أنا عاوزة ورد يا إبراهيم!



فاطمة ناعوت
2014 / 10 / 26

من أكثر العبارات "وجعًا" في السينما المصرية، عبارةٌ قالتها زوجةٌ تعسة لزوجها، في لحظة صراع بين شعورها بأنوثتها، وبين واقع مرّ تحياه في بيتها البسيط. في فيلم "أحلى الأوقات"، "يسرية"، زوجة شابة، وزوجها "إبراهيم"، المطحون بتربية الأطفال وتوفير الضرورات الأولى لبيته. سألها باستنكار، بعدما لمح بوادر تمرد تظلل حياتهما الكادحة: “أنتِ عاوزة ايه بالظبط؟!” ففاجئته بآخر ما كان يتوقعه: “أنا عاوزة ورد يا إبراهيم!”
ورد؟! ما هذا الجنون؟! الورود ليست ضمن أدبيات أسرة بالكاد تجد خبزًا يقيم الأود، وقطع قماش رخيصة تستر العُري! فمتى وكيف اخترقت هذه الكلمة "الغازية"، الآتية من كوكب آخر، جدرانَ هذا البيت الحزين؟! الزوج يرى أنه لو امتلك ثمن بعض الورود، لكان أولى به أن يجلب ربع كيلو من اللحم ليتعرف عليه الأطفال! والزوجة ترى أن من حقها كامرأة أن تزورَ الزهورُ بيتها ولو مرةً كل عام! لم تكن "يسرية " بحاجة لأن تلتقي بصديقاتها اللواتي تنتثرُ الزهورُ تحت أقدامهن لتتأكد أنها أيضًا امرأة تهوى الزهور. لكن الزوج يرى في مطلب زوجته فجاجة و"قلّة عقل" بل و"وتهتك" سببه صديقاتها "المنحرفات" اللواتي تلتقي بهن خلسة بعيدًا عن عينيه! وتبدأ حرب الأولويات.
تخبرنا عالمة الأنثروبولوجي الأمريكية بروفيسور "هيلين فيشر" في كتابها "لماذا نحب، طبيعة الحب وكيمياؤه" أن الأزواج بحاجة إلى تعديل برنامج "الأولويات" بين الحين والآخر لكي يستطيع الإنسانُ مواصلة رحلة الحياة الصعبة. الزهور في حالة "يسرية" صارت، في تلك اللحظة، "ضرورة" مُلحّة، وليست رفاهية وكماليات لا ضرورة لها كما يرى الزوج الساخر من "تبجحها”. ولا محل للسخرية حال الكلام عن الضرورات.
لن تكلّف الزوجَ لشراء بعض الزهور لزوجته إلا بعض الجنيهات، أعلم سلفًا أنها ضرورية لأمور حيوية أخرى مثل الطعام وكراسات المدرسة، لكنها كذلك "أكثر من ضرورية" لانتشال زوجته من هوّة الإحباط التي سقطت فيها في هذه اللحظة. أتقن "خالد صالح" أداء دور الزوج الفظ الغليظ، الذي يفني عمره، وعمر من معه، سعيًا وراء غرائز الكائن الحي "الدنيا" من طعام وتناسل ورغبات جسدية، دون الاهتمام مطلقًا بغرائز أخرى "عُليا" مثل شعور الإنسان بآدميته وثقته في أن مطالبه البسيطة في الحياة، محلُّ اهتمام الطرف الآخر، مهما بدت تلك المطالبُ في عين الشريك "تافهة" لا قيمة لها. وفي المقابل هناك أزواج "أذكياء" يعرفون كيف يحافظون على مشاعر زوجاتهم، مهما قستِ الحياةُ وظلل الشظفُ والعوز مطالب الصغار. السؤال هو: كم نسبة الغلاظ من الرجال، إلى نسبة الأذكياء منهم في مصر وفي المجتمع العربي السعيد؟!
كلمةٌ حانية من الزوجة لزوجها حين يعود من العمل مكدودًا، قُبلة طيبة من الزوج على يد امرأته بعد جهدها في طهو الطعام، صديري من الصوف تغزله الزوجه على إبر التريكو لزوجها (كما كانت جدّاتنا يفعلن)، وردة صغيرة يضعها الرجل على وسادة زوجته عند المساء، أمور جدُّ بسيطة وغير مكلفة قد تحول دون كوارث، سببها، ليس العوز وشظف العيش وعسر العمل والمواصلات والعذاب اليومي من أجل لقمة العيش، إنما السبب هو نسياننا أننا بشرٌ نحتاج إلى بعض الدعم النفسي لنصمد ونستمر، ربما أكثر مما نحتاج إلى رغيف الخبز ورشفة الماء.
دعونا لا نسمح للحزن أن يتغلغل داخل نفوسنا، حين لا نكتفي بقسوة الحياة علينا، فنزيدها عُسرًا بأن نقسو على بعضنا البعض. يقول شكسبير في إحدى مسرحياته: “الحزنُ الصموت يظل يهمس في القلب حتى يكسره.”