باليرينا في سجن النساء



فاطمة ناعوت
2014 / 8 / 1

مدهشٌ غضبُ السجّانات الفاضلات من مسلسل "سجن النسا"! مدهشٌ خلطُ الغاضبات الدراما الخيالية بالواقع! مدهشٌ شخصنتهن الأحداث وإسقاط كل ما جرى في المسلسل على حيواتهن الخاصة! مدهشٌ تلبُّس كل منهن شخصية "غالية" السجّانة التي غدت سجينةً، ظلمًا! مدهشٌ أن يرى كل زوج سجانة في نفسه "صابر" النصاب الكذوب الذي يعيش على قوت النساء ويُحمّل سواه جرائمه! مدهشٌ أن تقول السجانة، الموظفة المحترمة بوزارة الداخلية، إن المُشاهِد قد كره مهنة السجّانة بعد مشاهدته المسلسل! والصحيح لكل ما سبق هو العكس تمامًا.
ثمة سؤالان يجب الإجابة عنهما.
1- منَ هي السجانة في "الواقع"؟ الإجابة: مربيةٌ ومُصلحة تربوية وخُلقية. وظيفتها، ليست وحسب، مراقبة السجينات حتى يلتزمن بالتعليمات ولا يحاولن الهرب، بل الأهم والأخطر أن وظيفتهن هي تقويمهن وإعادة تأهيلهن حتى إذا ما خرجن للنور، بعد قضاء مدة عقوبتهن، انخرطن في المجتمع من جديد وغدون مواطنات صالحات.
2- ما هي الصورة الذهنية "الخاطئة"للسجانة في "الوعي الجمعي" للمُشاهدين، قبل المسلسل؟ الإجابة: امرأة فظّة غليظة الملامح، قاسية القلب، تتعامل مع السجينات كأنهن حيوانات، لا بشر. تضرب السجيناتِ بالسياط، وتُفرغ فيهن همومَها. إن عانت السجانةُ في بيتها، تُسقط قسوة زوجها على السجينات. إن تعرّضت لمضايقات في المواصلات أو قاست شظف العيش، وهموم الأولاد، سكبت قسوتها على السجينات كنوع من المُعادل الموضوعي الإنساني. القوي يعذّب الضعيف، فيردّ هذا الضعيف بتعذيب الأضعف، وهكذا في دائرة لا تنتهي. ذلك ما كنّا نظنه في وظيفة "السجانة" قبل مشاهدة المسلسل. مثلما نسمي كل جبار نراه في حياتنا:"عشماوي"، رغم أن هذا العشماوي ليس إلا موظفًا يؤدي واجبه، وربما ينفطر قلبُه مع كل شَدة ذراع مقصلة، وتتفتت روحه مع كل روح تصعد إلى السماء مع قبضته على رافعة أنشوطة المشنقة.
لكن المسلسل كشف لنا الوجه "الإنساني" للسجانة. فشاهدناها تتعاطف وترحم وتبكي على سجينة مريضة، وتساعد أخرى على الولادة، وتحنو على مُقبلة على الإعدام، وترأف بمريضة نفسية قتلت أطفالها. شاهدنا مرارة سجينة مظلومة كانت سجانة قبل أيام. نجحت "غالية" في أن تسرق منّا، نحن المشاهدين، تعاطفَنا حتى وهي تقتل الذين دمّروا حياتها وزجّوا بها للسجن ظلمًا، وقتلوا طفلها الأوحد.
أن تجسّد باليرينا فاتنة، مثل "نيللي كريم"، دور سجّانة، ثم سجينة، يعني أن نرى الوجه الجميل لمهنة مظلومة في الوعي الجمعي. كنا نظنّها فظة، فرأيناها شاحبةً مغلوبة على أمرها. نظّنها تحمل سوطًا في يدها، فإذا بقلبها مرتعٌ لكل سياط الظلم والقهر الذكوري والفقر والجهل واليُتم والثكل وانكسار القلب.
أن تجسد الفنانة "سلوى عثمان" دور سجانة نمطية على هذا النحو المدهش، يعني أن نعرف كيف تحنو الأم على بناتها، وإن كنّ طريدات العدالة.
أن تجسّد المبدعة "سلوى خطّاب" دور تاجرة مخدرات جبارة، يعني أن تُعلمنا أنه ليس ثمة شيطانٌ كامل، ولا ملاكٌ كامل، بل يقف الإنسانُ بينهما دائمًا. تلك "الَمعلّمة" التي تدمر أولادنا بالمخدرات القاتلة، جهلا، أو طمعًا، تحمل، رغم هذا، قلبًا يرقّ للفقير ويحنو على المستضعَف.
أما "روبي"، بأدائها الفذّ لدور الخادمة التي ستتحول إلى قاتلة في لحظة غياب عقل، فتعلّمنا أن للخادمة مشاعرَ وأحاسيس وكرامة وأحلامًا صغيرة من العيب تجاهلها، لئلاا نحوّل الأبرياء إلى مجرمين، دون أن ندري.
مسلسل عبقري كسر الصور النمطية "الوهمية" التي نحملها في أذهاننا عن البشر الذين يختفون عن عيوننا وراء قضبان جامدة. تحية لكل من شارك فيه.