الحاجة صيصة وذقن حتشبسوت



فاطمة ناعوت
2015 / 4 / 1

قرأتُ عن الحاجّة "صيصة" التي تعيشُ في جنوب مصر، حيث مدينة الأقصر، كنز مصر الثريّ، والتقاها الرئيسُ السيسي لتكريمها كأمٍّ مثالية في عيد الأم. ارتدتْ هذه السيدةُ الجميلة على مدى أربعة عقود ملابسَ الرجال: الجلبابَ البلدي، وعِمّة الرأس الصعيدية البيضاء تلتفُّ حول طاقية رجالية خشنة، وحذاءً أسودَ رجاليًّا. نسيت "صيصة" أنوثتَها عبر السنوات الأربعين، وأخفت ملامح حسنها كامرأة، عكس غريزة النساء منذ طفولتهن حين يُحببن كونهن إناثًا ويُردن أن يقُلن للعالم: نحن الأجملُ بين البشر. لماذا فعلت هذه السيدة ما فعلت؟ كيف هانت عليها أنوثتها، وألوان ثيابها المشرقة لتستبدل بها جلابيبَ باهتةً خشنة؟ لصالح مَن؟ لصالح الثمار الصغيرة التي تنمو في أحشائنا بذورًا وتخرجُ للحياة أطفالا يملأون الحياةَ بهجة، مثلما يملأونها وجلاً وخوفًا من الغد.
مات عنها زوجُها قبل سنواتٍ أربعين. فخلعت عنها ثوبَ المرأة وارتدت جلباب زوجها لكي تكافح وتربّي ابنتها الوحيدة "هدى" وتكفيها شرَّ السؤال والعَوَز، وتتجنّب نظرات الطامعين في أنوثتها. جابت الطرقات بصندوق ورنيش تُلمّع أحذية المارّة والعابرين. رفعت على كتفيها قوالب الطوب وعقصة الأسمنت لتبني المقابر والبيوت في البلدة الجنوبية.
ذكّرتني السيدةُ المصريةُ "صيصة أبو دوح النمر" بجدّتها وجدتي الفرعونية الجميلة الملكة الاستثنائية حتشبسوت، التي أيضًا لم يكن لها إلا ابنةٌ واحدة. كانت قائدة حربية من طراز رفيع. تقود الجيوشَ وهي تضع ذقنًا رجاليًّا زائفًا لتُلقي الرعب في قلوب أعدائها، بالرغم من، أو ربما لكي تُداري، حُسنَها الطافر المشهود له في الجداريات والتماثيل. في بداية حكمها واجهت مشاكل مع شعبها الذي كان أغلبه يرى أن امرأة جميلة لا تستطيع حكم البلاد، ويرى في الملك الرجل صورة للإله "حورس" الحاكم على كوكب الأرض. لكن حكمتها كملكة، وذكاءها كخبيرة اقتصاد، وجسارتها كچنرال حربي، أثبتت لشعبها أنه كان على خطأ. أنشأت أسطولا بحريًّا حاشدًا بالسفن العملاقة لنقل المسلات الضخمة إلى معبد الكرنك وللتبادل التجاري مع دول الجوار لنقل السلع من بخور وعطور وتوابل ونباتات وأشجار وحيوانات مفترسة وجلود وغيرها. وشهد عصرها رخاءً ورغدًا لم تعرفه مصرُ في ظل حكم الملوك الرجال ممن سبقوها أو لحقوها.
لماذا تلجأ المرأةُ لأن تتقمّص دور الرجل؟ حين يكون المجتمعُ ذكوريًّا رجعيًّا لا يحترم المرأة، إلا حين يريد قلبها وجسدها. في غير هذا، يراها ضعيفة مهيضة الجناح عليها السمعُ والطاعة، أو يشخَص في جسدها فيراها مركز شهوة وغواية ليس لها إلا دورٌ واحدٌ هو الحمل والإنجاب وإمتاع الرجل. ينسى الرجال في تلك المجتمعات المأزومة أن المراة "إنسانٌ"، لها عقلٌ وإرادة وبأسٌ، قد يفوق عقل الرجل وإرادته وبأسه. ينسى أولئك الرجال المأزومون أن العقل البشري لا نوع له، كما قال كولريدچ. وينسون في غمرة زهوهم بفحولتهم أن يفتّشوا بين دفاتر التاريخ ليعرفوا كيف شيدت النساءُ مجتمعات متحضرة راقية، وكيف أشعل الرجالُ حروبًا كونية دمّرت ملايين البشر.

---

“عَصا موسى… عَصا موسى/ وصفحةُ ماءٍ/ تعكسُ وجهَ امرأةٍ / ولؤلؤةً/ تركتْ بلا أسفٍ/ جِيدَ السيدةِ الحسناءْ.
من فضلكْ اِحْمِل الطفلينِ عني/ فأنا يكفيني جدًا/ ثوبٌ من عَصْرِ الباروك/ مُطَرَّزٌ بعبءِ السنوات/ وثلاثُ عشرةَ ضفيرةً/ يحملها رأسي المُجْهَدُ/ وحذاءٌ/ لم يَمَسّ الأرضَ أبدًا/ ثم سَلةٌ/ تحملُ زادَ الصِّغار..
الآنَ سوف أرفعُ طَرْفَ ثَوبي/ أحاولُ أن أعبرَ جَدْوَلاً/ يَصُبُّ في بحرٍ واسع/
عليّ أن أنظرَ مَوقعَ قَدمي/ فالشمسُ باردةٌ جدًا/ وأخافُ أن أصِلَ هناكَ/ بثوبٍ مُبْتلٍّ.”

***
من قصيدة "من أجل العبور بين ضفتين" | ديوان "على بعد سنتيمتر واحد من الأرض” | فاطمة ناعوت | دار “كاف نون” 2003.
---