المرأة والدين



محمد مسافير
2015 / 5 / 27

المسألة أكبر من أن تقيد بالفتاوى، إنها مسألة حياة أو موت بالنسبة إليها، ثم إنها متمردة أصلا، تمردت على أمر الإله نفسه حين أغوت آدم بأكل التفاحة، والتمرد فطرة في الإنسان بشكل عام، لكن الخضوع والاستسلام هي قيم ملقنة ومستنبطة من المحيط، وهذا ما يجعل الإنسان يتمرد وإن أطال السجود، يقوم منتصبا وإن أطال القعود، فلا تعجلوا بأمركم، فقريبا اليوم الموعود...
من الصعب أن تقنع أعمى بماهية الألوان، ومن السخف أن تحاول إقناع أصم بروعة الشدو، فالمحافظون عموما، الذين يعيشون بين الأغصان، وأسفل الأشجار، يصعب عليهم أن يدركوا شكل الغابة، رغم انتمائهم إليها، كذلك شأن الذي يقرأ التاريخ ويحلله من زاوية فقط، الزاوية التي يحملق إليها الآن، إلا أن استشراف المستقبل، يجبر المرء على تملك ميكانيزمات محددة، تنظر في مجمل التاريخ، تؤصل الظاهرة، وتحللها وفق منظور جدلي، حركي.
ليس هناك وضع مؤبد، كل المجتمعات تكتسي حللا جديدة، أو قديمة متجددة، إلا أنها لا تبقى ثابتة، ولو ظاهريا، إذ أننا ربما نسلم بأن أغلب البلدان المتخلفة تعيش ثباتا على المستوى السياسي، لكنه ثبات شكلي، لا يؤكد ثبات الأوضاع، إذ أن الحركات الاجتماعية تعيش حربا مستمرة مع الأنظمة، تختلف حدتها وأشكالها حسب الظروف السياسية، لكنها مستمرة تحول دون الاستقرار التام للأوضاع...
إن خطاب الحركات الإسلامية ومنظورها الرجعي في حق المرأة، لا يغدوا أن يكون غير حبر على ورق، لأن التاريخ لا يعيد نفسه، إلا على نحو درامي أو نسبي، وسنوضح الأسباب لاحقا.
عرف خطاب الإسلام نفسه جدلية فكرية، ربما يفسرها البعض بالضرورة التاريخية وطبيعة المجتمع العبودي، ولنأخذ المسألة على هذا النحو:
قالوا، إن الإسلام لم يأتي بتشريعات قاطعة منذ بالبداية، بل أنتهج التدرج في مجموعة من القضايا، ومثالا على ذلك، يتفضلون بتحريم الخمر، "ولا تقربوا الصلاة وأنت سكارى" ثم جاءت بعدها آية نسختها: "يسألونك عنِ الخمرِ والمَيسرِ قُلْ فيهما إثمٌ كبيرٌ ومَنافِعُ للناسِ وإثمهما أكبرُ مِن نَفْعِهما" دون أن تقوم بتحريمه، بعدها جاءت آية التحريم كما يؤكد (الراسخون في العلم) " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون".
لكن هذا التدرج بالذات يمكن أن ينطبق على مجمل المسائل الاجتماعية، إن الأولى تدل على دينامية فكرية، وهي مستساغة، إلا أن تجنبها في غيرها دال على الجمود الفكري، فمثلا:
إذا اعتبرنا أن رسالة الدين هي سعادة الإنسان، وتأتي بما ينفعه ولا يضره، وهي في صالح الإنسان عموما، آنذاك يجب على المتدينين أن يأخذوها على أساس الدينامية لا الجمود، لأن الواقع لا يُحَور بالنص، بل النص هو الذي يطوع لما يمليه الواقع.
لقد تغيرت الحياة جذريا، تغيرت البنية الاقتصادية والاجتماعية والنفسية التي خلفت تلك النصوص الدينية، أصبح الإنسان يرتحل إلى أقصى الأرض في ساعات، ليس على البعير، لكن على مركبات جد متطورة ومعقدة، أصبح الإنسان قادرا على مواجهة الطاعون، رغم مناوراته الصادرة عن الطمع لا العجز، أصبح قادرا على غزو الفضاء وأعماق البحار وسبر أغوارها.
بالنسبة للمرأة، إذا سلمنا بصحة التاريخ الذي دونه المسلمون، فإننا نستشف أن الإسلام شكل رسالة تقدمية في تاريخ الشرق الأوسط، فبعد أن منعت المرأة من مبارحة البيت، وبعد أن اعتاد الناس وأد البنات وبعد أن حرمت النساء كليا من الإرث، جاء الإسلام بتعاليم صحية لفائدة المرأة، حيث حرم وأد البنات، وسمح للنساء بمغادرة البيت وإن بشروط، ومكنها من بعض الإرث...
إلى هذا الحد، أو إلى أبعد منه بقليل، يمكننا اعتبار الإسلام دينا تقدميا نسبة إلى ما كانت عليه الأوضاع قبل مجيئه، لكن، ما لا نقبله بالمرة، أن يجيئنا أحد المشايخ، في القرن الواحد والعشرين، ليصرح أن الإسلام، بتعاليم الأولين، ليس دينا رجعيا.
المرأة لم يعد مكانها البيت، بل أصبت إلى جانب الرجل، تقتحم عالم الوظيفة والحرفة، وتنافسه في كل المجالات، بل تتفوق عليه في بعضها، أصبحت رائدة عالمة مفكرة، استفاذت البشرية من عطائها اللامحدود، ولا زال أمامها الكثير لتقدمه، رغم الطابو الذي لا زال يسيطر على البنية الفوقية للمجتمعات، رغم الميز والحيف والدونية، إلا أنها تحدت الممكن والمحال، لتنقش حريتها عميقا في ذهن الرجل المتخلف.
بعد الذي حصل في قضية المرأة، بعد الصراع المرير الذي خاضته على مختلف الأصعدة، بعد كل المكتسبات التي انتزعتها من بين فكي الرجل والأنظمة الذكورية، بعد الخطوات التقدمية التي أقدمت عليها الإنسانية لإيفاء المرأة حقها في الكرامة، في محاولات مرتبكة لتحقيق المساواة. بعد كل هذا، لا يمكن أن نعتبر أي مشروع يحاول إجهاض المحقق، إلا مشروعا رجعيا متخلفا.
هنا يجب أن يحضر التدرج، إن كان غرض الإسلام هو تحرير الإنسانية من قيود الماضي في حقبة ما، فإن على المتدينين أن يأخذوا بهذا النهج، أن ينطلقوا من جوهر الإسلام، إن قصدنا بالجوهر التدرج، فيعطوا المرأة حقها كاملا في الإرث، حظ الأنثى مثل حظ الذكر، وأن لا يحدوا عورتها فيما حدها به السلف، وأن يعطوا لشهادتها نفس قيمة شهادة الرجل، لا نصفها... إلى ما عدا ذلك من حقوق.
أما محاولات الإسلاميين المتكررة في إعادة إحياء تعاليم الماضي في زمن هدت فيه كل أسس هذه التعاليم، فإنها لن تتجاوز الأوراق التي كتبت عليها، وحسبنا أن نذكر محاولات الطالبان في سجن المرأة، نجحوا في ذلك بالقوة، إلا أن الدعارة التي دأبوا آنذاك على محاصرتها، خلفت تجارة الغلمان (الشذوذ الجنسي)، وهي نتيجة حتمية لإلغاء أحد الجنسين.
كما أن محاولات إيران الأولى عقب تأسيس الجمهورية الإسلامية أجهضت منذ نهاية العشرية الأولى للحكم، حيث قامت الجمهورية في البداية بمنع النساء من مبارحة البيت إلا منقبات وعند الضرورة، إلا أن حاجة الرأسمال المحلي إلى الإقلاع الاقتصادي، أجبرت الحكومة على العدول عن قرارها، لحاجتها الملحة في جلب يد عاملة رخيصة، والمتمثلة في النساء.