قَسَتْ أمي.... ودلّلني القراء



فاطمة ناعوت
2014 / 9 / 3

“ماذا لو أن صدفةً طيبةً/ جعلتكِ قطةً بيضاءَ/ بظلالٍ بنيّةٍ خفيفة/ حول الحاجب الأيسر/ كنتِ تضمنين كلّ يومٍ/ خمسَ قبلاتٍ من السيدة التي هي أمّك/ وثلاثَ تربيتات على فروتك الناعمة/ ثم:/ "وحشتيني"/ عند الصبح/ وعند المساء."

***
أعيشُ في منفًى اختياري؛ ذهبتُ إليه راضيةً مرضية منذ عقد ونصف. منفاي الجميل يقع في حيٍّ هاديء صموت مقصوصٍ من العاصمة الصاخبة. مكتبٌ صغير من غرفتين، كأنه "قلاّية" راهب متوحّد، ترك العالمَ وضوضاءه وبشره وشروره، وشاهد بنفسه صلاة جنازته، ثم انعزل مع الصادقين. من هم الصادقون؟ الموتى من الأدباء والشعراء والمفكرين والفلاسفة والموسيقيين. الموتى لا يكذبون.
عدا مكتبي الضخم، الذي يحمل بصبر القديسين، حاسوبي وأوراقي وأقلامي، دون أن يشكو، تحيط بي أرففُ مكتبات تحمل كتبًا وموسوعاتٍ ومعاجمَ وتماثيل، وشموعًا، وهوم-ثييتر هائل يخبئ داخله أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز وتشايكوڤ-;---;--سكي وهايدن وباخ وكارڤ-;---;--يللي وبيتهوڤ-;---;--ن وسيد النقشبندي وڤ-;---;--اجنر وڤ-;---;--يڤ-;---;--الدي وتشوپان وشتراوس والشيخ إمام وخُطَب عبد الناصر وعبد الباسط والمنشاوي وعمر خيرت وموتسارت وعلي الحجار وفريد وصباح فخري وزياد رحباني ومنير ومارسيل خليفة وسيناترا ووديع الصافي وغيرهم. أولئك ينظّمون أوقاتي وأوقاتهم ولا يتعاركون كما يتعارك مثقفو بلادي حول تفاهاتٍ ومراهقاتٍ وصغائرَ.
دقّ جرس الباب ودخلت الصحفية الصغيرة تتعثّر في حُسنِها وخجلها، يصحبها مصوّر شاب. ياسمين المساوي، وحازم خالد، أرسلتهما الكاتبة الجميلة "أمل فوزي" رئيس تحرير مجلة "نصف الدنيا" لإجراء حوار معي بعد فوزي بجائزة "جبران العالمية" من سيدني الأسترالية. لمحتُ في عيون الشابين دهشةً تجولُ بين أرجاء صومعتي التي تشبه المتحف الصغير بتماثيله ومومياواته ومخطوطاته.
بدأ الحوار بسؤال حول "طفولتي". أخبرتها بأنني قضيتُ طفولةً جادّةً جافةً لم تدلنني أميّ فيها يومًا واحدًا، كما تدلّل الأمهاتُ بناتهن. كانت حياتي "مذاكرةً في مذاكرةٍ" وكتبًا وأوامرَ ونواهيَ وتعلمياتٍ وفقط. فسألتُ أمي يومًا: “ماما، أنتي ليه مش بتدلعيني وتحضنيني لما أرجع من المدرسة وتقوليلي وحشتيني يا حبيبتي زي أمهات أصحابي؟!” فقالت بحسم: “دلعك هو المدرسة الراقية لما تتعلمي، والطبيب الشاطر لما تمرضي، والطعام الممتاز لما تجوعي، وبس. لكن ’الهمبكة‘ بتاعة أصحابك دي مش عندنا. فاهمة؟!" كنت فاهمة، وغير قانعة. تمنيتُ أن أكون "القطة الشيرازي" البيضاء التي تحبّها أمي، لكي أحظى ببعض "الدلع" كما قطتها (القصيدة في صدر الصفحة).
طفرت من عيون الفتاة والفتى، الصحفية والمصوّر، ما يشبه الشفقة وبوادرُ دموع تجاهد ألا تُرى.
فضحكتُ لأخفف عنهما وقلت: “ومع هذا محدش إدلّع قدي"!!
عادت الابتسامةُ على وجهها وقالت ياسمين: “مين بيدلعك يا أستاذة؟"
‫-;---;--قلتُ: "انظري حولك!”
‫-;---;--فجالت عيناها على التماثيل والهدايا واللعب على رفوف مكتبتي واللوحات الزيتية التي تحمل وجهي وتغطي جدران البيت. ‬-;---;--
‫-;---;--قلت لها: "شوفتي قرائي بيدلعوني ازاي؟! مفيش كاتب في الدنيا ادلّع من قرّاءه قدي!‬-;---;--”
آخر تدليلات قرائي لي كانت لوحة بالفحم أكثر من بديعة رسمها صيدلاني مصري مبدع يعيش في كاليفورنيا اسمه "د. نادر حنّا”. رسمني في جلابية فلاحي بسُفرة، ومنديل بأوية يغطي شعري، وكفّاي قابضتان على "هاويس" القرية، أفتحه ليسقي الفلاحون الأرض رغم أنف طاغية القرية "عتريس". وكتب مع اللوحة ما يلي:
“‫-;---;--كنت أتساءل : هل استلهم "يوسف السباعي" رقّتك ونقاء وطنيتك ليجسّد بها (إنجى) "رد قلبي"؟‬-;---;-- ‫-;---;--أم تنبأ بحميتك الثورية فاستنسخ منك (نعمت) صحفية "العمر لحظة"؟‬-;---;-- أام استوحاكِ "إحسان عبد القدوس" فكتب الاتزان في (نوال) "في بيتنا رجل"؟‬-;---;-- ‫-;---;-- كيانُكِ محيّر في توصيفه، لكنني تأكدتُ في الأخير من أن العظيم "ثروت أباظة" قد مزج تلك الخلطة الرائعة في "شيء من الخوف" فجسّد جرأتكِ ضد الظلم وأصالة مصريتك في (فؤادة) النقية الحكيمة الثورية الجدعة الجسور بنت البلد.”
كم أنا ثريةٌ! قستْ أمي لتشدَّ عودي، ودلّلني القراءُ لأحصدَ الفرح.

***
قصيدة "تناسخ" | ديوان "اسمي ليس صعبًا" | فاطمة ناعوت | دار "الدار" 2009