المرأة السورية... سنديانة في لهيب الصراع



معتز حيسو
2015 / 2 / 24


تشكّل النساء في المجتمعات المتخلفة الحلقة الأضعف، ويتجلى ذلك من خلال أشكال الاستغلال والقمع والتمييز الذي يُمارس بحقهم تاريخياً. أما أوضاعهم في زمن الصراع السوري فإنها تزداد مأساوية، نتيجة تراجع تأثير الأخلاق والقانون، وبشكل خاص القانون كونه لم يتحول إلى ثقافة عامة وسائدة. وهذا يعود إلى اقترانه عند الغالبية بسلطة القوة وقوة السلطة، ما يشكّل خللاً بنيوياً في بنية الوعي وآليات التفكير.

ويتزامن هذا المستوى من الوعي، مع الموقف من المرأة، وشكل العلاقة التي تربطها بالرجل الذي ما زال يتمسّك بالوصاية عليها. بهذا المعنى فإنها ما زالت مُلحقة بالرجل الذي يمثّل سلطة القوة البطريركية الذكورية التي تُعيق تحررها، وتحدُّ من فرص تحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية التي تطمح نساء سوريا إلى تحقيقها.
لم تشفع للّاجئات السوريات
اللواتي تجاوز عددهن 2,1 مليون الشرائع السماوية والأرضية في هذا السياق يجب تأكيد ضرورة النظر إلى مسألة المساواة بين الرجل والمرأة من منظور التضامن والتكامل والتفاعل والتشارك، فتهميش المرأة وإقصاؤها عن ممارسة حقوقها يُحدث خللاً اجتماعياً، وهذا ينعكس تلقائياً على أشكال وبنية الارتقاء الاجتماعي. فاستمرار سيطرة نمط وعي اجتماعي مشوه يقوم على تهميش النساء واستتبعاهن وإخضاعهن لسلطة ذكورية بطريركية متخلّفة، يساهم في ظل الصراع المحمّل بأثقال التخلف التاريخي في تحويل النساء إلى ضحايا العنف الجنسي، وتجّار الرقيق الأبيض وانتهاكات حقوق الإنسان. وأيضاً يُسقط النساء، ضحيّة فتاوى الجهل التي يطلقها «علماء» يدّعون تمثيل الإسلام والعلم والشرع والأخلاق. ذلك في سياق طمس وتغييب البُعد الإنساني للمرأة. إن اختزال المرأة في البعد الجنسي، يدلل على عمق التخلف الذي ما زال أنصاره ودعاته يقدمونه على أنه يمثل الإسلام. وهذا يستدعي من وجهة نظر تلك الأطراف، حجب المرأة وإبقاءها في سجنها التاريخي، كونها مصدراً لإغراء وإغواء الرجل. ويُعتبر هذا الشكل من التفكير أحد جذور التخلف الذي يشكل انتهاكاً لعقل المرأة وجسدها. وباللحظة ذاتها يشكّل احتقاراً لعقل الرجل الذي يتم اختزاله في جسد المرأة (الجنس). وانطلاقاً من هذا الواقع ونتيجة للوعي السائد، يُنظر إلى المرأة على أنها ناقصة الأهلية والعقل والدين. وهذا يعني أنها يجب أن تكون خاضعة إلى هيمنة الرجل الذي يمثل سلطة الدين والعقل والأخلاق والقانون. ويتجلى هذا من خلال هيمنة العقلية الذكورية على نمط العلاقة التي تربط المرأة بالرجل، وعلى جوهر القانون، وبشكل خاص قانون الأحوال الشخصية الذي يتطلب استمرار هيمنته، وبالتالي استمرار هيمنة الاستبداد البطريركي، واشتغال الفقهاء على تمكين ونشر وعي وآليات ضبط اجتماعية وقانونية تُبقي المرأة في سجنها التاريخي مقيدة بذهنية التخلف وأشكال تجلياته التي يسوّق لها ويدافع عنها دعاة الفكر السلفي. وهذا بحد ذاته يمثّل أشد درجات الانتهاك لكرامة المرأة.
وفي دوامة الصراع، تصبح المرأة أمام خيارين: إما الهرب خوفاً من عنف خرافي ومجنون يحوّلها إلى أشلاء تتقاذفها عواصف الجهل والتخلف والتعصب والتكفير والتخوين، أو الصمود أمام آلة الموت وتحت سطوة العنف والانتهاكات التي تمارسها أطراف الصراع بأشكال ومستويات مختلفة مثل:
ـ الزواج القسري: فقد رصد تقرير «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» السنوي الموسع حول انتهاكات حقوق المرأة في سوريا ان 18 حالة زواج قسري قام بها أفراد تنظيم «داعش».
ـ العنف الجنسي الذي يمارسه تنظيم «داعش» وباقي المجموعات المسلحة، إضافة إلى انتشار حالات السبي وبيع النساء والفتيات في أسواق النخاسة، والتضييق على الحريات الشخصية.
ـ الاعتقال، حيث بلغ وفق تقدير التقرير ذاته: 6500 امرأة لدى الحكومة، بينما احتجز «داعش» قرابة 486 سيدة، وما لا يقل عن 580 لدى فصائل مسلحة مختلفة.
ـ أما أعداد القتلى فقد وثّق التقرير مقتل 15347 امرأة على يد القوات الحكومية، وما لا يقل عن 81 امرأة على يد تنظيم «داعش»، و255 امرأة على يد فصائل المعارضة المختلفة. وهنا نميز بين شكلين للموت: موت بيولوجي تحت ضربات العنف السياسي والطائفي والمذهبي والإثني والجهوي، وموت إنساني (إطفاء الضوء الإنساني داخل الإنسان). فحين تُسلب الأعراض وتنتهك الكرامات والحريات، فلا شيء يبقى للإنسان إلا الثأر لكرامته المهدورة، أو انتظار الموت القادم. وفي هذا الانتظار تعاني المرأة أشد أشكال الظلم والقهر والاضطهاد. فالمرأة لم تكن تدري ان رحلة اللجوء سوف تحوّلها إلى ورقة في أيدي تجار الحروب، وإلى سلعة جنسية يتهافت عليها نهشاً الجهلاء والطامعون والغاصبون لكرامتها تحت ذرائع ومسميات يحكمها الجهل والانتقام. ولم يشفع للاجئات السوريات الذي تجاوز عددهن 2,1 مليون، أي ما يشكل تقريباً 35% من مجموع اللاجئين السوريين، حسب ما أورده تقرير «الشبكة السورية لحقوق الإنسان»، الشرائع السماوية والأرضية كافة من ظلم الإنسان الذي انحدر في سلوكياته لأحط المستويات. لقد تحولت المرأة في زمن الصراع إلى ورقة وأداة وسلعة للمقايضة والاستغلال في أسواق العهر السياسي. لكن مفاجأتها الأخطر لحظة اشتداد الصراع واضطرارها إلى هجرة منزلها، كانت في أن إخوتها الذين يدّعون التمسك بالعروبة والإسلام، اشتغلوا على تحويل حرائر سوريا إلى بغايا وسبايا.
فماذا يبقى للمرأة التي انُتهكت كرامتها وهُدّم منزلها وقُتل أطفالها أو شُردوا. إن من الصعوبة بمكان ضبط وتحديد أبعاد ومستويات وانعكاسات وكذلك النتائج النفسية والعصبية التي تواجه المرأة السورية نتيجة العنف السياسي، وموجات العنف التكفيري الجهادي الذي يستمد أصحابه مشروعيتهم وسلطتهم من «المقدّس» الذي يتم تدنيسه في يوميات التكفير وعلى أبواب التسول السياسي. فاستطالة الصراع يؤدي إلى تضخم العنف والقهر والحقد والكراهية والاستقطاب، ويساهم أيضاً في إخراج أسوء ما في المجتمع السوري من مظاهر الانحطاط والتخلف والتكفير والتعصّب إلى الواجهة. وهذا يدلل على أن العقل والعقلانية، باتا هدف العنف الذي يقوّض آمال السوريين في الانتقال إلى مجتمع الحرية والكرامة والعدالة. وهذا يتقاطع مع استبعادهم عن ساحة الفعل السياسي وإجهاض حقهم في التعبير. فأي مستقبل ينتظر السوريين في حال دمار الدولة والمجتمع. تحديداً في لحظة تشتغل فيها أطراف سياسية مسلحة وجهادية على القبض بالنواجذ والأنياب على وهم الوصول إلى السلطة، موظّفين في تحقيق وهمهم هذا، آليات انتقامية ثأرية إقصائية شخصانية مدمّرة؟ وماذا يحمل المستقبل إلى السوريين في ظل سلطة ما زالت ترى إن القوة سبيلها للقبض على المجتمع والدولة؟
وبالرغم من كل ما تواجهه المرأة، فإنها ما زالت تخلق الحياة، كما الأرض التي لا ينضب معينها. وتتمسك بالحياة وتزرع حبّها في أطفالها، وتواجه آلامها وجراحها بالصبر والأمل، وتشمخ بقامتها أمام آلة الطغيان والقهر كما شجرة السنديان، وتواجه الفقر مستعينة بالصبر على تدبير شؤون أسرتها. في وقت ما زالت ترى ان المستقبل يحمل الأفضل، فالتضحيات التي تقدمها من حياتها وحياة أطفالها ترى أنها ستشكل شعلة المستقبل الذي لن تخبو جذوته أو تنطفئ. وهي ترى في تمسكها بالحياة ووحدة أرضها وتلاحم أبناء مجتمعها في مواجهة تداعيات الأزمة وأسبابها وكذلك الإرهاب، مدخلاً إلى تجاوز محنة السوريين. وهي بذلك كما سنديانة في لهيب الصراع، تحترق دون أن تنحني، وتصرّ على مواجهة تداعيات الأزمة دون جذع أو توجّع.