الدفاع عن المرأة ... دفاع عن الذات



كريم عامر
2005 / 8 / 4

بصورة شبه يومية ، يصلنى على صندوق بريدى الإلكترونى كميات هائلة من رسائل القراء ، يشكل نصيب الأسد منها رسائل الذم والقدح ، إلى جانب حصة ضئيلة من رسائل الإشادة والمدح والى يوجهها إلى فئة من خيرة القراء نذرت نفسها - مشكورة - للدفع بى قدما نحو الأمام ورفع روحى المعنوية إلى عنان السماء ، وإمتصاص اليأس - اولا بأول - من قلبى وإستبداله ببوادر الأمل التى يضخونها فى أعماقى لمساعدتى على إستكمال الطريق الذى إخترته بكامل وعيي وإرادتى ، وجازفت إجتيازه بنفسى مع علمى اليقينى بأنه طريق شائك غير ممهد يكثر لصوصه ويقل حراسه ، ولكن درجة إدراك الإنسان لأهمية الهدف هى وحدها التى تحدد مدى قدرته على إجتياز الطرق الوعرة ، وإقتحام الحدود والحواجز الخطرة فى سبيل الوصول إلى مبتغاه .
فحين انشر مقالا يتناول جانبا من قضية المرأة ، أجد نفسى فى اليوم التالى بصدد كميات إضافية من اللوم والعتاب والسخط والغضب وأحيانا التهديد ، محملة على رسائل القراء المستنكرين أسلوبى العقلانى المحض المجرد من الإستناد إلى النصوص الإعتقادية الجامدة ، والمستنكفين منى كذكر أنتمى - بشكل لا إرادى - إلى جنس الفحول أن أبادر بالدفاع عن النساء اللائى وصفن على لسان أحد شياطين الشعراء فى أحد عصور الجهل الإسلامية :
إن النساء شياطين خلقن لنا ...
نعوذ بالله من شر الشياطين .
فكانت بعض التعليقات تشكك فى إنتمائى - الذى لا يعنينى فى شىء - إلى جنس الذكور ، وبعضها الآخر تنعتنى بالخنوثة والشذوذ ، ويتسائل بعضها ... " ... هل إلى هذا الحد فقدت حسك الرجولى الخشن لتدافع بحرارة عن هؤلاء النساء ؟؟؟ ومالذى يدفع فتى مثلك فى ريعان شبابه أن يضع نفسه فى مواضع الشبهة والخزى التى وضعت نفسك فيها ..؟؟ وهل النساء اللائى يزاحمننا مقاعد الدراسة ومكاتب العمل ويتفوقن علينا فى المجالات الحياتية الأخرى فى حاجة إلى المذيد حتى يسيطروا علينا وينفوننا - تبعا لذالك - من على سطح هذا الكوكب ...؟؟؟!!" .
فى البداية لم أكن أعر هذه الرسائل الإهتمام الكافى ، وفى أحيان كثيرة كنت أتجاهلها تماما ولا ألتفت إلى محتوياتها ، ولكنى بعد ذالك وجدتنى مدفوعا للتفكير بعمق فى هذا الأمر ، ووجدت نفسى أسترجع أشياءا كانت كامنة فى عقلى الباطن من أحداث ومواقف عشت فى أتونها وكنت شاهد عيان على وقوعها ، دفعتنى بعد عميق تفكير إلى السباحة فى التيار المضاد للفكر القائم على هيمنة الذكور على الأنثى ، وإستخلصت من كل هذه المواقف والأحداث التى لا مجال لذكرها هنا مانويت سرده فى السطور التالية من محاولة للحديث مع النفس ومواجهة للذات ومحاسبتها ( وليس جلدها ) ، لرد الإعتبار إلى المجتمع الإنسانى والعمل على رد البشرية مرة أخرى نحو السلوك الطبيعى الإنسانى السوى .
فنحن - معشر الذكور - نعانى فى حياتنا من مشاكل كثيرة ، وتتحكم فى سلوكياتنا وتصرفاتنا عقد نفسية وراثية مزمنة ، أهمها وأشدها خطرا - على الإطلاق - عقدة " النرجسية " والعشق الأعمى للذات على حساب إنتماءاتنا الإنسانية .
فبدلا من أن نحاول خلق جو مفعم بالثقة المتبادلة بين أطراف المجتمع الإنسانى ، بنينا مناخا يسوده العداء المغلف بالود ، والكراهية المستترة خلف الحب ، ولباب الحرب المموه بقشور السلام .
لقد حولنا أنفسنا - معشر الرجال - إلى كائنات غير آمنة ، إتخذنا من الغش أسلوبا نتعامل به مع النساء ، وتبنينا الكذب والخداع كوسائل نتقرب بها إلى قلوبهن فى سعينا لخلق علاقة غير متكافئة معهن ، وإتبعنا القهر أسلوبا لإخضاع ذواتهن لإرادتنا ، فمالذى يمكننا توقعه بعد ذالك ؟؟؟ هل ننتظر منهن مذيدا من الثقة وكبير قدر من الإخلاص ؟؟ هل نتوقع منهن بعد هذا القهر الذى نمارسه بحقهن أن يتفانين فينا حبا ويهمن بنا وجدا ويذدننا عشقا وهن فى كامل وعيهن وقواهن الذهنية على أشدها ؟؟؟ .
إننا حين نتوقع هذا من النساء فإنه يؤكد بما لا يدع مجالا للريب الحالة النرجسية اللاطبيعية المستعصية التى نتلظى فى أتونها ، والتى تجعلنا نطلب الشىء من اللاشىء تماما كما كان الكيميائيون العرب القدامى يعملون على تحويل التراب إلى ذهب ! .
إن العلاقة التى تربطنا - معشر الرجال - بمعاشر النساء هى علاقة غير متكافئة ، تقوم على ثنائيات القهر والخضوع ، والقوة والخنوع ، والإنتصار والإنهزامية ، والسيادة والتبعية ، فهل بعد كل هذا ننتظر " نصرا من الله وفتح قريب " لقلوب النساء بالأسلوب ذاته الذى أخضعنا به أجسادهن لشهواتنا وساديتنا وقسوتنا ؟؟!!.
إنه لمن قلة العقل أن يؤمن الطاغية بحب الرعية له ، أو أن نعتقد نحن - معاشر الرجال - الأنانيون الطغاة أن النساء اللواتى نعاملهن بكل قسوة وغلظة وإحتقار ودونية يتمرغن في عشقنا ويتقبلن بصدر رحب وعقل واع غير مغيب إهاناتنا ! .
إن سمعتنا - معشر الرجال - قد غدت فى الحضيض ! ، فما من يوم يمر إلا ونفاجىء بكثيرين ممن ينتسبون إلى جنسنا يستغلون وضعهم الإجتماعى الفوقى لإضطهاد الأنثى المغبونة فى التعامل معهم وقهرها ، أصبحنا لا نجد مكانا ملائما نوارى فيه حمرة خجلنا - إن وجدت أصلا - مما نسمع به من ممارسات حيوانية قمعية إنتهازية ترتكب بإسمنا ولا نستطيع بحال من الأحوال إنكار نسبتها إلينا ، لقد أصبحنا فى غاية التوحش والإنحطاط والبهيمية ، أصبح المرجع الرئيسى لتاريخنا هو علامات العنف والقهر التى نتركها على أجساد بناتنا وزوجاتنا وأخواتنا ، أصبح تاريخنا هو تاريخ كل إمرأة عانت من القهر والعنف والإضطهاد أو إنتهت حياتها بأيادينا القذرة نهاية مأساوية .
أصبح تاريخنا هو تاريخ محمد يونس ورانيا الباز ، تاريخ أحمد الفيشاوى وهند الحناوى ، تاريخ أيمن السويدى وذكرى ، تاريخ الشباب الذين يغررون يوميا بالفتيات ثم يلقون بهن على قارعة الطريق ، تاريخ المسخ البشرى الصعيدى الذى ذبح بدم بارد بناته الثمانية وهن مستغرقات فى أحلامهن الطفولية الوردية اللذيذة ، تاريخ جرائم الشرف التى نرتكبها لنغطى بها على فضائح ومآسى إغتصابنا لبناتنا وشقيقاتنا وقريباتنا ، تاريخ الشاب الصعيدى حديث الزواج ( وتلك قصة واقعية رواها لى ببرود اعصاب لا يحسد عليه أحد أصدقائى فى صعيد مصر ) الذى خنق طفلته فور ولادتها وهدد زوجته بإلحاقها بها إذا أبدت أدنى نوع من الإعتراض أو حاولت الإبلاغ عن جريمته النكراء ، تاريخ زواجنا من فتيات يحملن جنسيات دول الإتحاد الأوروبى والولايات المتحدة لتحقيق الحلم الذى فور أن يرى النور حتى نسارع بالتخلص منهن كما نفعل مع ملابسنا القديمة المهترئة لنتزوج من بنات بلادنا القابلات للخضوع المازوخية فى مقابل الحياة المرفهة البلهنية ، تاريخ إدعاءاتنا المثيرة للسخرية بإمتلاكنا شرفا من نوع فولاذى لا يتأثر بإرتكابنا للموبقات وإتياننا للمحظورات ، بعكس النسوة اللائى يمتلكن شرفا من عينة أعواد الثقاب لا يقبل الإشتعال مرة أخرى .
أصبح تاريخنا - معشر الذكور - لا يختلف عن تاريخ نظم الحكم الفاشية الإستبدادية ، أصبح كل رجل منا يمارس الطغيان فى حدود مايملكه ، فأصبحت بيوتاتنا تشكل ماكيتات للديكتاتوريات السياسية ، فكيف إذن نطالب حكامنا بالإصلاح ونتمرد على طغيانهم وجبروتهم ، وكلنا ذاك الطاغية تمارس جبروتنا وطغياننا على ماتحت أيدينا .
إننا - معشر الرجال - قد وضعنا أنفسنا فى موقف لانحسد عليه ، فلقد فقدت الغالبية العظمى من النساء ثقتهن فينا وأصبحت علاقاتنا بهم خالية من كافة معانى المساواة والتكافؤ ، علاقات من نوع " الشر الذى لا بد منه " ، علاقات أشبه بالمجازفات والمهام الإنتحارية .
مالذى جنيناه - معشر الرجال - عندما مارسنا لعبة " الفتوحات الإسلامية " على جسد الأنثى ؟؟ ومالفائدة التى عادت علينا عندما إمتلكناها جسدا لا عقل فيه ؟؟؟!! .
ربما نكون قد أرضينا غرائزنا البهيمية القائمة على الجنس وحب التملك ، ولكن أين إشباع الرغبات والمشاعر الإنسانية السوية المفترض بناؤها على الإحساس بالتكافؤ فى تشييد أواصر العلاقات مع الإنسان الآخر ؟؟ ، مع الأسف الشديد أعترف بأننا لم نصل بعد إلى طور الإنسانية الكاملة كى يتسنى لنا إقامة مثل هذه الروابط والعلاقات السوية .
مساكين نحن معشر الرجال ! ، نظن أننا نتمتع بكامل قوانا الذهنية والعقلية دون أن ندرى أننا مصابون بداء جنون العظمة .
مساكين نحن معشر الرجال ! ، ندعى أننا شرفاء ونحن نستأهل - طبقا لمفاهيم الشرف الشرقية - إراقة دمائنا لغسل العار الذى لطخنا به وجه الإنسانية على مر العصور .
مساكين نحن معشر الرجال ! ، نعتقد أننا أقوياء ، ونحن فى غاية الضعف والخنوع أمام شهواتنا وغرائزنا الحيوانية الفجة .
مساكين نحن معشر الرجال ! ، نحسب خضوع النساء لنا معادلا لخضوع العالم لقبضتنا ، نتخيل حين نقهرهم أننا إستعدنا الأندلس أو فتحنا عمورية أو إسترددنا بيت المقدس .
مساكين نحن معشر الرجال ! ، نعيش حالة مستشرية من السادومازوخية المسيطرة على كل تصرفاتنا فى الحياة ؛ نعانى من ضغوط الحياة خارج المنزل فنوجه ردة فعلنا إلى من ينتظروننا خلف أبواب بيوتنا الموصدة .
إن الدفاع عن قضايا المرأة الذى أتبناه كثيرا فى مقالاتى هو محاولة لإستعادة الثقة الفقودة بين أفراد مجتمعاتنا ، والتى ضاعت مع إندثار العلاقات الإنسانية السوية الخالية من كل مظاهر السيطرة والخضوع .
إننى كثيرا ماينتابنى شعور بأننى أحد ضحايا هذه الممارسات الرعناء التى يرتكبها الرجال بحق النساء ، لا لشىء إلا لأننى أنتمى - بيولوجيا على الأقل - إلى الجنس الذكورى الأرعن ، والتى جععلت سلوكياتهم العلاقات الإنسانية مشوبة بالريبة والحذر وفقدان الثقة فى الاخر ، والتى لا تطول بآثارها السلبية الرجال التقليديون فحسب ، وإنما تمتد لتشمل جميع أفراد المجتمع بمن فيهم من تحرروا من العقد النرجسية وأطلقوا سراح عقولهم من سجون الأفكار الرجعية الجاهلية .
إن دفاعى عن المرأة ليس - كما يتهمنى البعض - تحيزا مريضا لجنس الإناث ، وإنما هو دفاع مستميت عن الذات الإنسانية التى أشرفت على الإنقراض والإندثار والهلاك .
إن دفاعى عن المرأة هو دفاع عن ذاتى كإنسان متهم بإنتمائه إلى جنس الطغمة الذكور الذين أصبحت نسبة الإنسان إليهم تمثل وصمة عار فى الجبين ، وسبة لا تدل سوى على النزعة العدائية الوراثية تجاه الإناث .
إن مطالبتى بالمساواة بين جميع الناس هى محاولة للدفاع عن الذات ودفع لتهمة العنصرية الذكورية المنتشرة بيننا منذ عصور طويلة ، وهى فى الوقت ذاته نداء أوجهه إلى كل إنسان يسعى لأن يكون سويا طبيعيا كاملا كى يبدأ من الآن فصاعدا بتحرير نفسه من غزو العقد الجنسية ، وبناء جسور للثقة والتفاهم والحوار مع الآخر كى نساهم معا فى إصلاح مجتمعنا ، وجعله قوي الأركان سليم البنيان خال من العيوب والأمراض والنقائص ، أساسه الحرية والعدل والمساواة ، التى تعد الدعائم الرئيسية لبناء مجتمعات حضارية إنسانية .
عبدالكريم نبيل سليمان
3 / 8 / 2005
الإسكندرية / مصر