حين يخجل الرجال ان يكونوا رجال



بسام البغدادي
2005 / 8 / 10

كانت الساعة الخامسة فجرا عندما رن الهاتف المحمول في غرفة الضيوف. أعوذ بالله كانت اولى كلماتي لهذا اليوم الكئيب عندما اقتربت من الهاتف وشاهدت ان الرقم الظاهر كان رقما من "العراق". كحال اي عراقي أيام حياتهُ جُبلت بالمرارِ و الموتِ و الفرارِ فقد خالت في مخيلتي مئات الافكار السوداء التي لا توصف بكلمات بسيطة وكل فكرة تنتهي بسوآلٍ لا جواب له.
عندما تناولت الهاتف وقربته من أذني وكأنني احمل قنبلة موقوته توشوكُ على الانفجار سمعت صوت شهيق لن أنساه ما حييت, كان صوت أنثى تبكي, وللحظة شعرت وكأن الزمن توقف وبدأ السواد يأكل زوايا الغرفة في مخيلتي. حاولت ان أتمالك نفسي وأستدرج الصوت الباكي هذا بالحديث, لم اعلم ان كانت احدى أخواتي المسكينات, ام حبيبة كنت قد نسيتها بين صخب الايام و الغربة. أو ربما ضحية رقبتها تحت سكين عمياء قرعت رقمٌ بلد لا تعرفهُ.
الو.. من وياي.. وشعرت وكان تلك الكلمات هي أقصى و أشجع ما استطيعُ قولهُ. جاءَ بعضُ النحيب و الحجرجة ثمُ صوتٌ يرتجف من وراء سماعة الهاتف في الطرف الآخر. سمعت اسمٌ نبش كل الذكريات في مخيلتي التي تصورت يوما اني رحلتُ عنها. كانت تلك الفتاة التي طالما وطالما حاولت التقرب منها أيام الكلية. كانت حبيبة صامته, ضائعة في عالم الامس و قد استيقضت اليوم وأيقضت معها كل لحضات الخوف التي كنت اخشاها. كانت اول جملة قالتها انها "لا تتحمل بعد. سوف تنتحر.."
كنتُ قد سمعت قبلها بانها تحاضر في احدى الجامعات في بغداد, كنتُ فخوراً بان نملك مثل هذا النوع من النساء ذو الفكر الحر و المتقدم في جامعاتنا. ولكن هيهات ان تدوم الفرحة في عراق ما بين النهرين. لقد أُجبرت على تركِ العمل.. ليس لانها لا تملك الكفائة أو الخِبرة, فقد عرفتها مثابرة ومجدة بل نحلة عاملة في مجالها, ولكنها أجبرت على تركِ العمل بعد شهور من العناء مع عصابات العراق الجديد التي انتشرت في جامعاتنا للاسف تحت اغطية معروفة لجميعنا ويافطات متهرئة أكل عليها الدهرُ و شرب لاداعي لتسميتها. العنصر الجامع الاوحد بين جميع هذه الجماعات ولِلأسف.. نعم اقولها لِلأسف أنهم "رجال" بعضهم اساتذة "ولا أعلم كيف اصبحوا أساتذة" وبعضهم طلاب جامعة "يوماً ما كان اسم طالب الجامعة دليل البلوغ و التقدم و الوصول".
أخبرتني انها وتحت شهور عديدة كانت مجبرة ان ترافق ابيها أو أحد أخوانها من و الى العمل, أخبرتني بان الوضع لا يطاق و أن الموت هو الحل لمشكلتها التي ليس لها حل. أخبرتني بان دكتاتورية الفرد قد ذهبت وجائت الآن دكتاتورية العصابات الحزبية و الدينية و المذهبية. أخبرتني بان كل من تعرفهم ومن اعرفهم من ايام الكلية من بنات قد أغلقوا على أنفسهم ابواب حصينة "تصوروا حجم الخسارة بالدراسة لسنوات طويلة" كحل أخير بعد ان عجزت كل الحلول الاخرى في اقناع تلك العصابات بان النساء هم شي اكثر من ماكنة تفريخ لحفظ النسل وثقب ضيق لافراغ الشهوات فيه في الليل. أخبرتني وأخبرتني الكثير.. لم انطق ببنت شفة. لم أجرؤ ان انطق بشي و الخجل كان يأكلني وأنا أرى بان المرأة التي كانت يوما ما مقدسة, يوما ما معبودة في بلاد ما بين النهرين, حيث كانت كمثال للمرأة في المنطقة بأسرها خلال كل العصور و الحقبات بما أنجزته في مجالات الفن و الابداع و السياسة, أصبحت تلك المرأة الان أدنى قيمة في المجتمع, أرخص سلعة تباع ولا تُشترى, نجاسة وغباء وحائض اصبحت بعض من صفات المرأة في عراقنا الجديد. ولا مكان لها في مجتمع التسلسل الهرمي الذي سنه رجالٌ يطلبون من الله ان يجعل المرأة في عينهم بقرة.

أخبرتني بانها تريد الخروج من العراق.. تريد ان تترك العراق لمن يريد ان يعيش في هكذا عراق. تصوروا يا معشر الرجال لو هربت كل النساء من عراق الرجال ماذا سيبقى من العراق. يا معشر الرجال بعض الاخلاق لا تؤذي, بعض الترفع بالنفس ليس بالشي الخطر, بعض الاحترام للرحم التي حملنا تسعة شهور و للصدر الذي ارضعنا في سنوات ضعفنا وللحبيبة التي كانت يوما ما مقدسة لقلوبنا لن يقلل من مقامنا وشأننا "الرفيع جداً". عجباً أرى ان بني جنسي "الرجال" قد تمادوا في كفرهم بعشتار ونسوا انها يوماً ما ستفوق من غفوتها العميقة هذهِ وتسأل عن هذا الذي يحدث اليوم في بلادها لبنات جنسها. فحذار من ذاك اليوم ثم حذار...