حوار العيون الحلقة التاسعة



الرفيق طه
2014 / 11 / 4

حوار العيون الحلقة التاسعة

بعد خروجه من مطار بقبرص ، اتجه نحو السيارة التي اقلته الى مركب مائي وفق الاشارات التي قدمتها له السيدة حسناء، لما سلمته تذكرة الطائرة و الدعوة الرسمية لحضور حفل عيد الميلاد . كان المركب ينتظره بشكل خاص ، بمجرد ان اخذ مقعده انطلق عبر نهر هادئ يتسع عرضا لما يقارب المائتي متر . ضفتيه عليها مبان رسمت عليها اياد الابداع لمسات حضارات راقية و ثقافات متعددة مرت من المكان . و اهم ميزة تعم طيلة المسار هي النقاء على الارض و الحيطان و المياه . بسرعة متوسطة يشق المركب مياه النهر الذي بنيت فوقه جسور متتالية و منتظمة . كان احمد يتابع هذا كله و كانه يتابع شريطا وثائقيا . تحت كل جسر ينتظر نهاية الشريط لكن المسيرة مستمرة و المجهول في النهاية اكثر شوقا . مجهول له طعم المرارة و طعم الحلاوة . مجهول منتظر و لذة اللحظة و المكان تترسخ في الذاكرة .
يستمر المركب و يستمر قائده في صمته و عناده بعدم الاهتمام بمن خلفه . وحيد احمد على المركب خلف قائده الاشقر ،القوي البنية ، القاسي النظرة ، ذو البدلة البيضاء المرصعة باشارات زرقاء . وحيد وسط عالم مثير للاعجاب بجماليته و خلطته الروماسية تثير الغبطة على من اختارتهم الصدف لهذا المكان و جماليته و اختارته في غيره .
بعد عدة منعرجات للنهر انعرج المركب معها بانسيابية ، الى ان دخل منطقة مائية اكثر اتساعا و اكثر هدوءا ، بحيرة تتخللها ارخبيلات من الجزر . جزر عبارة عن منتجعات سياحية و ترفيهية و مناطق لللهو و العاب الاطفال و نوادي للسباقات المائية بالزوارق و بغيرها . لكن الانتظام و الرقي الحضاري لم يفارق عين المتطلع يمينا و يسارا .
بعد برهة اتجه المركب نحو مرفئ خاص بقصر عبارة عن برج انشق عنده النهر الى جزاين . هو العنوان المحدد على دعوة حسناء . برج مطل على النهرين على مثلث الشكل اتسعت قاعدته بتباعد النهرين الواحد عن الاخر . قصبة رومانية محصنة ، تعلوها مدخنات و نوافذ . اسوارها مشيدة بحجارة صماء . تعلوه زرقة السماء كانها مرات للمحيط المائي . هدوء المكان لا تمزقه الا حركة بعض الطيور المختلفة الاشكال و الالوان مستانسة برحابة و زهو المكان .
بباب الاقامة استقبلته حسناء بابتسامة الفرح العميق ، ربطت يده اليسرى بيمناها و اتجهت به نحو بهو رحب . به كنبة و مائدة . جلس الاثنان لبعضهما . تساله حسناء عن السفر و الوصول و رايه في المسار الذي اتى منه . قدم له الثمر و الحليب و بعض الحلويات المحلية .
كان المكان مغر بالنظر ، يطل على النهر من جهتين ، و اشعة الشمس تخترق الستائر . الجدران مزينة بلوحات لا يعرف قيمتها الا من اختارها لهذا المكان . النقوش و الرسومات توحي ان المكان يلجه ذووا مقام في الفن و الابداع و من يتكلمون لغة الحضارة و الابداع .
احس احمد برغبة جامحة في الاطلاع على هذه النوادر التي تحيط به . لكن العينين المتلالاتين لحسناء امامه تاخذه غارقا في اعماقها . اذا نظرت في وجهه شعر و كانه سمكة في بحر عيونها . و اذا اغلقت رموشها و كانه انقبض و ضاق به العالم كما ضاق بين اهذاب عينيها .
بعد انطلاق الحفل باحدى قاعات البرج الفسيحة التحق احمد ترافقه حسناء مزينة بلباسها الجميل يعود بها الى ايام الجامعة الامريكية،هندام ترك لجزء من الصدر الى العنق حرية الظهور ، بساقيها المليئتين من الكعب الى ما فوق الركبتين اشارات لغة الجسد المتحرر من الحجاب ، شابة انيقة بالوان متناغمة و بشرة ثلجية و عيون زرقاء باهذاب سوداء و سوالف تتمرد بالسقوط على الوجه لتعيدها انامل يدين لطيفتين الى خلف الاذنين . تمشي على يمين احمد يتلامسان الكتفين .
انبهر الحضور للمنظر الاخاذ الذي دخلت به السيدة حسناء و الذي لم يسبق ان راه فيها اغلب الحضور الا الذين حضروا زفافها من زوجها الراحل .
اعتقد البعض ان احمد هو المعني بعيد الميلاد ، الا ان الطفل اسعد دخل القاعة و رحب بالجميع و شكرهم على حضورهم و فرحته بمشاركتهم له بالمناسبة السعيدة . كان ذلك بعد ان اخذ احمد مكانه الخاص بين الحضور لتعود حسناء لمدخل القاعة مشرفة على بروتوكول استقبال طفلها المدلل . هذا الذي دخل مرفوقا بمجموعة من الاطفال الذين ارتدوا ملابس بالوان فاقعة و رسومات جميلة على وجوههم و خلفهم فرقة بهلوانية تؤدي نفحات موسيقية تناسب الحدث .
انبهر اغلب الحضور لسلوك الطفل اسعد معهم و لكلماته المتزنة و الدقيقة و كانها من فم راشد . كلمات متزنة و بالانجليزية ثم العربية ، و بابتسامة تملا محياه . كانت حسناء تعبر عن اعجابها و تعجبها بالطفل بنظراتها لامها ،التي ترتدي زيا مغربيا مرصعا بالمجوهرات و تضع الكثير من الماس و الذهب . نظرتها لامها بفتح عيونها و ابتسامة التعجب مما صدر منه ، و كانه فاجاها بحدقه ، تعجب مليئ بالفخر و الاعتزاز .
اما ام حسناء ، السيدة راضية ، فكانت تنظر للطفل و ترفع يدها اليمنى حد الصدر و تفتح كفها مظهرة اصابع يدها الخمسة منفصلة و تقول كلاما لا يسمع و كانها تدعو له او تقرا كلاما قد يكون تعويذة او ما شابه ذلك حماية له من العين .
بعد ان استقر موكب الطفل و اقرانه على ارائك بوسط القاعة ، اتجهت حسناء مبتسمة مبتهجة و الى جانبها امها ، التي تحدثها بسلاسة و تحرك يدها اليمنى بعناية و يدها اليسرى تشد لباسها لترفعه قليلا عن الارض ، نحو احمد . ما ان وصلا بمقربة منه حتى وقف مستقبلا الام باحترام شديد و عيناه لا تفارق الارض . يتكلم بهدوء و يسرق النظر الى حسناء مبديا حشمة متناهية . اما الام فقد ابانت له عن ترحيبها به مخبرة اياه انها تحب كل من احبته حسناء . كما قالت بين فقرات حديثها ان حسناء نية لكن حظها في الحياة ضعيف و كل من حن عليها ربح . كانت الام تتكلم و حسناء تبتسم و تقهقه بحذر و كانها تقول لاحمد ها انت تكتشف ان امي بسيطة جدا .
بابتسامة عريضة سالته حسناء اذا بامكانه التعرف على ابيها . اجاب بنعم و وقف على الفور و دون تردد قائلا بفخر و اعتزاز . ترك الكرسي و رافق حسناء و الام خلفهما تجاه الركن اليميني للقاعة . هناك يقبع رجلان احدهما ستيني بشعره الابيض و هندامه الفاتح ، و الاخر يقاربه في السن لكنه يظهر اقل دراية على يبدو من الاخر .
من بعيد يتساءل احمد عمن الاثنين اب السيدة حسناء . لكن حسناء انهت التساؤل ، تقدمت نحو الرجل الستيني و قبلته على خده الايسر و قدمت له رفيقها . " هذا احمد يا بابا " " مرحبا بك و به يا ابنتي " اجابها الاب . و رفعت وجهها نحو احمد مبتسمة حد الضحك و شعرها سقط على طرف صدرها الايمن و قالت له هذا بابا . مد احمد يده للاب و صافحه باحترام شديد . التقت عيناهما التقاء خاطفا . عم الكلام المكان اكثر من العيون و النظرات . الترحيب الحذر يقابله الشكر و الحياء .
كان الاب رجلا ذا شخصية قوية ، يظهر الصرامة من بعيد ، الابتسامة منه عسيرة . الجوعة على مائدته تقول انه رجل يميل للسكون ، حذر في ارتباطاته ، صارم في قراراته . يشرب الدخان بشراهة .و لكن الاناقة على محياه و نظراته الحذرة و جلوسه الى المائدة مجانبا تقول انه شخص يحب الهدوء و مؤنس لمن يجالسه رغم تقشفه في الكلام .
عاد احمد و حسناء الى المكان لياتي الطفل لتقديم تحية خاصة لاحمد . لا يعلم احمد ان كانت اشارة من امه او من جدته . اظهر احمد اهتمامه و اعجابه بالطفل الذي لم يثره الامر كثيرا و لم يعره اهتماما ، لكنه ادى التحية و عاد الى اصدقائه و كانه ادى مهمة مكلف بها و فقط .
كان الحفل بهيجا ، و كانت حسناء نجمة ناصعة في سمائه ، لكن احمد خطف الاضواء ، ليس باهتمام حسناء به فقط فوق العادة ، و لكن حين كان منشط الحفل يطلب من كل فرد من الحضور المشاركة بنكتة او اغنية او رقصة . لم يكن احد بمن فيهم حسناء يظن ان احمد سيشد اليه القاعة و ضمنهم المنشط حين غنى لمحمد عبد الوهاب " ساعة ما باشوفك جنبي " .
ساد الصمت كل ارجاء القاعة و شد الصوت الشجي لاحمد و بحته الصادقة اذان الحضور ، و جعل العيون كلها منجرة نحوه . و ما ان انهى الاغنية حتى صفق له حتى الذين لا يروقهم هذا النمط الغنائي . رغم ان حسناء بدورها اثارت اعجاب من لم يسمعها تغني من قبل الا ان احمد كان وحده سارقا للاضواء و محتكرها . حتى ابو حساء تخلص من هدوءه و قام من كرسيه يصفق و اشار لابنته في اذنها انه معجب بهذا الشاب و صوته الشجي .
البعض من الحاضرات همسن في اذان اخريات ان حسناء اتت به فقط لخلق المفاجاة و ادعين انه يمتهن الغناء حرفة . و البعض الاخر قال انها تزوجت به ، و اخريات قلن انه قد يكون لها رفيقا في كباريها بقبرص او مكان ما . لكن ام حسناء تتجول بين الموائد و تبتسم لصديقاتها و دون ان تظهر قصدا اخبارهم تقول هذا الشاب من كبار رجال الاعمال المرموقين .
بقي احمد محافظا على هدوءه و تواضعه و انحنائه لكل من يشير اليه . يشعر و كانه تحت ضغط نظرات الاخرين و الشابات منهم بالخصوص . يراوغ كل عين تتعقبه فينظر ارضا او الى المائدة ، و الابتسامة الحذرة بارزة على وجهه مع الحياء الذي يشل حركاته .
بعد مدة اتاه الطفل اسعد ابن حسناء يقول له " عمو اغنية اخرى من فضلك " . لم يكن ممكنا بالمطلق رفض طلب الطفل ليس فقط لانه هو المحتفى به و لكن لانه ابن حسناء ، هكذا جال ما بخاطره .
بغمزة ذكية اشار لحسناء لترافقه ، غنى " كل عين تعشق حلوة و انت حلوة يا حبيبتي قلبي عاشق... " . لم تكن الكلمات وحدها تجهر عما بدواخل احمد ، بل حتى اشاراته باليدين و تقسيمات الوجه تعني ما تقول و تقصد التبليغ . اما العيون فكانت تتكلم لغة فصيحة . تجول و تصول في خريطة الوجه الملائكي لحسناء . لم تكتف العيون بمحيا الوجه المبتسم ، بل تجاوزته الى الجزئيات من حسناء ، تخترقها اعين احمد غير مبالية بمن يراقب عن كثب . كان احمد يعيش لحظة توحدت كل الابعاد في احساسه بوحدانيته امام السيدة . يرسم خريطة الحب الذي ليس له عنوان الا في حسناء .
انبهر الحضور مرة اخرى للانغماس الذي ابانه احمد بحيائه و بتعابير عيونه و مضمون كلماته ، و كيف جعلهم جميعا يعطون لكلمات اغنيته معنى دقيقا مضمونه حب صافي كالبرد .
البعض من الشابات الحاضرات اكدن ظنهن السابق و اخريات اضفن احتمالات اخرى . لكن الكل توسعت مساحة شكوكه عمن يكن احمد و عما يربطه بحسناء .
انتهى الحفل بهدوء ، قليل عدد المعجبين و المعجبات الذين تمكنوا من توديع احمد و تبليغه اعجابهم به . و البقية احتفظوا بما بدواخلهم نحوه ، خاصة الشابات منهم ، لانه تسلل بهدوء من الجمع نحو غرفته الخاصة بالاقامة ، استعدادا للسفر يوم الغد باكرا على مثن الرحلة الاولى نحو البلد .
في الصباح خرج به السائق حتى المطار و ودعه عند المدخل . ما ان وصل المساء حتى تناقلت وكالات الاخبار سقوط طائرة تربط قبرص بالبلد ، و كل ركابها ليس لهم اثر . انها الرحلة التي حجز بها احمد تذكرة سفره .
تواثرت الاخبار لحظة بلحظة ، و ذكر احمد باسمين مختلفين و بصورة واحدة ضمن لائحة المفقودين .