إذن بالسفر



زين اليوسف
2014 / 12 / 13

عندما كنت طفلة ذهبت ذات مرة مع والدي و أشقائي إلى شاطئ البحر..و هناك بدأت خطواتي الأولى في عالم الغير ممكن بالنسبة إليَّ كفتاة..فهناك على ذلك الشاطئ تعلمت أن عُري جسدي -مهما صغُر ذلك الجسد- هو من الأمور التي لا يجب أن أعتاد عليها..لهذا تم تلقيني -و غيري كثيرات- منذ الصغر أن عُري ذلك الجسد يدخل في منطقة الحرام المقدسة جداً لدى البعض طالما أن ذلك الحرام المزعوم ستُقدم على ممارسته أنثى كانت أقصى طموحاتها في ذلك الوقت تتلخص في الحصول على بعض "البلل".

و لكن رغم عدم تحبيذ من هم حولي لفكرة نزعي لملابسي التي تداري جسدي عن أعين الآخرين -خاصةً و أنا على بُعد خطواتٍ قليلة من مرحلة البلوغ- و على الرغم من التحذير المستمر لي بعدم الانغماس في اللذة الناتجة عن فكرة أن يحيط بجسدي الصغير ذلك اللون الأزرق من جميع الجهات فلقد أقدمت و تتبعت خطوات شيطاني لأتوغل بداخل مياهه لبضعة أمتار لأتوقف في اللحظة التي جرحت فيها قدمي عندما وطأت على حجرٍ ما..حينها شعرت بألمٍ شديد أجبرني على الانسحاب مبتعدةً عنه باكية لا من الألم و لكن بسبب خشيتي أن أنزف من موضع ذلك الجرح حتى الموت و الذي كنت أعتقد حينها أني سأناله حتماً كعقابٍ لعصياني للأوامر.

و بعد أن نجوت من موتي المحقق ذك بسبب ذلك الجرح البسيط قام جميع من عرفوا بحادثتي البسيطة تلك -و التي كان من الممكن حدوثها لأي شخص بغض النظر عن جنسه- و بحرصٍ بالغ على تلقيني أن هذا الأمر ما هو إلا عقابٌ إلهي نتيجة مخالفتي للأوامر و التصرف بإرادةٍ حرة دون الحصول على إذنٍ مُسبق..و هكذا تم إبعادي عن البحر و الذي كان البادرة في نظر من هم حولي على امتلاكي روحاً تتوق إلى التمرد و العصيان لأسكن في مدينةٍ لا تطل على أي لونٍ أزرق و لمزيدٍ من الحرص على عدم اقترابي منه مجدداً تعاون الدين و المجتمع كما القانون الوضعي على إبعادي عنه..و تدحرج معي للأسفل لمزيدٍ من التوضيح.

فلقد كانت آخر مرة شاهدت فيها البحر منذ أكثر من عقدين من الزمان!!..و في كل مرةٍ أحاول فيها الذهاب إليه لا أتمكن من ذلك و السبب دوماً لعجزي ذك هو عدم وجود مرافق ذكر ليرافقني أثناء رحلتي الماجنة تلك!!..فالقانون لا يسمح لي بحرية التنقل دون وجود ذكر يرافقني أو على أقل تقدير لا يسمح لي بذلك طالما أني لا أملك إذناً بالسفر من ذكرٍ يمت لي بصلة قرابة من الدرجة الأولى..فإذا انعدم وجود الأول أو الثاني فجواز سفري حينها لا يتعدى أن يكون إثبات لهويتي الشخصية و لا يمكن أن يصل أبداً إلى مرحلة وثيقة تكفل لي التنقل بحرية و بشكلٍ رسمي!!..هكذا نجد أن العادات و التقاليد برفقة الدين -الذي يصبغهما بصبغةٍ إلهية غير قابلةٍ للنقاش أو للتبديل- تجعل من رؤيتي للبحر تلك الأمنية البسيطة أمراً شديد التعقيد..فقط لأن ذكر ما قرر أن يصيغ القوانين التي تدير حياتي -كما حياة الكثيرات- بالطريقة التي تناسبه هو و تعمل على تقييد حرية حركتي بسلسلةٍ طولها سبعون ذراعاً أو تزيد.

هكذا أصبح وصولي إلى ذلك البحر -الذي لفظني باكيةً يوماً ما- ليس مجرد رغبةٍ في مواجهة خصمٍ يفوقني حجماً و بيني و بينه ثأرٌ قديم..بل أصبح رمزاً لقدرتي على الحصول على إذن ذلك القانون بركوب تلك الطائرة المتهالكة المتوجهة إليه حيث يقبع منتظراً لي مُتململاً من تأخري..و كم يثير جنوني -كما غضبي- أني كلما تحدثت مع أحدهم عن شوقي لرؤية البحر أعتقد أن الأمر مجرد رغبة ملحة لديَّ في مشاهدة زرقة مياهه و اتخاذ وضعية المتأملة العميقة أمام تضارب أمواجه..و لكن الأمر ليس كذلك تماماً.

فأنا أريد أن أشاهد البحر لأني أريد أن أشاهده..أريد أن أقف أمامه دون أن أكون مضطرةً إلى المرور المتكرر و المبتذل بتلك المعاناة المستمرة التي تقيدني عند رغبتي بالقيام بأي رحلةٍ ما نحوه أو نحو مكانٍ آخر سواه..تلك المعاناة التي تبدأ بالتساؤل عن وليَّ أمري و لا تنتهي عند طلب موافقته على سفري إذا كان لن يرافقني..أريد أن يعلم هذا القانون الأجوف أني لو أردت أن أرتكب أي خطيئة مهما كبرت فسأتمكن من القيام بها حتى و لو كنت في غرفةٍ ضيقة لا يوجد بها أحد سواي..فممارسة العادة السرية -و التي يعتبرها الدين الإسلامي خطيئة- لا تحتاج مني إلا تواجدي مع أصابعي!!.

أريد أن يسمح لي موظف الجوازات بالسفر من مكانٍ إلى آخر دون أن يتساءل -بكل ما يحمله صوته من استهتار- عن امتلاكي لورقة الإذن بسفري..تلك الورقة التي عندما أخبر ذلك الموظف بعدم امتلاكي لها تكون ردة فعله أن يطلب مني ساخراً أن أنصرف من أمامه و أحضرها ثم أعود إليه مُتمنياً عليَّ -بوقاحةٍ لا يُمكن الإمساك بها- أن لا أقوم بتضييع وقته الثمين مرةً أخرى بمحاولتي مخالفة "القانون" الذي يبدو بأني -حسب وجهة نظره- لا أستوعب بنوده الواضحة جداً!!.

الحجة الدائمة التي نصغي إليها كنساء مُرغمين عند مناقشة حصولنا على حرية التنقل هي أن المرأة كائنٌ ضعيف و لا يقوى على الدفاع عن نفسه عند تعرضه لأي هجومٍ من الآخرين..و كم هو غريب أن هذا القانون "القوي" و الذي يتمكن بنجاحٍ كبير من منعي أنا و سواي من التنقل بحرية يعجز عن حمايتي أثناء ممارستي لهذا التنقل تحت سلطته و نظره!!..فهذا يعني أن هذا القانون هو أضعف مني -ككائنٍ يعاني من نقص العقل و الدين و القوة الجسدية- لكونه عاجزٌ عن فرض سلطته على من هم حولي فيجبرهم على احترام ممارستي لتلك الحرية كما أجبر سواي من النساء على تقبل سلبه لتلك الحرية منهن..أم إن هذا القانون -كما كل أمرٍ شرقي آخر- لا تظهر قوته إلا في حضوره فوق أجساد النساء؟؟.

أخبرت صديقاً ذات مرة أني اشتقت للبحر كثيراً فأخبرني أن الأمر لا يستحق تلك اللهفة فهي مجرد صفحة من الماء الأزرق التي يردد الجميع ذات العبارات حولها فقط لاعتقادهم أنهم بترديدهم لها فإنها تمنحهم عُمقاً ما..و لكن امتلاكه لهذا الرأي الساخر من البحر و ممن يتحدثون عن "إلقاء أحزانهم فيه" لم يمنعه من القيام بإرسال صورةٍ له إليَّ..صورة التقطها من ذات مكان خطواتي الأولى بداخله و لكني لم أكن راغبةٍ في تلك الصورة..فكل ما تمنيته هو لو كان تمادى في خياله قليلاً فاحتجز لي في قنينة عطرٍ بعضاً من رائحة أنفاس البحر..فقط لأشعر -و أنا أمتلئُ بها- أني تمكنت أخيراً من تجاوز موظف الجوازات و العادات و التقاليد و حتى ذلك الدين الذي يستخدمه ذلك القانون لقمعي بالرغم من أني لا أمتلك إذنٍ بالسفر.