ثلاث جنيهات



عائشة خليل
2014 / 10 / 17

بينما كانت أوربا تقرع طبول الحرب العالمية الثانية استلمت الكاتبة البريطانية فيرجينيا وولف (1882-1941) خطابًا من محام مرموق يسألها "ماذا بإمكاننا أن نفعل من أجل تجنب الحرب؟" كان الخطاب سابقة من نوعه كما علقت وولف، فلم يسبق من قبل أن سأل رجل متعلم امرأة متعلمة رأيها في أمر ما. وقد اتخذت وولف من الخطاب مدخلا لكتابها "ثلاثة جنيهات" الذي نشر عام 1937 وهو كتاب صغير، أقرب في الحجم إلى المقال الطويل. تناولت من خلاله موضوعات هامة فعرضت وجهة نظرها عن الحرب والتعليم والعمل، وطرحت سؤالا جوهريا "أي حضارة تلك التي نحياها؟"
بدأت بالرد على المحامي (ظل المُرسل مجهول الهوية) بتفنيد السؤال، فماذا يعني باستخدام صيغة الجمع في السؤال وكأن رأي الرجال والنساء في الحرب متطابق. فالرجال هم من يشنون الحروب، ومعظم الرجال يحبون الحرب التي تشعرهم بالسعادة وبالرضا عن الذات، ويرى فيها بعضهم مجده المنشود، ويزهون في زمن السلم بالزي العسكري، بينما لا تستمع معظم النساء بالحرب أو بالصيد. وعندما يرى الجميع الصور الفظيعة المأخوذة من ساحات الحروب يستنكرونها ويشعرون ببربريتها. ولكن الرجال ما يلبثون أن يشنوا حروبًا أخرى.
ثم تثني فيرجينيا وولف بالحديث عن التعليم. فتنظر بتفحص في فلسفات التعليم التي تكرس التنافسية وحب الظهور، بينما لا تكسب الطلاب مهارات التعاون. فيشبون وكأنهم في صراع دائم مما يمهد للدخول بعد ذلك في حروب مسلحة تهلك الحرث والنسل. التعليم بلا أدنى شك عند وولف يروج للحروب، فعوضًا عن تعليم قيم الكرم يعلم الطلاب الاحتكام إلى القوة وحب التملك من أجل الإبقاء على الجاه والسلطة والثروة. وتقترح أنه إن رغب المجتمع في التخلص من الحروب فعليه أولا افتتاح كليات لا تعلم فنون التحكم في الضعفاء طمعًا في المال، كليات لا تعلم كيفية استخدام القوة بل كيفية كراهيتها. يجب قبل كل شيء السؤال عن هدف التعليم، والإنسان المنشود تخرجه من تلك الكليات.
وعن مخرجات التعليم فهي مثل مقدماته عند وولف. نفتتح الكليات ليتخرج الطلبة كمهنيين ينازعون بعضهم البعض من أجل اكتساب المال. ينقلب المهنيون إلى أشخاص غيورين، محبي للامتلاك، ومقاتلين شرسين، (وهذه الصفات مقدمات لرجال حرب) فللأسف عندما يتميز المهنيون في أعمالهم فإنهم يفقدون صوابهم. ولا يجدون الوقت الكاف للاستمتاع مع العائلة والأصدقاء، أو من أجل السفر والترفيه أو من أجل تذوق الفنون. ولذا فهي تسخر من فكرة التحاق النساء بسوق العمل هذا، واللحاق بركب الرجال المتعلمين هؤلاء، فتشجيع النساء على العمل سيشجع الصفة التي تحاول القضاء عليها في المجتمع: الصراع. بمقدور النساء أن يبنين مجتمعًا جديدًا أفضل من المجتمع البطريركي القائم على الإكراه، ولكن بالتقليد الأعمى لصراعات الرجال فإنهن يضيعن هذه الفرصة الذهبية.
مازالت النسويات يسألن أي حضارة تلك التي نحياها ليدفعن عن مجتمعاتهن طبول الحروب التي تدق من كل حدب وصوب، ولا تعدم من يؤيدها، بل من يشجعها ويدافع عنها. وإذا بحثنا عن دوافعها نجده في مجد زائف، أو مال تالف، أو سلطة زائلة تماما كما فسرت النسوية البريطانية فيرجينيا وولف منذ أكثر من خمسة وسبعين عامًا. ومازال التعليم يكرس الأثرة وحب الذات، ويسوق الطلبة والطالبات للتميز بين الأقران، بينما يدفع الآباء والأمهات أولادهن وبناتهن لذلك وأكثر فمن التفوق التعليمي، إلى التفوق الرياضي، إلى التميز الذاتي، بما يفضي بنا إلى عالم عملي يتنازع فيه الجميع، فيسهل اقتيادهم إلى حروب مسلحة، فمن تعود على الصراع أدمنه.