الخياطه ...4 و 5



ايمان محمد
2014 / 8 / 16

(04)
في السوق , عملت كل ما يناسب قوتي و عمري , أرباب عملي وجدوا بي الصدق و ألأمانة و الإجتهاد في ألأداء , رأيت فتية لصوص في السوق , لكم استقذرت فعلهم ذلك و وددت لو أن لي قوة كي أبطش بهم ...
ذات يوم و أنا أعمل عند بقّال , و إذا بإمرأة تستصرخ : يا ناس انباكيت ( سُرِقت )
فتىً يركض و الناس تشير إليه , صرخ أحدهم : أنه يهرب أوقفوه
كنت أحمل سلّة كبيرة مليئة بالطماطم , ألقيتها من يدي و هرولت خلف اللص الصغير , يأس الناس منه لسرعته و لكنني أصررت على اللحاق به , ركضت و ركضت حتى أمسكت به في الزقاق , أسقطتُ نفسي على ظهره و تصارعنا على ألأرض , كان أصغر مني سنا"و أخف وزنا"
_ لا أريد إيذائك , فقط أعد ما سرقته
_ أتركنِ , تبا" من أين خرجت لي
وصل جمهور الناس إلينا فوجدوني جالس على ظهره أشبعه لكمات تلو ألخرى و هو يتوسلني كي أنهض من على ظهره , قال أحد الرجال :
_إنهض عنه يا عماد , سيموت , سيختنق تحتك
نهضت عنه و أنا أشعر بنشوةِ إلإنتصار و كأنني بطل من أبطال ألأساطير ...أخذنا الفتى الى السوق حيث السيدة التي أُجلست أمام أحد المحال على كرسي , إنها شاحبة و تردد بلهفة و
_لا أريد شيئا" فليأخذ المال , فليعد لي مفتاح الدار فقط
كنت ممرغا" بالتراب و يسيل العرق من جبيني و صدري , دنوت من السيدة :
_ خالة هذه حقيبتك و هذا اللص
_ أووه , أشكرك , بارك الله فيك ( تفتح حقيبتها بسرعة و كأنها طفل يفتح هدية يتوق لمعرفة ما بداخل الصندوق المغلّف ) تتأكد من محتويات الحقيبة
_نعم , أنها كاملة لا نقص فيها و هذا المفتاح , الحمد لله , أشكرك يا بني فليبارك الله الأم التي ولدتك ...و همّت السيدة لإعطائي مكافأة نقدية لكنني رفضتها , أما اللص الصغير فقد عفت عنه السيدة و إعتذر أمام الجميع و وعد أنه لن يكرر ذلك , لقد وبّخه اصحاب المحال و هددوه بالشرطة و الفضيحة
حين عدتُ الى ربّ عملي البقال , وجدته يتشظى بألفاظ الشتم و يبصق على الأرض و ينهر زميلي و ينظر الى الطماطم بينما يمسك السلة بيديه و يردد بصوت محتقن : سأجعله يدفع ثمن هذا , المهمل الصعلوك لقد أتلف الطماطم
_ السلام عليكم يا عمي
_ عما العماك ( شتيمة عراقية و تعني عمى يصيب نظرك )
_ أنا أعتذر , كنت مضطرا , ألم تسمع السيد... فقاطعني بصوت آمر غاضب
_ أنت مطرود , و حين ألقى خالك , سأطالبه بثمن ما أتلفت هيا أغرب عن وجهي
يا للحياة , كنت بطلا" قبل قليل , الآن انا مطرود من العمل , لكن لماذا يهينني هذا الرجل ؟
أنه بقّال بخيل جدا" , لطاما رأيته و هو يأخذ البقالة التالفة لبيته , أنه لا يسخِ أن يُطعِمَ اولاده و أهله مما يُطعِمُ الآباء أبنائهم و أهليهم , يا للبخل و شحة النفس , أعوذ بالله من البخل و الجُبن

( 05)

في المدرسة , إجتهدت في دراستي لم أكن متميزا" إلا أنني إجتزتُ كل عام دراسي من الدور الأول , على عكس أختي الآء التي تركت الدراسة في الصف الثاني من المرحلة المتوسطة
و آثرت مساعدة والدتي في البيت , لقد صارت خياطة ماهرة رغم صغر سنها ...
و السنين تمر كالساعات وجدت نفسي ضابط شرطة أؤدي القسم مع زملائي في حفلة التخرج
(أقسم بشرفي و معتقدي أن ....) كنا نردد الكلمات كما لو أنها تراتيل دينية , لساني يتحرك من تلقاء نفسه , قلبي يخفق بشدة و كأن كل ذرة في جسدي هي من تردد القسم .
والدتي العزيزة , تبكي و أنا بالزي الرسمي لأول مرة , لقد قامت الآء بإجراء بعض التعديلات على البدلة العسكرية و جعلتها على مقاسي تماما", كنت كالديك الهراتي المنتصر على غريمه في صراع الديكة الذي شاهدته في صغري في سوق الغزل , حين أخذني والدي ذات مرة اليه و شاهدت تلك المصارعة الحيوانية بين ديكين و الرجال من حولهما يتراهنون من سيكون له الغلبة , لم يرق لي أن أرى الديك الخاسر و هو يتلوى من شدة ألألم و لكن عينيّ لم تفارق الديك المنتصر آنذاك , لقد كان يصيح و ينفش ريشه الملون الزاهي مفتخرا" بنصره ..
والدتي تلك ألإنسانة الرقيقة ذات الروح الشفافة , لا تملك دموعها فرِّحة" او حزينة , تقول
_ تشبه والدك يا عماد , فليرحمك الله يا محمود , لو كان بيننا لسُعِدَ بك ...ثم تخنقها العبرة و تنكس رأسها و تذرف الدموع .. فتقول الآء :
_ أمي هل هذا وقت النحيب , بالله عليك أنه فأل سيء ؟
أدنو منها و أرفع يدها و أقبل كفها ألأيمن و جبينها , بينما تطرق لقول الأدعية التي تحفظني من شر الحسّاد و هي تحرك بيديها فوق رأسي , كما لو أنها تؤدي تعويذة
_ والدتي , لا أريد لهذه الأنامل أن تخيط غرزة واحدة بعد اليوم
_ أجل يا ولدي
فيأتي صوت الآء من خلفي :
_ و لكنني أريد أن أستمر بالخياطة فأنا أحب هذا العمل
_ أنتِ إفعلِ ما تشائين , المهم أن والدتنا ترتاح
و هكذا كان لآلاء الفرصة للتغيب عن البيت لبعض الساعات بحجة التبضع بلوازم الخياطة من السوق أو لأخذ قياسات نساء لا يستطعنّ المجيء اليها فتذهب لبيوتهن , كنا نثق بها , أختنا العاقلة الحبابة*, مدللة أبيها الراحل .
يتبع ...