الرؤية الآن عن المرأة



قاسم علي فنجان
2015 / 3 / 15

نهاراً وليلاً غروره فالت من عقاله, لا يترك كلكامش عذراء لأمها, ولا ابنة محارب, أو زوجة نبيل. (أسطورة كلكامش).. هو ذا الرجل كلكامش البطل, الممتلئ ذكورة, الضخم والقوي البنية, يهابه الجميع, لا يشبع غروره أي شيء, كل النساء هدف لملذاته ومتعه, أنه يرنو لأن يكون خالدا, ليس النبتة هي من تهبه الخلود, فقد تكون هذه النبتة حاملة لرمزية القانون الأولي الذي بدأت تلك الحضارات القديمة "بزراعته" أو سنه, قانون سيادة الرجل وهيمنته على المرأة, فكلكامش هو المرشد إلى قواعد السلوك في ذلك العالم, فهو الذي سينبت شجرة جديدة "قانون جديد", فلقد رأى كل شي.
علينا هنا أن نفهم كلكامش على أنه ماضينا, ماضي الرجل المسيطر والمهيمن, ومن خلال هذا الفهم نستطيع أن ندرك كيف استمرت "عبودية" المرأة, ولماذا يريد هذا الرجل أن يأبد سيطرته وبكافة أشكال الممارسة مبتدءاً بالعائلة والمدرسة والدولة والرياضة والفن والأماكن الدينية "جامع, كنيسة". أن كل التراكم والتكثيف لأشكال وأنماط الهيمنة عبر التاريخ, ومن خلال إنتاج كل الرموز الاجتماعية والسياسية والفكرية, هو بالنتيجة النهائية يراد منه تأسيس قانون -وجعله طبيعي وفطري- يكيف علاقة هيمنة الرجل على المرأة بإدخال فهم مصطنع تماماً عن الطبيعة البيولوجية للمرأة, وكون هذا الإنسان الآخر "ناقص, سلبي, وغير مكتمل" أنه -الرجل- يبني كل رموزه وأساطيره الذكورية على أساس الاختلافات البيولوجية والتي يسعى إلى جعلها اختلافات اجتماعية في طبيعيتها وهو ما يعمل على تأبيدة, فأسطورة الخلق الدينية جاءت مكملة ومعززه ومعبرة لهذا الفهم (حواء خلقت من أدم, أو من ضلعه, للتأكيد على دونية المرأة) في رمزية تحمل معها شعور الرجل "الأولي, النصف اله" بالنقص من أنه لا يستطيع الإسهام بإنتاج "ولادة" الجنس البشري, معرفا نفسه ومن خلال هذه الأساطير بأنه "أم" البشرية (سلب الدور الطبيعي المرأة), لقد كان مستاءً من ذاته بوصفه غير منتج أو مثمر, فبدأ بنسج أساطيره ليكمل أو يتمم نموه ويكون اله (الإله الذكر, استعباد المرأة في الديانات التوحيدية أكثر مما في قبلها, واحدية الإله انتصار الرجل)، فهو بذلك يأخذ لوحده الدور القيادي والريادي كله, مقويا وضعه كمنتج وحيد في هذه الحياة..
أن ترسيخ فكرة عبودية المرأة جاء أيضا بمزاعم وادعاءات الرجل وعبر تاريخه الطويل عن القوة الجسمية والبدنية الأكبر وقدرته على الركض بشكل أسرع, ما جعله صياداً ماهرا, بالتالي صار هو المزود الأساسي للطعام لمجموعته الصغيرة, من أجل هذا فقد فضلوه وأحاطوه بالحظوة والمكانة السيادية, مع أن الأبحاث الجديدة لمختلف العلوم (الاركولوجيا, الانثربولوجيا, التاريخ) عن الإنسان الصياد تؤكد غير ذلك, فقنص كبار الطرائد من الحيوانات كانت ضرورة جماعية أي أن المرأة كانت مشاركة وفاعلة, لكن الطبيعة البيولوجية للمرأة وفي سن وأشهر معينة من "حمل وطمث" جعلتها "تجلس في البيت" لخوفها على المجموع من هذه الفرائس المتوحشة, لان "الطمث" يولد رائحة تثير الحيوانات وتجعلها تهرب أو تهجم, وأيضا الحمل كان يعيقها ويبطئ من حركتها, فكانت الضرورة البيولوجية -فروق جنسية بيولوجية- هي الأساس في "أول تقسيم للعمل" ومن هنا تبدأ مسيرة إذلال المرأة والحط من قيمتها "الثقافة تدخل على الطبيعة", ويبدأ الرجل بتشريع وسن القوانين التي من شأنها جعل المرأة سلعة وخادمة اللذة, ومنذ ذلك الزمن أعطى الرجل الذي أصبح "الذات الكاملة" قائمة الأعمال للمرأة والتي صارت "الموضوع الناقص" أن تمارسها ,فهي باستطاعتها أن تعمل في مهن -في الوقت الحاضر- (العناية بالأطفال "مربية", منظفة منزل "خادمه", موظفة استقبال, فتاة إعلان, سكرتيرة, أو في التعليم أو التمريض, أو تفتح صالون تجميل) والتي هي انعكاس للإعمال القديمة مثل (ناسخة, حلاقة, قابلة, ساحرة, أو مومس, في منتصف الألفية الثانية قبل عصرنا هذا تم تأسيس الدعارة كمهنة محتملة لبنات الفقراء في العراق القديم)، بهذه الأعمال هو يؤكد على إدخال الفهم الأنثوي للمرأة كسلوك صار لزاما عليها ولازما لها "أنثنة الجسد والفكر" والذي يؤدي بدوره إلى تأبيد الضعف, فالمناصب والمراكز السياسية والعسكرية هي من حق الرجل، وأن حصول المرأة على مثل هذه المهن يعتبر أخلال وانحراف عن الخط العام وتجب مقاومته, ف"تجنيس" المنصب والمركز الاجتماعي يعود إلى الهيمنة التاريخية للرجل من تلك الحقبة الزمنية التي مرت بها البشرية كمرحلة تأسيس.
لقد رسخ الرجل هذا النزوع الأنثوي عند المرأة في كل الجوانب, فجماليتها تأتي على سلم أولويات الثقافة اليوم, فترشيق المرأة عبر التمارين الرياضية ووصفات إنقاص الوزن وعمليات التجميل لكافة أعضاء الجسم (مليون ونصف المليون امرأة في الولايات المتحدة تعمل لأعضائها عملية تجميل سنويا)، لقد أصبح سوق النحافة والرشاقة سوقا جماهيريا وحقق أرباحاً خيالية فلقد بيع كتاب فرنسي "أنا أكل أذن أنا أفقد وزناً" أكثر من مليون نسخه منه, كل ذلك يأتي للتأكيد على زيادة أنوثتها أي جعلها خادمة لذة الرجل, حتى في اللغة المنطوقة فقد رأى أحد اللسانيين أن حديث المرأة تكثر فيه التعبيرات الدالة على التردد مثل (أظن, ربما, يمكن) وغيرها وهو ما لا يوجد في حديث الرجل, أيضاً هي تخضع لكلمات الهيمنة (فوق - تحت, جامد - رخو, مستقيم - منحني, جاف - رطب)، وهي كلمات تقود في النهاية إلى تصور سلبي عن جسدهن والنتيجة ستبقى المرأة سجينه داخل معادلة "قوي - ضعيف", أيضا في المجال السيكولوجي كانت هناك رؤى تؤكد على "دونيتها" وتفوق الذكر وسيطرته ,فقد رأى "فرويد" ومن قبله أرسطو بأن المرأة هي "قضيب مبتور" وأنها تكافح لتعويض هذا النقص, وهي نظرة مأخوذة أصلاً من الأسطورة الدينية التي تؤكد على أن الرجل هو الأصل والأول والأفضل.
وتستمر عملية الإخضاع وتأبيد الإخضاع عبر مسيرة طويلة من العذابات والمعاناة التي قاستها المرأة إلى اليوم, وفي بقعتنا التي نعيش بها فأن حكايتها مؤلمة أكثر, فمن هذه البقعة سن أول قانون لتحجيب المرأة (القانون الأشوري رقم 40)، الذي ميز المرأة "المحترمة عن غير المحترمة" وهم -أحفاد أولئك ألإسلاف- إلى اليوم يتحينون الفرص لسن القوانين التي تحط من شأنها, لقد نفى وأنكر الرجل كل التاريخ الذي يخص المرأة وهمش دورها كفاعلة ومنتجة ومشاركة في هذه الحياة, ما عزز من سيطرته وهيمنته من ناحية, ومن ناحية أخرى قوى من قبولها لهذه السيطرة, ولن تتحرر المرأة ألا بإزالة هذا التهميش والإقصاء والدونية التي لحقت بها عبر صراع قوي مع خصم سلاحه تاريخه الذي كتبه ومارسه.