عفاف البطاينة: رواية الشرق والغرب



لطيفة الشعلان
2005 / 9 / 30

لم أقرأ لكني سمعت كلاما عن منع (خارج الجسد) لعفاف البطاينة في الأردن، فدفعني الفضول و (الفراغ) قبل يومين إلى إرسال إيميل قصير للناقد الأردني سمير الشريف أستفسر منه عن الأمر، فجاء رده سريعا ومقتضبا: "للأسف نعم". فقلت في نفسي لا غرابة فيما حدث حسب معايير الرقابة العربية ذات الأرواح السبعة التي كان يكفيها من الرواية عنوانها المتفجر وغلافها الأحمر المتوهج! وشخصيا لو كنت رقيبا لما احتجت لغير ذلك حتى أمارس سلطتي ! فماذا وقد جاءتهم لغتها المتجاوزة ومقاربتها الملتهبة لموضوع العلاقة بين المرأة والرجل، حيث يكون البطل هو جسد المرأة المسحوق والمهان حبسا وضربا وركلا بالأقدام وشدا من الشعر ونبذا وامتطاء وبصقا وقذفا بكلمات بذيئة إلى أن يصل كونه رشوة يطلبها أستاذ جامعي فتعطى له مرة وتمنع مرة، ولا يجيء الإنعتاق إلا بترك الأردن والوقوع بين ذراعي حب أسكتلندي، وما تبع ذلك من تنصل كامل من الهوية، وقطع لا رجعة فيه مع الثقافة والمرجعية العربية الأردنية. وإن ظل أهم ما يحمد للرواية وهي تقارب موضوعات كهذه هو عدم تورطها في فخ التطرف الأيديولوجي النسوي، فهي رواية نسوية بامتياز، لكن من دون الفجاجة التنظيرية الكفيلة بافساد العمل الأدبي أو بخفض قيمته الفنية إلى حدودها الدنيا، كما هو وضع بعض روايات نوال السعداوي، لكن هذا موضوع آخر على أي حال.

فالسؤال الذي يعنيني هنا هو عما إذا كان لهذه الرواية أن تقرأ في سياق الرواية الحضارية كما يتمظهر في روايات مثل: (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم أو (موسم الهجرة للشمال) للطيب صالح أو (الحي اللاتيني) لسهيل ادريس.

مؤكد لست بصدد المفاضلة بين رؤية روائية يكتبها رجل وأخرى تكتبها امرأة، فتلك هي البلاهة بعينها، خاصة وأنا أضم إلى تلك الروايات الثلاث رواية حديثة هي (كم بدت السماء قريبة) لبتول الخضيري، لكن عفاف في تقديري لم تتماس مع اشكالية لقاء الشرق بالغرب على النحو الموسوم في تلك الروايات، من دون أن يعني هذا أنها تجترح مقاربة خاصة بها، وهذا لايمس بقيمة روايتها الجميلة خاصة في فصولها الأولى، ولكنه يعارض إحدى المقتطفات النقدية التي قيلت في سياق اثبات (تفرد) هذه الرواية في طرح اشكالية الشرق والغرب.

مما لاشك فيه أن مضاهاة عوالم رواية ما للواقع الأوربي الانسانوي والثقافي في مقابلة الواقع العربي، ونقل تجربة الانسان الواقف بين حضارتين، بين تجربتين شعوريتين متباعدتين أو منفصلتين، لا تكون باثبات أسماء أعلام وتواريخ وأنهار ومعزوفات موسيقية وتشريعات وقوانين أوربية في متن النص وحسب. ولا بجعل تحضر الرجل الأوربي مقابلة ببشاعة العربي مع المرأة ثيمة محورية تبدأ منها الأشياء وإليها تنتهي. أنت لايمكنك مثلا اغفال أن اصرار بطلة عفاف البطاينة على العيش مع صديقها الأسكتلندي من دون عقد، مع عرضه السخي للبديل المقبول عند قومها باعلان اسلامه ثم الزواج منها، كان موضوعا مفتعلا للتصادم أو عدم التواؤم في اطار العلاقات الانسانية أو الفردية بين رؤيتين أو بين عالمين. لقد كان الاصرار على العيش بهذه الصيغة، وهو الاصرار الذي فشلت عفاف في تبريره حتى من وجهة نظر نسوية، قد اضطر البطلة للتخفي مدة طويلة لإجراء عملية تجميل غيرت ملامحها كليا ومن ثم استخرجت أوراقا ثبوتية باسم أجنبي يمكنها من العيش مع صديقها بدون تهديد. أما حضورها بوجهها الجديد لمؤتمر في بلدها يناقش أوضاع النساء من دون أن يتعرف عليها أحد من جماعتها فإنه جعلني أتذكر النتائج التنكرية المذهلة للعملية الجراحية التي أجرتها نادية الجندي (ذات الشباب المتجدد) في مسلسل (مشوار إمرأة) الذي اختبر الله صبري بمتابعته قبل فترة ليست بالطويلة.

لقد وقعت عفاف البطاينة في مأزق كثيرا ما نصادفه وهو أن تبدأ الرواية قوية متينة ثم تتراجع بتقدم الفصول من خلال تردي السرد من ناحية، وغرائبية الأحداث من ناحية أخرى، مقابلة بما كانت عليه الفصول الأولى من قوة وحسن حبكة. ولا أدري إن كان مأزق عفاف يتعلق بالجلد والمثابرة، أم أنه ذات مأزق زميلتها أسيمة درويش صاحبة (شجرة الحب غابة الأحزان) حين كانت الرواية متينة ومسرح الحدث هو موطن البطلة الأصلي الذي تتكئ في سبره على تاريخ طويل وذاكرة تفصيلية ومعرفة مباشرة، ليبدأ الانحدار تدريجيا كلما اقتربت الحبكة من تجربة البطلة النفسية والعقلية والجسدية في البلد الأوربي الوافدة عليه.

لم أخرج من رواية عفاف البطاينة فيما يتعلق باشكاليتنا الحضارية مع الغرب أو باشكاليته معنا بغير مشاعر رجاله إذا أحبوا: كيف يتحدثون ويتغزلون ويعاشرون بحنو ودلال. يتنمط الرجل الأوربي في (خارج الجسد) في صورة العاشق النموذجي، يقابله ذلك العربي الهمجي الذي يلجأ إلى كفه الثقيلة والخيزرانة (الأب) أو الذي تكون حداثته قشرة زائفة (الزوج) تخفي تحتها تقليدية متوغلة، أي الحداثة في أبهى تجلياتها العربية أو الشيزوفرينية، إذلم تجاوز عند (سليمان) طقوس الشراب وأفلام الجنس، أما الرجل في داخله، في ادراكه وتعاطيه مع المرأة، فقد بقي الوجه الآخر لوالدها.

هنا لايبدو بأن عفاف تأتي بشيء جديد، فالرجل الأوربي الوسيم الشهم النبيل المتسامي المتحلي بأخلاق الفرسان العاشق بكل ذرة في كيانه لإمرأة عربية مأزومة، سبقتها إليه أسيمة درويش، وإن كنت مثلي فلن تروق لك كثيرا (لعبة ايجاد الفوارق) بين الرجلين: ستيورت رجل عفاف البطاينة وكولن رجل أسيمة درويش.

لكن السؤال سيتجاوز كل ما له علاقه بمدى مطابقة الصور المتخيلة في أذهان الروائيات للشروط الانسانية أو الواقعية، وكذلك سيتجاوز كل ما يمت بصلة لشؤون وشجون الصور النمطية بكل ما تطفح به من عاطفية تجعلها أقرب لاندفاعات الشعر منها لانشغالات الرواية واستغراقاتها، ليصل إلى عمق آخر. فجورج طرابيشي اعتقد ان نيل الرجل العربي من المرأة الأوربية في الروايات العربية هو نيل من الغرب بأسره، وهذا يجعلني أسأل إن كان عشق عربيات هاربات بجلودهن وعقولهن وذوبانهن حتى النخاع في أوربيين هو نيل من الأعراب الأجلاف، ورتق لما أحدثوه من أوجاع وجراح طالت أرواحهن وأجسادهن.