ابتسامات ..أول ضابطة عربية



فؤاد قنديل
2014 / 6 / 26




المرأة المصرية حكاية تستحق أن نقف عند كل نماذجها الرائعة التي ورد ذكرها في الكتب والمخطوطات والذي أوردها التاريخ في صور عديدة سواء على جدران المعابد أو على الجلد والأوراق أو في متون الأشعار والسير
أو في حكايات الجدات ، وكم لهن من مواقف لم ترد في أي منبر للتسجيل لأن المرأة كانت دائما مهمشة ولا تحظى بما هي جديرة به من اعتبار .
لقد حفلت حياة المصريين بحضور قوي للمرأة منذ حتشبسوت وكليوباترة وشجرة الدر حتى هدي شعراوي وسيزا نبراوي ونبوية موسي وسميرة موسي وأمينة السعيد وسهير القلماوي ومفيدة عبد الرحمن ودرية شفيق حتى ربع القرن الأخير حيث نتعرف على وطنية شاهندة مقلد وكريمة الحفناوي وتهاني الجبالى وفتحية العسال وفريدة النقاش وغيرهن المئات والآلاف اللاتى قاومن الطغاة والظالمين والاستبداد والقهر وحاربن في السويس والإسماعيلية وبورسعيد منذ عام 1956 ، وتصدين لقوات الأمن الباطشة بالمتظاهرين وزينت صفوف المقبلين على تنفيذ الاستحقاقات السياسية كما حدث مؤخرا في الاستفتاء على الدستور في يناير 2014 ، والانتخابات الرئاسية التى انتهت بفوز السيسي.
من هؤلاء السيدات سيدة لم تحظ باهتمام يليق بريادتها ووطنيتها هي السيدة ابتسامات محمد عبد الله ابنة البكباشي ( المقدم ) محمد عبد الله المصري القادم من ميت غمر والمتزوج من فتاةسودانية اسمها فاطمة فضل من جنوب السودان وابنة لسلطان إقليم " الواو "وأنجب أمين عبد الله الذي أصبح ضابطا وابتسامات التي أصبحت أول ضابطة مصرية وعربية .
ولدت ابتسام عام 1927 وفي عام 1948قررت أن تلتحق كممرضة في القوات المسلحة وتم قبولها وبعد أشهر اندلعت حرب فلسطين فطلبت الانضمام للحرب ، ووافق وزير الحربية على ذلك وعينت معها عشرة فتيات ، ونظرا لأدائها المميز وجهدها المتواصل وشجاعتها تم منحها رتبة ملازم أول وكانت أيضا أول سيدة تحصل على نوط الجدارة والاستحقاق من أخر ملوك مصر "فاروق الأول" تقديراً لدورها المشرف في تمريض مصابي حرب 1948م في المستشفى الميداني الذي أقيم خصيصا داخل أحد المنازل فى مدينة غزة، لتضميد جراح جنود وضباط العمليات العسكرية والفدائية
والدها هو محمد بك عبدالله، حاصل على لقب "البكوية" من القصر الملكي، كان يعمل كضابط مفتش غفر بمديرية أسيوط ، ، وهو مصري من مركز ميت غمر في دلتا مصر، أما الأم السيدة فاطمة فضل، فهي ابنة لسلطان إقليم" الواو" في السودان .. تعلمت في المدارس الابتدائية الفرنسية ، وإن لم تكمل تعليمها العالي ، وبعد الحرب تعرفت على ضابط اسمه محمد حبيب ، أعجبت به وأعجب بها وطلب منها الموافقة على الزواج به فقبلت إلا أن والدها رفض فقررت ألا تتخلى عن حبيب ، وحاولت مع أمها وأبيها الذي أصر على الرفض ، لكنها فكرت في الاستعانة باللواء محمد نجيب رئيس نادي الضباط الذي كان مسافرا إلى الاسماعيلية ومن المحتمل أن يبقى هناك أسبوعا فسافرت إليه وكان يعرفها وعرضت عليه مشكلتها فأرسل معها ضابطا لأبيها يطلب منه أن يوافق على زواج ابتسامات من حبيب وهو يضمن هذا الزواج فاضطر الوالد البكباشي محمد عبد الله للموافقة ، .فتزوجا على الفور وإن لم يرزقا بأطفال
بعد أن بلغت العشرين شعرت بفراغ قاتل خاصة أنها في عنفوان الشباب ودون عمل أو هواية ..الساعات طويلة وهي تود لو تكون نافعة للناس ..أحست بالرغبة في العمل بالقوات المسلحة مثل أبيها وأخيها وإن كانت تدرك أن ذلك شبه مستحيل إلى أن فوجئت بالفرصة النادرة تطرق بابها ، حيث قرأت إعلانا منشورا في إحدى الصحف عنوانه: " مطلوب متطوعات"، لم يكن أمامها إلا أن تحمد الله الذي تدخل بكرمه وعطفه ورضاه عنها كي يتحقق حلمها في العمل التطوعى الذي لم تبتغ منه مالا ولا مجدا ولكنها كانت تريد أن تقدم جهدها ووقتها وفكرها وأعصابها لبلدها ..
تقدمت إلى المقابلة،وكانت الممتحنة لها هي " ناهد رشاد" وصيفة الملك ، والاسم الذي كان يتردد همسا داخل القصر.. كانت ناهد رشاد في ذلك الوقت تحمل رتبة صاغ ( رائد) ، وكانت قد كلفت من قبل القيادة العسكرية أن تشرف على امتحان المتطوعات اللائي بلغن
75فتاة وسيدة من سيدات المجتمع الراقي تمهيدا لتدريبهن على أداء واجب التمريض والإسعاف لجرحي الميدان ، وبعد اختبارات شاقة ومكثفة استمرت نحو شهرين وقع الاختيار على عشر فتيات كانت ابتسامات الأولى عليهن ، وقالت القيادة : إن الممرضات المتطوعات مهمة جديدة ولا توجد لديها ملابس عسكرية مخصصة لهن، فعرضت الفائزات في الامتحان أن يشترين الملابس من مالهن الخاص.وتم توزيعهن على الوحدات ، وكانت أول مرة يسمح فيها بالتحاق الفتاة المصرية بالخدمة العسكرية.
في يوم 26 مايو من عام 1948 ، استدعتها الصاغ ناهد رشاد، وكلفتها بسرعة الاستعداد للسفر معها إلى مستشفى غزة الميداني بفلسطين، عقب اندلاع النكبة، حيث سافرت مع 12 طبيبا مصريا في طائرة عسكرية بمحرك واحد عجوز، وتعرضوا في رحلة الطيران إلى العريش لمخاطر كثيرة ، ومن هناك استقلوا القطارإلى غزة ، حيث بدأوا الجميع العمل على الفور بين الجرحي لمدة عشرة أيام متواصلة بلا أدنى توقف وظلوا مع المصابين وفي العنابر طوال النهار والليل لا يسمعون غير أنين الجرحي، والنداءات المتوالية لسرعة إنقاذ الجرحى الجدد الذين كانوا يتوافدون كل دقيقة على المستشفى الميداني مع التركيز على الحالات الخطرة التي توشك على فقد أرواحها وقد استشهد بالفعل الكثير من الرجال الذين انهمرت دموعها حزنا عليهم في البداية لكن العمل المتواصل بين الأشلاء والدماء والآهات قوى قلبها ودفعها كي تبذل أقصى الجهد لتخفيف معاناة الجنود البواسل الذين ضحوا بأرواحهم من أجل الشقيقة الغالية فلسطين التى تهددها بشراسة أطماع اليهود الصهاينة الاستعماريين تؤازرهم خيانة البريطانيين الذين كانت فلسطين واقعة تحت انتدابهم منذ اتفاقية سايكس بيكو (1920) التى اتفقت فيها الدول الأوروبية خاصة انجلترا وفرنسا على اقتسام تركة الدولة العثمانية التي سميت آنذاك بالرجل المريض.
لقد تألمت ابتسامات كثيرا وانفطر قلبها من الأسي والأسف على ما يتعرض له الجنود في تلك الحرب خاصة أنهم كانوا يواجهون الأعداء المدربين والمدججين بالسلاح الذي سلمه لهم الإنجليز الخونة بأسلحة قديمة وفاقدة للكثير من قطع الغيار ولم يتم الاستعداد للحرب كما يجب إذ حرص الإنجليز على أن يهيئوا الساحة لليهود الإرهابيين كي يتمكنوا من القبض على أغلب مساحات الأرض ، وكانوا الداعم الأول لتأسيس الكيان الصهيونى البغيض الذى ضرب الأمة العربية في مقتل وما يزال يمارس بشاعته في تمزيق الشعوب العربية بدعم لا يتوقف من أمريكا وأوروبا .
تألمت ابتسامات مما كان يلحق بالجنود من إصابات وحاولت التخفيف عنهم بإحضارها " جراموفون " تنطلق منه أغاني واحد من أشهر المطربين في تلك الفترة وهو عبد العزيز محمود المسجلة أغانيه على اسطوانات ، وكم كان حزنها عميقا عندما رأت بعينيها الشهداء من الجنود يدفنون في أراض مجاورة للمستشفى دون أن تتوفر أية فرصة لإعادتهم إلى بلادهم وذويهم في مصر.
بعد منتصف إحدى الليالي آوت إلى سريرها بالمستشفى على بعد خطوات من أسرة الجرحى بعد أن سقطت من شدة الإجهاد وأمرها الطبيب بضرورة الراحة ،وبعد ساعة جاءها مجند يوقظها وهو يرتعد، وعندما سألته ما الأمر؟ قال: جلالة الملك في المستشفى .. كانت الساعة الرابعة فجرا ، فلم تصدق،واعتقدت أن المجند لم يعد قادرا على التمييز بين الحقيقة والخيال والنوم واليقظة بسبب مشاهد الحرب خاصة تلك الإصابات التي تشطر أجساد الجرحى الذين يجأرون بأعلى الأصوات من شدة الألم وضعف الإمكانيات وصدمتهم من تواضع مستوى الأسلحة ..أخذت الأمر بجدية وأسرعت ترتدى ملابسها العسكرية وما إن خرجت من الباب

حتى وجدت نفسها وجها لوجه أمام الملك فاروق، الذي كان يصطاد السمك في مياه البحر الأحمر، ورأى أن يمر ليطمئن على أحوال جنوده المصابين، ويمنحهم سمكة ضخمة اصطادها بنفسه، لم يروا مثلها من قبل ، وعندما سمع شهادات إعجاب المصابين بالتمريض، وخصوا بالذكر الملازم ابتسامات منحها ساعته الذهبية المحفور عليها اسمه ولا تزال – مد الله في عمرها البالغ 87 عاما- تحتفظ بالساعة الملكية.