتات شوكية لا تورق ولا تزهر ، وتظل قلوبنا قارات من الملح
لا يخرج منها أي غصن أخضر .
ما لم يصبح الحب عاطفة سوية وطبيعية في بلادنا فسنظل كلـنا - رجالا ونساء – غير طبيعيين وغير سويـين وعاجزين عن القيام بأي إنجاز حضاري عظيم .
يصدر (( يوميات امرأة لا مبالية )) في عصر الـثورات ، لذلك فإنه يحمل عنف الـثورة وجرأتها واستماتـتها .
تلاميذ العالم يضربون أسوار العالم القديم ، يقلعون أعمدته ، تلاميذ العالم يـبصقون على كل الأوثان ويركلونها بأقدامهم . التلاميذ يريدون أن يغيروا العالم ، أن يخترعوه من جديد ، العالم القديم يترنح بجامعاته وأساتذته وكتبه وفلسفاته وأخلاقياته ومواعظه ، لم يعد أحد يخاف أحداً ، سقطت كل اللافـتات تحت الأرجل ، ولم يبق سوى
لافتة واحدة يحملها الإنسان المعاصر ، هي لافتة الحرية .
ولأنني مع الحرية حتى النفس الأخير أصدرت (( اليوميات )) .
ولأن أصابعي حرية ، وورقي حرية ، وحبري حرية أصدرت (( اليوميات )) .
كان بـإمكاني بالطبع أن أسجن (( اليوميات )) عشر سنوات أخرى في جواريري ، كان بـإمكاني أن أحرقها لكنني لم أتعود حرق أفكاري ، ربما قال قائل : وهل هذا وقت الحديث عن الحب والجنس ونحن غارقون في المأساة حتى الركب ؟ ومرة أخرى أقول إن هذا وقت كل شيء .. وقت الانقضاض على كل شيء .
لأنه الوقت الذي يحاول فيه الإنسان العربي أن يُغـّير ويتغـّير .
والجنس هو واحد من همومنا الكبـيرة ، بل هو أكبر همومنا على الإطلاق ، ولن يكون هناك تغـّير حقيقي إذا بقي الورم الجنسي ينهش حياتنا وجماجمنا ، نحن بحاجة إلى كسر خرافة الجنس ، والنظر أليه نظرة حضارية وعلمية
فليس من المعقول أن نكون على أعتاب القرن الحادي والعشرين ولا نزال ننظر إلى الجنس نظرة البدوي إلى فراش
بكل ما فيها من ضيق وجوع ، وننظر إلى جسد الأنثى كساحة حرب وميدان وثأر .
نريد أن نرد جسد الأنثى أليها ، فهو حتى الآن ملك التاريخ والأعراف والمؤسسات الدينية والدنيوية تـتصرف به على كيفها وتضع له قوانـين سلوكه قبل أن يولد .. نريد أن نخلّص جسد الأنثى من المزايدات الأخلاقية والعنتريات ،
فالرجل الشرقي - وهذا أخطر ما في القضية - يربط كل أخلاقياته بجسد المرأة لا بأخلاقياته هو ، فهو يكذب ويسرق ويزوّر ويقـتل ويسلخ على الطريق العام ويبقى أطهر من ماء السماء حتى يـعثر في درج أبنته على
مكتوب غرام فيشدها من ضفائرها ويذبحها كالدجاجة ويـلقي قصيدة شعر أمام قاضي التحقيق .
سيقول المتزمتون إني أحرض النساء على الحب ، الواقع أنني لا أخاف التهمة ولا أرفضها ، بل أنـني أباهي بها الخلق
يوم القيامة ، فالتحريض على الحب هو تحريض على السمو والنقاء والبراءة والطفولة والعافية .
إنـني أحرضكن على أجمل ما فيكنّ ، وأطهر ما فيكنّ ، وأنبل ما فيكنّ .
إنـني أحرضكنّ على الارتـفاع إلى مستوى الإنسان ، فنحن نبقى تحت مستوى الإنسان حتى نحب .
وهذه الليلة ستكون ليلة التحريض على الحب .. يـعني ليلة الإنسانية