البودي جارد



فاطمة ناعوت
2014 / 12 / 17

"عجيبٌ أنني لم أمُتِ اليومَ/ رغم أنني قرَّرتُ في الصباحِ مصافحتَهم/ كلَّ الذين نثروا الترابَ في كأسي/ كلِّ الذين أطلقوا جنادبَهم/ لتأكلَ معصمي المعطوبْ/ إذن
لم يكن ملاكُ الموتِ هو الذي هزَّ الستارةَ عند الفجر./ كان ملاكَ الشِّعر.”
***

كتبَ على صفحتي يقول: “كنتُ دائمًا قلقًا بشأن سلامتك الخاصة. ظللتُ أفكر أنك يجب أن تكوني أكثر حرصًا في ظهورك وتحركاتك. ثم رأيتُ كيف تقودين سيارتك الصغيرة فيراك الناسُ وكيف حتى تقودين دراجتك وتتجولين، فأصابني الرعبُ. لابد أن تكوني أكثر حذرًا وحكمةً في طرق تنقلاتك اليومية، ويجب ألا تكوني بمفردك مطلقًا. فأولا وقبل أي شيء، أنتِ أمٌّ، وزوجة، ولديك أسرةٌ تحبّك. وثانيًا، أنتِ واحدةٌ من 100 مليون، ولم يأتِ أحدٌ مثلك في تاريخ مصر، أو في أي بلد آخر في الشرق الأوسط. لهذا فأنتِ كنزٌ لا بديل له. فكيف تُهملين على هذا النحو في سلامتك الخاصة؟ هل نسيتِ ما حدث للكاتب “فرج فودة”؟ هل شاهدتِ كيف يحيط الفنان “عادل إمام” نفسَه بحراسة أمنية مكثفة، وبودي جاردات. يجب أن تكون تحركاتك في سيارة ذات نوافذ زجاجية غامقة، مع حرس مسلّح، وبودي جارد شخصي. أسرتك تحتاج إليك. مصر تحتاج إليك. المصريون يحتاجون إليك، ونحن ندعو لكِ بالسلامة.”
انتهى كلامُ هذا القارئ الجميل الذي أشكره إذ رفعني إلى مصافّ أساتذتي، ووضعني في مكانة بعدُ لم أصل إليها، فلستُ إلا شاعرةً تصبو للعدل والجمال، وتنتصرُ للحق الغائب، ولا شيء أكثر. لكنني سأتوقف عند رؤيتي حول “الأمن الشخصي والحراسات والبودي جارد”. ولشرح فكرتي سأحكي حكاية وقعت قبل شهور قليلة أثناء سفري إلى هولندا للمشاركة في مؤتمر بمدينة أمستردام.
بمجرد أن أنهيتُ إجراءات الجوازات وجمعتُ متعلقاتي من سَير الحقائب، بدأتُ ألاحظ رجلًا ضخمًا هائل البُنيان ملوّن البشرة يتبعني. تجاهلتُه ومضيتُ إلى الوفد الذي كان ينتظرني من منظمي المؤتمر. لاحظت إصراره على مزاحمة الناس والركوب معي في المصعد. فهمستُ لأحد الرفاق: “الراجل ده ماشي ورايا زي ظلي من أول ما ختمت باسبوري!” فردَّ بابتسامة عريضة: “ده البودي جارد بتاع حضرتك.” فوقعت من الضحك، وهتفتُ بأعلى صوت: “يا حلاوة يا ولاد، بقى عندي بود جارد زي الممثلين والساسة!” فقال المستقبل: “وهناك اثنان آخران ينتظرانك بالفندق”. التفتُّ لحارسي الشخصي وصافحته فقدم لي نفسه: “روچر”، فهمستُ في أذنه: “أنا التي ستحميك، فاطمئِنْ ولا تخف!” بدا الرجل الزنجي جافًّا ولم يبتسم للدعابة، فقررتُ أن ألاعبه. تركتُ ترولي حقائبي للرفاق وبدأت أتخفّى من “روچر”، فيبحث عني حتى يجدني. في الآخر ضجَر مني وقال بخشونة مغلّفة بابتسامة: “Okay madame, if you feel safe, then I’m doing well” )إن كنتِ تشعرين بالأمان، فأنا إذن أؤدي عملي بإتقان.) فرددتُ إليه ابتسامتَه قائلة، وأنا أشيرُ إلى السماء: “أشعرُ بالأمان، ليس بسببك، إنما بسبب البودي جارد الاستثنائي الهائل في الأعالي.”
اليوم التالي أثناء إلقائي محاضرتي على المنصة، شاهدتُ روچر يقف على باب القاعة. ناديته ليدخل ويجلس، فهتف: “I’m at work madame!” “أ(نا في عملي)، يقصد أنه يحميني ويراقب الغرباء! فنزلتُ إليه وجذبته من يده ليدخل ويستمع إلى المحاضرة! ففعل، وبعدها اختفى تمامًا بعدما ترك لي في الفندق هدية صغيرة، وقال لمن استأجره: “هذه السيدة لا تحتاج إلى حارس شخصي، بل تحتاج أن تخاف.”
أؤمن جيدًّا بمقولة شكسبير: “الجبناء يموتون أكثر من مرة قبل موتهم الفعلي.” وأنا لا أريدُ أن أموت كثيرًا قبل موتي الذي سأسعد به لأنني سأصافح بعده وجه الله الحاني. إن قتلني داعشيٌّ سأقول له قبل لفظي آخر أنفاسي: “شكرًا لك، أنت لم تفعل سوى إرادة الله!” وسأوصي مَن حولي بعدم القصاص منه.


***
* قصيدة "ملاك" | ديوان "قارورة صمغ" | فاطمة ناعوت | دار ميريت 2007


-----