الحرام



عائشة خليل
2015 / 2 / 12

يسعد الزوجان: عزيزة وعبد الله بحياتهما بالرغم من الفقر المدقع، ويرزقان بطفلين يطعمانهما بالعمل كعمال تراحيل، فلا أرض لديهما. وتسير الحياة على هذه الوتيرة إلى أن يصاب عبد الله بالبلهارسيا فتقعده عن العمل، وتسعى عزيزة على رزق العائلة بالكد طوال النهار من أجل قروش معدودة. وحين يشتهى عبد الله البطاطا تتطوع عزيزة بجلبها إليه من حقل ناءٍ، ويساعدها في إخراجها حارس الأرض الذي ما أن ينتهي من إخراج جذور البطاطا حتى يقع على عزيزة ويتسبب في حملها. وتفشل محاولات عزيزة في التخلص من الجنين، فتخفي بطنها الآخذة في الاستدارة، حتى يأتي موعد الرحيل مجددا مع عمال التراحيل إلى بلد أخرى. وتكتم أمرها فتلد بمفردها، وتخنق صوت الجنين حتى لا يفتضح أمرها، فيموت مختنقًا وتتركه في مكانه تحت الشجرة. ويفشل رجال النيابة في معرفة الجاني ويقيد الأمر ضد مجهول، ولكن عزيزة تقع فريسة للحمى، فيفتضح أمرها بين أهلها من عمال التراحيل الذين يعملون على إخفاء سرها، فيلقون بسبب ذلك عنت أهل القرية. ثم يتحول أهل القرية من مناوأة عمال التراحيل والتربص بهم بسبب عزيزة إلى شفقة تبدأ تدريجية وتنتهي إلى حميمية عندما يتعارفون على ظروفهم المعيشية التي لا تختلف كثيرًا عما يعانيه أهل القرية. وما بين القصة الرئيسية تتفرع قصص أخرى عن علاقات جنسية ما بين رجال القرية ونسائها.

ويبقى السؤال عن ماهية الحرام، فالظروف القهرية التي يعيشها عمال التراحيل تحيل على انعدام العدالة الاجتماعية، وتلقي بظلالها على اللقيط الذي أتى إلى هذا العالم مختل الموازين. وتتعزز الدلالات من خلال السرد الفرعي للنص الذي يحيل على علاقات جنسية غير مشروعة، حيث يشير القاص إلى انتشارها. إذًا فهو يرمي إلى ما هو أبعد من الحالة الخاصة. ثم تتكاثف الدلالات خلال السرد المحوري خاصة وأن المؤلف قد ألقى بظلال من الشك على أهم مشهدين بالرواية: مشهد وقوع حارس الأرض على عزيزة إثر استخراج جذور البطاطا، ومشهد وفاة الطفل الرضيع. فمن الصعوبة بمكان تحديد ما إذا كان عزيزة ضحية اغتصاب، أو أنها متواطئة بعض الشيء. كما أن قصة وفاة الرضيع ملتبسة ما بين نية مبيتة في القتل، أو مجرد قتل خطأ ناتج عن رغبة البطلة في كتم صوت الرضيع. وهذا التباس مقصود تعززه المكانة شبة القدسية التي تلقاها عزيزة بعد وفاتها، حيث تصبح الشجرة التي شهدت وفاة عزيزة ورضيعها مزارًا لكل راغبة في الإنجاب. وتلك المكانة الخاصة ما كانت لتتأتى لو كانت عزيزة خاطئة ومُجَّرمَة في السرد القصصي.

كما أن مساندة أهل القرية لعمال التراحيل في محنتهم بعد أن تم التعارف فيما بينهم، يؤشر إلى تقبلهم لعزيزة وبالتالي ابتعادهم عن إدانتها ، مما يمهد الطريق للمكانة الخاصة التي تبوأتها بعد وفاتها. ولقد جمعت محنة عزيزة بين الأطياف المختلفة التي تتفاوت بعض الشيء في المكانة الاقتصادية، وخاصة ناظر الزراعية الذي وافق على أن يصرف لها اليومية بالرغم من مرضها، ورفض إبلاغ النيابة عنها، وعين لها حارسًا يذود عنها المتطفلين، ثم بعث إليها بحلاق الصحة ودفع ثمن دوائها. جمعت عزيزة بين أطياف تختلف في ثراء/فقر نسبي باختلاف مكانتها في سلم العبودية، ووحدت مأساتها تلك الأطياف فتمردوا (ولو مؤقتًا) على رموز الدولة وعلى مؤسسات السلطة ، وتواطئوا على الكتمان. هي إذًا أحداث رمزية تستدعي من خلال جسد عزيزة وأمومتها المبتورة ملامح مأساة أعم وأعمق وأشمل، تستدعى الظروف المعيشية لشعب قد يكون متواطئا باستكانته في صنعها ولكنها تبقى في نهاية المطاف غير إنسانية، وبالتعبير المصري الدارج "حرام". فيكون عنوان رائعة يوسف إدريس الكلاسيكية إحالة على الحالة العام وليس على الحالة الخاصة للقيط.