الخياطة... 3



ايمان محمد
2014 / 8 / 15

(03)
بدأت أعينُ والدتي و عملت في السوق , تارة صبي بقّال و تارة صبي جزّار و تارة صبي حلّاق , عملت بأجر يومي و كنت شجاعا و أمينا , و كلما شعرت بتوعك أو تلكأ في العمل استذكرت دموع والدتي و آهاتها فأتحامل على نفسي , كانت تغمرني السعادة حين أعود للبيت حاملا" نقودا" بيدي , أشعر و كأنني رجل يُعتَمد عليه ... لكن سلوكا" غير صحيح إكتسبته من تلك الحياة , الغضب و القسوة في التعامل , لطالما رفعتُ صوتي على أختي آلاء و صفعتُ أخي عمار لإرتكابهِ حماقات الاطفال ..
والدتي لزمت الصمت تجاه سلوكي , لم تنهرنِ او تضربنِ لكنها كانت تنظر إليّ نظرات مؤنبة , كنت أبعد عينيّ عن مقلتيها كي لا أرى عدم الرضا فيهما , يغمرني الندم بعد كل نوبة غضب و أقول في نفسي لن اغضب مرة أخرى .. نعم لن تغضب يا عماد لكن لا فائدة فالغضب صار ملازما" لي ..
ذات يوم عدتُ الى البيتِ باكرا" و عند الباب سمعت صوت خالي و والدتي يذكران إسمي فتنصت دون أن يشعرا ...
_ عماد يميل للعنف يا أبا محمد , أني أخشى أن يصير طبعا" في خُلقه حتى يكبر و يؤثر على حياته كزوج و أب , لقد صار يضرب أخاه و يوبخ آلاء على كل صغيرة و كبيرة , أخشى على الفتاة أن تتعقد بسببه , أني صرت أخشى تواجده أثناء وجود النساء اللواتي يأتين إليّ لأخيط لهنّ الملابس فبعضهن متعجرفات سليطات اللسان و هو يثور بسرعة , يعلم الله أني لم أربه على ذلك .... ثم تخنقها العبرة و تذرف الدموع
_لا تقلقِ يا فاطمة , سأتحدث معه حين يعود و أصطحبه معي الى المقهى , أنه غياب القدوة , فوالده رحمه الله كان طيبا" مسالما" و لابدّ أن لعماد قلبا" كقلب والده العطوف .
عدت الى الباب و أصدرت صوتا" كي يعلما بمقدمي , يهم خالي بالإنصراف حال دخولي عليهما , لابدّ أنه يفتعل ذلك , ينظر إلي
_السلام عليكم (القيت التحية)
_و عليك السلام يا عماد , كيف حالك يا بني ؟
_ بخير يا خال ..الحمد لله
_ لقد كنت أنوي الإنصراف الآن , سأذهب الى المقهى فهل تؤانس خالك في المقهى ؟ يبتسم لي و لكني متجّهم
_ نعم , و لكن إمنحنِ بعض الوقت كي أغسل وجهي و يدي
_ بالطبع سأنتظرك ( و يعاود الجلوس )
_كُل غدائك , لابدّ أنك جائع , أنه في المطبخ ( أمي تحدثني بصوت عالي و أنا أهم الدخول للحمّام )
_ حاضر يا أمي
بعد أقل من ساعة وجدتني أنا و خالي في المقهى متقابلين على طاولة صغيرة , ينادي خالي على صبي المقهى و يسأله إستكان شاي لكل منا , يبتسم و ينظر إلي بينما يرشف الرشفة الأولى من الشاي الساخن و يكسر الصمت قائلا" :
_ سبحان الله الخالق المصوّر , لكم تشبه والدك محمود رحمه الله , في يوم ما بعد سنوات ستكبر يا عماد و تصبح رجلا" قويا" و أمينا" كوالدك ,كنا أنا و والدك صديقين منذ سنوات, كنا جيرانا" متحابين , محمود كان الأبن الوحيد لأبويه رحمهما الله , لم يرزقا بغيره , كانت والدته شديدة الحرص عليه , لطالما اوصتني بإلإعتناء به كوني أكبر منه بخمسة أعوام , على الرغم من خوف أمه الشديد عليه إلا أنه صار رجلا" شجاعا", اتذكر أننا ذهبنا ذات يوم للسباحة في نهر الدجلة و كاد والدك يغرق لولا أنني أنقذته , لقد أخرجته من الماء كما يُخرج الصياد سمكته ...ههههههه ( يقهقه خالي و يرتشف الرشفة الأخيرة من إستكان الشاي )
_ خالي لقد سمعت حديثكما
_ ماذا سمعت يا ولد ؟
_ لا تقل يا ولد فأنا كبير
_آسف ..ماذا سمعت يا عماد ؟
_ سمعت أمي تشكوني لك
_ لم تكن تشكوك يا عماد , والدتك خائفة عليك , فهي لا تريدك أن تحمّل نفسك ما لا ذنب لك فيه , والدك توفي و تلك مشيئة الله و قدره و علينا و عليك أن تؤمن بقدر الله , أعلم أن ألأمر صعب , أنه زلزال أصاب العائلة بالكامل , فلا تلُم نفسك على ذلك
_ والدتي و أختي يعملنّ بخياطة الملابس و بعض الرجال في السوق ينادونني ( عماد بن الخياطة) و ذلك يشعرني بالغيظ
_ أطلب منهم مناداتك بإسمك , ثم أن والدتك سيدة شريفة مؤمنة صابرة , و العمل عبادة يا عماد , عليك أن تفخّر أن لك أما" كفاطمة , كما أن عمل والدتك شيء مؤقت فحالما تنهي دراستك و تعمل بوظيفة او أي عمل تحبه , ستترك هي الخياطة و تنشغل بالعبادة و العناية بأولادك حتى يأخذ الباري أمانته
_ أولادي !!
_ نعم يا عماد ستكبر و تصبح رجلا" و تتزوج و يكون لك أولاد و بنات
_ تكلمني كما لو أنني طفل صغير , أنا كبير و عمري 15 عاما"
_ الكبير ليس بالعمر يا عماد , الكبير بأفعاله , الكبير لا يضرب صغيرا" , الرجل لا يتصرف كما يتصرف الاطفال الطائشون
_ تقصد أنني طفل طائش ؟
_ كلا , لا أقصد ذلك , لكن مما لا شكّ فيه أنك تسمع من أقرانك بأن الكبير هو من يضرب أخته و يعلو صوته في البيت , و هذا كلام اولاد الشارع العديمي التربية , الحياة ليست هكذا يا عماد , عدنِ بأن تكون حنونا"مع إخويك يا بني ..عدّ خالك الذي يحبك
_ أعدك يا خال
و يعلو صوت الحق في تلك اللحظة من مسجد حيّنا , الله اكبر الله اكبر ...كان آذان المغرب ...طرّق خالي يردد بهمس كلمات ألآذان ثم قال تصلي يا عماد ؟
_ نعم , الحمد لله , كل ألأوقات حتى الفجر
_أحسنت , إذن هلّم بنا الى الصلاة في المسجد ثم اعيدك للبيت
مرّت سنوات على ذلك الحوار الذي دارَ بين فتىً يستعجل أن يرى نفسه رجلا" و رجل في التاسعة و الأربعين من عمره مرّ بالكثير من التجارب في حياته.
لا أنكر كون تلك النصيحة غيرت بيّ بعض ألأشياء و لكن ليس كل شيء , فالحقد تجاه الظلم و الغبن ظل يغلي بأعماقي ...
يتبع