الإنعتاق النهائي للمرأة .. مانفستو الغد القادم



أحمد البخاري
2015 / 3 / 19

بدأت القصة بظاهرة الحرب التي كانت كافية لإرغام المرأة على طلب الحماية في جانب الرجل، فقد كانت ظروف القتال أكثر مما يمكن للمرأة أن تتحمل وكان القتال نفسه قد أصبح نظاماً متناسق البناء، تبنته معظم الكائنات بصورة نهائية، وجعلته قانوناً للحصول على الغذاء والمأوى ثم للدفاع عنهما طوال الوقت، وكانت ظروف الحمل والولادة ورعاية المولود ومدّه بالغذاء، تعترض طريق الأنثى في تحقيق الشروط المعقدة للقتال.


فقد كانت الأنثى تظل عاجزة أثناء شهور الحمل الأخيرة عن القيام بأي نشاط من شأنه أن يمدّها بالغذاء، ثم يأتي المولود، وتزداد الظروف سوءاً أمامها، فهي تحتاج إلى أن تطعمه وترعاه وتجد له المأوى ثم توفر له الحماية وقتاً طويلاً جداً، وهي تحتاج إلى أن تقاتل طوال ذلك الوقت، أو تظل مستعدة للقتال، وكان من الواضح أنه إن لم يكن في وسع أحد أن يقوم بتأدية هذه الواجبات الثقيلة المتناقضة في وقت واحد، ولم يكن ثمة حل أمام التطوّر الإنساني إلا بإنقاذ نفسه من الفناء ، وإعادة الارتباط بين الذكر وبين الأنثى، لا من أجل إنجاب الأطفال فقط ، بل من أجل رعايتهم أيضاً،وهذا ما جعل الأنثى تتقدم طائعة لكي تضع نفسها وأطفالها تحت حماية الذكر، وهكذا جاءت أول إمرأة إلى كهف أول رجل ووضعت نفسها تحت تصرفه، ولكن هذه الحماية لم تكن بدون مقابل، فالمرأة مقابل هذه الحماية ستدفع ثمناً فادحاً جداً، وهو إستقلاليتها.

ولكن هذه الأعباء سوف تزداد في القريب العاجل، عندما ندخل عصر إكتشاف الزراعة، وعند تمكن أحد الرجال من أن يزرع أول حقل في العالم، وكثرت الحقول ثم كبرت وأصبحت مزارعاً كاملة، وبنيت البيوت في وسطها، وانتقلت المرأة إلى البيت مع أشياء الرجل الأخرى، وواصلت تأدية مهمتها بعد أن أضيفت إليها مهمة أخرى تتعلق برعاية ذلك البيت نفسه، والعناية بشؤون الرجل وتقرر مصير العالم بصورة نهائية، ودخلت المرأة سجنها الأبدي مدفوعة بالرغبة في توفير الحماية لأطفالها ولم يكن ثمة فرصة أمامها للإفلات من ذلك السجن فقد كانت مرغمة على قبول سلطة الرجل في المزرعة أو العودة إلى الغابة ومواجهة ظروف القتال مرة أخرى، أما أن تنفصل عن الرجل وتنشئ لنفسها مزرعة مثله، فإن ظروف الزراعة كانت مثل ظروف القتال أكثر صعوبة من أن تقوم بها الأنثى مع واجبات الحمل والولادة، وذلك يعني أن المرأة قبلت سلطة الرجل لسبب إقتصادي بحت، ولو أتيحت لها فرصة للقيام برعاية أطفالها وكسب عيشها في وقت واحد لما قبلت هذه السلطة.

والمرء لابد أن يشير هنا إلى ما حدث بعد ذلك في أوروبا، فقد قدم عصر الصناعة تلك الفرصة للمرأة وأعطاها الاستقلال الاقتصادي الذي كانت تحتاج إليه، ولم تتردد المرأة قط في إعلان تمرّدها على سجانها فوراً وبطريقة صارمة لمجرد أن اكتشفت قدرتها على كسب عيشها ورعاية أطفالها دون حاجة اقتصادية إلى الرجل، وأعاد التوازن الاقتصادي ثقة المرأة إليها فيما أرغم الرجل على قبول معاملتها باعتبارها نداً له بعد أن ظل يعاملها مثل عبد لا قيمة له سوى إنجاب الأطفال، وزيادة متاعب الأسرة مئات القرون.

ولم يعد الرجل قادراً على الحصول على طاعة المرأة مقابل مدّها بالغذاء والمأوى، بل أصبح يحتاج إلى إقناعها عقلياً ثم اعتبارها شريكاً في كل شيء والعمل معها جنباً إلى جنب دون أي رغبة في الاحتفاظ بمميزات خاصة، وهذا حدث في جميع الأقطار الصناعية بلا استثناء رغم إختلاف دياناتها.*

ومع دخول المرأة لسوق العمل، وعملها اللذي أصبح مساوياً في عدد ساعاته مع الرجل، أصبح هناك ضرورة لإعادة توزيع الأدوار في المنزل، وأصبحت المرأة تتساءل : لماذا أتحمّل أنا أعمال الكنس والطبخ والغسل وتربية الأطفال لوحدي بينما أنا أعمل نفس ساعات العمل مع الرجل بينما هو يكتفي بالراحة ؟، وبالفعل، أصبح الرجل العصري يتشارك مع المرأة مسؤوليات البيت والكنس والطبخ بالتساوي كما تعمل هي معه وتدخل دخلاً مالياً للأسرة بالتساوي، ومع تطوّر المعرفة، لم تعد تربية الأطفال طقس بدائي تتوارثه الجدات عن الأمّهات عن الفتيات، بل أصبح علماً قائماً بذاته له أصول وقواعد تتداخل فيه معارف علم النفس وسيسيولوجيا التربية "علم الإجتماع" والطب وغيرها من العلوم التي لم تعد حكراً على النساء فقط، بل أصبح بإمكان الرجل تعلمها وإتقانها.

ولكن رغم كل هذا التقدّم للمرأة، إلا أن الوهن الجسدي وخاصة الوهن الخاص بالعملية البيولوجية المختصّة بها وهي الحمل والإنجاب والرضاعة، ما زالت تشكّل أمامها عائقاً حقيقياً للتساوي الكامل مع الرجل في العمل الوظيفي، ورغم التشريعات الإنسانية المراعية لهذه الظروف الخاصة في الدول المتقدمة من تقديم إجازات وتسهيلات الحمل والإنجاب والرضاعة !، لكن التقدّم العلمي والطبي أصبح بالفعل في طريقه لإسقاط أسباب هذا التمييز، فالمرأة بفضل الأدوية والفيتامينات والطرق العلاجية والرياضية الجديدة لم تعد تحس بآلام الحمل ومشقاته سوى أيام معدودة قبل الوضع، والإنجاب نفسه لم يعد يتطلّب الإنشغال سوى لأيام معدودة، يوم للوضع وبضعة أيام أخرى كراحة، أما الرضاعة، فقد أصبحت هناك الآن منتجات في الأسواق من الحليب الصناعي ما يفوق جودته وفائدته حليب الأم الطبيعي لما يحتويه من فيتامينات ومعادن وبروتينات تماثل في تركيبتها حليب الأم بل تتفوق عليها.

وهذا ليس كل شيء، فالمستقبل القريب يعدنا بالمزيد، فمع تطوّر تقنيات أطفال الأنابيب، والحقن المجهري، والأرحام الصناعية، يمكن بالفعل أن يسدل الستار نهائياً عن ما يعرف بالحمل الطبيعي والإنجاب، وسيصبح الأب والأم يرون طفلهم يكبر في حضانات خاصة وأرحام صناعية مجهزة بأحدث التقنيات يوماً بعد يوم، وبهذا ينتهي تماماً هذا الإختلاف البيولوجي بين الرجل والمرأة.

أما بالنسبة للقوة الجسدية، ومع دخول عصر الآلة، فقد أصبحت لا حاجة لإدارة الحروب والتفوق البشري للقوة العضلية، وهذا ما تمّ ملاحظته فعلاً في الذكور اللذين أصبح أغلبيتهم ذو أجسام مترهلة بسبب طبيعة العصر، وبالمقابل مع هذا، أصبح هناك إقبال كبير جداً من قبل المرأة على الذهاب إلى صالات اللياقة البدنية والفنون القتالية وإكتساب المهارة والقوة الجسدية، ومنافسة الرجال في ما كان حكراً عليهم، سواء في الألعاب أو في الحروب.


من هنا، وعند هذه النقطة، يتم إعادة تعريف كيان الأسرة من جديد، حيث ينتفي المفهوم التقليدي للأسرة النمطية التي تجاوزها الزمن والتاريخ، ويعاد صياغتها بتموضع جديد لكل من الأب والأم، بعد المساواة في المسؤوليات والواجبات لحياتهم المشتركة، وتنتهي أسطورة "حب الأم لأبنائها أمام إهمال الأب" فطبق قوانين ونظريات "التعلق"** التي قام بصياغتها جون بولبي في علم السلوك، يصبح الحب مشتركاً ومناصفة ما دامت الواجبات والمسؤوليات والتعلق الوظيفي مشترك.


وبعد التخلّص من الفروق البيولوجية واللياقية والإجتماعية نهائياً بين الرجل والمرأة، تبرز لدينا مشكلة الفرق النفسي، هذا الفرق اللذي نتج عن تراكمات طويلة لعقود من النظرة المتعالية للرجل، والنظرة المتدنّية للمرأة، هذه النظرة التي تمَّ تعزيزها وتكريسها على جميع المستويات الثقافية والإجتماعية والنفسية، ثم جاء الدين ليكرّس ويرسّخ هذا المفهوم ويعطيه القداسة الحتمية ليربطه بالإلهي، لتنتج مفاهيم عبّر عنها عالم علم النفس الشهير "سيجموند فرويد" في عقدة "حسد القضيب"*** ، حيث تتمنى كل إمرأة أن تكون رجلاً هرباً من هذا الدنس اللذي لحق بها، ولإمتلاك القضيب اللذي يرمز للقوة والسيطرة والتعالي والتحكّم، وهذا الفرق النفسي لا يمكن أن يتم معالجته إلا بشكل تدريجي وبعلاجات مكثفة عبر الزمن من خلال التوجيه الفكري والنفسي للثقافة تعاد فيه صياغة الشخصية النسوية لتمحي آثار الخزي والعار من جسدها وكينونتها، وتصبح ليست أقل مفخرة من الرجل، لما صنعته وتصنعه يومياً من إنجازات وأخذ زمام المبادرة، وهو ما بدأ يحصل فعلاً.


ولكن بعد أن تمحى كل الفروقات الجسدية والإجتماعية والنفسية لدى الرجل والمرأة، هل يمكن أن نقول أن الرجل والمرأة أصبحا كائناً واحداً، بالتأكيد لا، فالحاجة الجنسية والجسدية لكل طرف للآخر لا يمكن أن ينتهي، وبالتالي سيظل هذا التمييز بين كائنين يحاول كل جنس منهم إثارة إعجاب الآخر، ورغم كل مسيرة المساواة بين الجنسين وحقوق المرأة وتحقيق إرادتها، إلا أن المرأة ما زالت في أكثر البلدان تقدماً، تهتم بأناقتها وجمالها ومكياجها وتصفيفة شعرها لكي تثير إعجاب الرجل، وتبتكر المرأة آلاف الطرق لإبراز أنوثتها وإثارة الرجل، إذن ما اللذي تغيّر ؟!، التغير اللذي حدث هو إعادة التموضع، فبسبب المساواة الإقتصادية والإجتماعية للمرأة، أصبح الرجل أيضاً في موضع تنافسي، وبعد أن أحتكر الرجل لسنوات السلطة والثروة فجعل دور النساء هو التنافس على الرجل لا غير، أصبح الرجل نفسه الآن بعد إستقلال المرأة موضوع للإختيار، ولهذا نجد تصاعد الإهتمام بأناقة الرجل وجماله وأزياءه وشكل جسمه وعضلاته بعد أن ظل الرجل لعقود طويلة مهملاً لعناصر وطرق جذب الأنثى عدا طريقة واحدة وهي عنصر المال اللذي لم يعد له بعد الآن أي قيمة.


ولكن قد يسأل ملاحظ : أليست قيم التحرر والمساواة أدّت إلى تحويل المرأة إلى سلعة وتجارة عند الدول المتقدّمة، أوليس إختزال المرأة في جسدها بصورة نمطية هو أحد مظاهر عبودية الزمن الحديث ؟، والحقيقة أن في هذا الحديث مغالطة كبيرة، فليست عملية المساواة وتحرر المرأة من قيودها هو من جعلها محصورة في إثارتها الجسدية، بل هو نمط الثقافة الرأسمالي الإستهلاكي، اللذي حوّل ليس جسد المرأة فقط إلى "عنصر" لإثارة إعجاب الآخر، بل جسد المرأة والرجل معاً ، وأصبحت هناك تجارة قائمة على المكياج وعمليات التجميل والحميات الغذائية للوصول للقوام التي تروّج له الميديا الإستهلاكية، وما علينا في حقيقة الأمر إلا محاولة تغيير هذه الثقافة الإستهلاكية لثقافة أكثر عمقاً، ثقافة تروّج لعناصر جذب بين الجنسين أكثر ثراء، وهذا ما أصبح يوجد بالفعل، فالمرأة المثقفة مصدر إثارة وجذب أيضاً، والمرأة المبدعة، والمرأة الفنانة، والمرأة الناجحة في عملها، والمرأة ذو الشخصية القوية، كلها أصبحت عناصر فاعلة لإثارة إعجاب الرجل والعكس، كما أن على الجمال الجسدي أن يخرج من القولبة والنمطية، فكل جسد جميل، وكل إنحناءة أو بروز فيه هو شكل فنّي في حد ذاته، ولهذا على نظرتنا للجسد أن تتغيّر بشكل جذري، وهذه النظرة لن تتغير ما لم يتم تغيير نظرتنا للجنس والشهوة وإعتبارهم خطيئة تستحق المخاطرة، ولذلك، لم يعد بالإمكان الحديث عن عودة المرأة للوراء، والرجوع للقيود الحقيقية والوصاية الذكورية بدعوى ثقافة النمط الإستهلاكي التي يمكن تغييرها بموجة أكثر إنسانية وتبديل هذه الثقافة بثقافة أخرى أكثر فهماً وعمقاً للمنظور الإنساني سواء كان رجلاً أو إمرأة، فالتسطيح يطال الجنسين، وحتى تجارة الجسد والبغاء أصبحت ليست حكراً على النساء فقط، بل أصبحت هناك مراكز للبغاء يقدّم فيها الرجال المتعة للنساء.


وهنا، بعد أن تمّ الإستقلال الإقتصادي والإجتماعي والجسدي لدى المرأة، لم يعد أمام المجتمع الذكوري إلا لعبة أخيرة يحاول أن يلعبها ليرجع بها المرأة إلى حظيرته، وهي لعبة "الدين"، فالدين أصبح يشكل المحاولة الأخيرة لإعادة السيطرة على المرأة، من خلال إدّعاء القدسية، وأن هذا النمط اللذي تكون فيه المرأة خاضعة هو نمط أراده الله مباشرة، وهي إرادته التي لا يجب أن تبدّل، من خلال نصوص تم صناعتها وتكوينها وتفسيرها في زمن ما قبل العصر الصناعي، حيث كانت المرأة تبحث عن عذر غيبي يجعلها ترضي نفسيتها وشخصيتها المذلولة، فتمّ تقديم لها هذه النصوص لكي تتخلص من عقدة الذنب والضعف التي تسيطر عليها بإستمرار.

وداعاً انتصار الحصائري ..


----------------------------

* من كتاب الصادق النيهوم ( الحديث عن المرأة والديانات ) .
** نظرية التعلق لجون بولبي John Bowlby .
*** كتاب "الحياة الجنسية" سيجموند فرويد .