الحجاب في زمن العولمة: عودة المكبوت



إقبال الغربي
2005 / 10 / 14

يمثل الحجاب اليوم شبحا يراود ضفتي البحر الأبيض المتوسط وتبقى المواقف متضاربة إزاء هذه الظاهرة وفي بعض الأحيان مرتبكة. وبالفعل هناك من يناهض الحجاب ويقاوم تفشيه وهناك من يدعو إلى ارتداء الحجاب علنا امتثالا حسب زعمهم لتعاليم الشريعة وهناك من يرفض مواجهة الحجاب باسم حرية المعتقد وحقوق الإنسان بدعوى أن ارتداء الحجاب مسالة خاصة تعود إلى الحريات الشخصية.
ما على المستوى السياسي الرسمي فان المواقف تتلون حسب الظروف ومقتضيات الستراتيجيا السياسية. ونذكر هنا على سبيل المثال كيف ساند الزعيم بورقيبة الحجاب في البداية حفاظا على الهوية الوطنية ثم عارضه لاحقا جاعلا من معركة السفور عنوان المجتمع ألتحديثي الذي يصبو إليه.
وما يثير الانتباه هو أن الحجاب اليوم أصبح يمثل رهانا يحتاج إلى تفسير أمام التنميط الذي تفرضه العولمة في توحيدها للأسواق ومحاولة فرض أنموذج وحيدا للثقافة والاستهلاك الأمر الذي أدى إلى تلاشي الخصوصيات الثقافية وزعزعة الفروق الجندرية بين الرجال والنساء.
وفي هذا الإطار يبدو لنا أن جسد المرأة وما يحيط به من تصورات واستيهامات قد عاد يطفو إلى السطح في حقبة تلاشت فيها الاديولوجيات وتغلغلت فيها البراقمتية وقيم التبادل الحر.
ولفهم ظاهرة الحجاب يجدر بنا أن نتقصى ذلك في أبعاده المتنوعة لان الحجاب حسب اعتقادنا لا يمكن اختزاله في رؤية أحادية كربطه بمسالة العقيدة أو رفضه باسم الحداثة.
سنحاول إذن أن نبين ذلك من خلال المحاور التالية:
1- تاريخ ونشأة مؤسسة الحجاب
- معارك السفور
3- عودة الحجاب أو عودة المكبوت
1- جينالوجيا الحجاب أو هل الحجاب فريضة إسلامية؟
من الضروري حسب اعتقادنا سبر تاريخ تكوين أو جينالوجيا مؤسسة الحجاب.
والملفت للانتباه عند دراسة تاريخ الحجاب هو أولا:
- أنّه ظاهرة نسبية وتاريخيّة أولا.
- ثانيا أن نزول الآيات التي تخص الحجاب يرجع إلى عوامل تاريخية واجتماعية ونفسية متداخلة.
فالدراسات التاريخية مثلا تبين أن الحجاب ليس خاصّة بالإسلام كما تشيعه وسائل الأعلام. فقد كان معتمدا عند نساء اليونان ، يضعنه على رؤوسهن عند الخروج إلى الشارع العامّ. وقد ظلّ الخمار مستعملا في الغرب إلى حدود القرن التاسع عشر، وبحكم تطوّر تقاليد اللّباس والزينة تمّ تخفيفه فأصبح شفّافا للوقاية من التراب والبرد. أمّا في الثقافة العربيّة الإسلامية فيتنوّع الحجاب في الشكل واللون وطريقة الاستعمال حسب الظروف الاقتصادية والاجتماعيّة. فنحن نلاحظ مثلا أنّ نساء الرّيف لا يتحجّبن عند قيامهن بالأعمال الفلاحيّة وأنّه في بعض الحالات يتحجّب الرّجال وتكشف النساء عن وجوههنّ وهو ما نلاحظه في الصحراء الغربية عند قبائل الطوارق المسلمة مثلا.
أمّا بالنسبة للتشريع الإسلامي فللحجاب علاقة وطيدة بالتمييز الطبقي. فقد كان رجال العرب يتعمّمون ونساؤهم يتخمرن. والجدير بالذكر هو أن خمار ليس للحجاب بل هو يوضع فقط لظروف مناخية كما يلبس الرّجـال العمائم. وكانت المرأة قبل الإسلام تسدل خمارها على كتفيها وتكون حرّة في ترك صدرها وبعض ظهرها مكشوفين، مع الوجه. كما كانت النساء يتتزيّن بالحلي من الذهب والفضة واللؤلؤ وغيره ويظهرنه للأعين. ويبدو أن المرأة حافظت على هذا الزى حتى السنوات المبكرة من الهجرة إلى المدينة. ويتفق المفسرون على أنّ أمر الحجاب من الآيتين 31 و59 من سورتي النّور والأحزاب جاء بعد حوادث تعرّضت فيها النساء الحرائر لمضايقات الشباب في شوارع المدينة المنوّرة. وكان هؤلاء يلاحقون الجواري لكن عدم اختلافهنّ في الزيّ عرّض الحرائر للتحرّش اللفظي والجنسي فاشتكت الحرائر إلى الرّسول (ص) فجاءت الآية تأمرهن بحجاب إضافي يميزهن عن الإماء. وهذا ما صرّحت به الآية الكريمة "ذلك أدنى أن يعرفن ولا يؤذين" وكانت وسيلة القرآن في ذلك هي "إدناء الجلابيب".
هذه الإجراءات الدقيقة أي إدلاء الخمار على الجيوب أو ما يمكن تسميته "بتكنولوجيا الحجاب" مكنت السلطة الناشئة من حصر الكتلة البشرية المختلطة والمتلاحمة التي تتقد حيوية ورغبة في شوارع المدينة المقدسة ومن تجزيئها إلي مجموعات متمايزة جواري/ حرائر، نساء/ رجال يسهل مراقبتها والسيطرة عليها وتقنين سلوكياتها.
وفي نفس هذا السيّاق تخبرنا مصادر التفسير أن عمر ابن الخطاب (ر) قد منع الجواري من التحجّب فقد كان رضي الله عنه إذا رأى أمة قد تقنّعت أو أدنت جلبابها عليها ضربها بالدّرة محافظة على زيّ الحرائر (ابن تيميّة "حجاب المرأة ولباسها في الصلاة") وكذلك فعل الخليفة عمر ابن عبد العزيز الذي أمر أن لا تلبس جارية خمارا حتى لا يتشبهّن بالحرائر ويشكّل هذا النّهي مفارقة غريبة إذ كيف يتجرأ خليفة وأمير المؤمنين من منع "فريضة إسلامية" على مسلمة مهما كانت منزلتها الطبقية؟
وردت أيضا آية الحجاب بمعنى "السّاتر" أو الحاجز الفضائي في سورة الأحزاب التي تأمر بوضع حجاب بين زوجات النبي والمؤمنين. قال تعالى "يا أيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلاّ أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين أخاه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلك يؤذى النبي فيستحى منكم والله لا يستحى من الحق وإذا سألتموهنّ متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلك أطهر لكم لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إنّ ذلك كان عند الله عظيما" (الأحزاب 53). وقيل في أسباب نزول الحكم أنّ عمر ابن الخطّاب (ر) قال للنبي (ص): يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهنّ البرّ والفاجر، فلو أمرتهنّ أن يتحجبّن. فنزلت الآية.
وقيل أيضا أن ليلة زواج الرّسول (ص) بزينب بنت جحش مكث نفر من المدّعوين في بيت النبيّ إلى ساعات متأخرة من الليل حتّى ضجر العروسان إذ لم يراع المدعوون الظرف الخاص وحاجة العروسين إلى بعض الحميمية. فنزلت الآية. وفي رواية أخرى يبدو أنّ حكم الحجاب أتى بعد حادثة مؤلمة وهي أن أحد رؤساء القبائل ـ عوينة ابن حصن ـ شاهد السيدة عائشة (ر)، عند زيارته لرسول الله، ولم يكن صلى الله عليه وسلّم يخفي نساءه عن أنظار الزائرين، فتغزّل بها وأبدى ـ بكل فظاظة ـ رغبته في الزواج منها بعد وفاة محمد (ص) فنزلت الآية.
يمكننا أن نعتبر إذن أن هذا الحجاب بمعنى الساتر فرض لأنّ قيم الإسلام لم تتمّكن من تغيير العقليات القديمة ومن تعديل النّظرة النمطيّة للمرأة في مجتمع المدينة الرّجولي. وهو حجاب خاصّ بزوجات الرّسول وحدهنّ جاء ليفصل بين مجالين: مجال الخاص ومجال العامّ. فهو نزل ليدشن هندسة فضائية جديدة في المدينة المنورة تقطع مع انصهار البيت النبوي، الذي كان يفتح على للمسجد ومحاذيا له، في الفضاء العام لمجموعة المؤمنين وتدعم بالتالي الانتقال التدريجي من نموذج الرسالة الريادي إلى نموذج الدولة العقلاني.
الحجاب في هذا المعني يجسد اللامتناهي في الصغر ضمن منظومة السلطة السياسية الناشئة التي توظفه للسيطرة على الأجساد ولتوزيع الأفراد وتصنيفهم لإقامة نظام تراتبي صارم يميز بين الخاصة والعامة، بين الحاكم والرعية، بين النساء والرجال، بين الحياء والسفور، بين الطهارة والنجاسة.
ومما يؤكد من ناحية أخرى خصوصية حكم التحجب هو أن فرض الحجاب لا يمتدّ إلى ملك اليمين من الجواري ولا إلى باقي المؤمنات والدّليل على ذلك رواية عن أنس ابن مالك أنّ النبي (ص) أقام بين خبير والمدينة ثلاثة أيام ليتزوج بصفيّة فقال المؤمنون: إن حجبها فهي من أمهات المؤمنين وإن لم يحجبها فهي ممّا ملكت يمينه أي من جواريه. فلمّا أرتحل مهّد لها خلفه ومدّ الحجاب أي وضع لها سترا بينها وبين النّاس. وبذلك فهم المؤمنون أنّها زوجته وليست مجرّد جارية.
نلاحظ من كلّ ما سبق أنّ آيات الحجاب نزلت لنساء النبي (ص) وفي ظروف معينة، وإذا كان القرآن قد أخبرنا بأنّ الرّسول أسوة للمؤمنين "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" (الأحزاب ) فلم ترد آية واحدة تشير إلى أنّ نساء النبيّ أسوة للمؤمنات بل لقد وضع القرآن ما يفيد التمييز بين زوجات النبيّ وسائر المسلمات كما جاء في الآية. "يا نساء النبيّ لستنّ كأحد من النساء" (الأحزاب) أي أن الأحكام التي تتقرّر لزوجات النبيّ تكون خاصّة بهنّ وليست لباقي المؤمنات.
هذا إضافة إلى أنّنا لا نجد في القرآن الكريم حدّا واحدا للمرأة غير المتحجبّة بل وردت قواعد في الحشمة والوقار ونهي عن إظهار مفاتن الجسد لا غير!
وفي هذا السياق يبدو لنا حكم الحجاب في صلب المنظومة الإسلامية مسالة خلافية وقد كان الفقهاء يحددون مسالة ما بأنها خلافية عندما كانوا يعتبرون أن الخلاف فيها جائز وأن الاجتهاد فيها واجب وان هذا الاختلاف لا يورث تبديعا ولا تكفيرا.
فلكلّ امرأة الحق في ارتداء الحجاب إن هي رغبت في ذلك فهذا الاختيار تضمنه الحريات الشخصية شرط أن: لا تدّعي أن الحجاب هو جوهر الإسلام وأن لا تنخرط في منطق التكفير والتخوين والتجريم! وهو ما ذاع وشاع في السنوات الأخيرة حيث سادت "ثقافة الحجاب" التي تختزل الإسلام وقيمه السّمحاء في لائحة غبيّة من الأوامر والنّواهي شبه العسكريّة. وهكذا يتفنّن الهذيان الجماعي المعمّم في المنع والنّهي وفي التكفير والتجريم. فيرفض المصافحة بين الرّجال والنّساء والخلوة بغير المحارم والاختلاط و"التبرّج" وممارسة الرياضة وسباقة السيارة الخ. . .
وهو ما يمكن اعتباره إسلاما مضادا للإسلام لان هذه الممارسات هي نكوصا وتنكرّا لوقائع معبّرة سجّلها التاريخ وأوردها الأسلاف. فهل يجهل هؤلاء أنّ الرسول (ص) كان يجتمع بالنساء ويناقشهن. وتوجد مئات الأحاديث النبويّة التي تروى كيف تحدّثت النساء إلى الرسول وسألنه وأجابهنّ. كما أنّ النساء شاركن في البيعة ـ أي الانتخابات ـ وتواجدن في المساجد التي كانت بمثابة الساحة العمومية يناقش فيها الشأن العام.
كما جادلن الخليفة عمر (ر) بصوت جهوري وهو فوق المنبر ولم تعتبر هذه الظاهرة إثما لا في عهد الرسول ولا في عهـد الصحابة.
2- رفض مؤسسة الحجاب
لقد كان مفهوم التحرر في الثقافة العربية الإسلامية وفي احد أهم تجلياته توقا إلى السفور والقضاء على التحجب.
وقد رفضت بعض النساء المسلمات مؤسسة الحجاب منذ فجر الإسلام وذلك كفعل تمرد وانعتاق.
فهذه عائشة بنت الصحابي المبشر بالجنة طلحة بن عبد الله حفيدة الخليفة الرّاشد أبي بكر الصّديق وابنة أخت السيدة عائشة أم المؤمنين ترفض أمر زوجها مصعب ابن الزبير لها بارتداء الحجاب لماذا؟ تجيب بثقة في النّفس لا حدود لها: "لأنّ الله تبارك وتعالى وسمني بميس من الجمال أحببت أن يراه النّاس ليعرفوا فضلى عليهم فما كنت لأستر به وصمة يقدر أن يذكرني بها أحد". وقد قال فيها أبو هريرة متعجبا من حسنها وجمالها عندما رآها سافرة "سبحان الله كأنّها من حور العين". ويروي ابو الفرج الاصبهاني انها ردت على نظر شخص يدعى ابي الدئب وهي تطوف الكعبة بالقول:
من الاء لم يحجبن يبغين حسبة
ولكن ليقتلن البريء المغفلا
فرد عليها ابن أبي الدئب بالقول: "صان الله داك الوجه من النار!"
وهذه سكينة بنت الإمام الحسين شهيد كربلاء وسليلة البيت النبوي تعارض مؤسسة الحجاب بكل ازدراء وتطالب بحق الظهور بارزة. وبلغت الجرأة بحفيدة الرسول الكريم إلى ابتكار تسريحة شعر لقيت رواجا كبيرا وسميت بـ"الطرّة السكينية". ولم تكتفي سكينة بنت الحسين بالتمرد على مؤسسة الحجاب المادية بل خرّبت أيضا دلالاتها الرّمزية أي الفصل بجدار صيني بين الفضاء الذكوري والفضاء الأنثوي.
ففتحت صالونا أدبيّا في بيتها في المدينة المنوّرة التي كانت يومئذ عاصمة ثقافية ذرّت الغبار في وجه روما وأثينا. فاستقبلت الشعراء والرّواة والمطربين الذين كانوا يمكثون في ضيافتها أياما وليالي ومنهم المطرب البغدادي الشهير حنين النصراني. فتطارحهم قصائد الغزل وتجادلهم في أشعارهم وقد قال فيها عمر ابن أبي ربيعة شعرا كثيرا. وكان ذلك معروفا مشهودا لم ينكره أحد من فقهاء المدينة السّبعة على سليلة البيت النبوي.
وفي بداية عصر النهضة كان لمفهوم "السفور" شحنة سحرية لدى رواد الإصلاح والتغيير إذ كان يعتبر ترياق مضاد لكل أشكال الانغلاق والتخلف. فإزاحة البرقع عند هؤلاء كان لا يعني إزاحته من على وجه المرأة فقط وإنما أيضا عن عقل الإنسان العربي.
فهذا أمين اورسلان الأمير اللبناني يؤسس من منفاه في باريس سنة1895 مجلة ليبرالية تنادي بالحريات العامة ويسميها "كشف النقاب".
وهذه مجموعة من المثقفين المصريين من أمثال لطفي السيد وطه حسين وعلي عبد الرازق تتجمع في سنة 1915 حول جريدة تحمل اسم "السفور"
وهذا الطاهر الحداد الزيتوني يضع محاربة الحجاب في نفس مستوى النضال الاجتماعي والنقابي فيؤلف في نفس الوقت سنة 1930كتاب "العمال التونسيون" و"امرأتنا في الشريعة والمجتمع".
وتواصلت معارك السفور مع المناضلات النسويات من أمثال هدى شعراوي التي نزعت نقابها في ميناء الإسكندرية وألقت به في البحر سنة 1920 ومنوبيّة الورتاني التي نزعت الحجاب أثناء إلقاء محاضرة في تونس سنة 1924 وغيراهما.
وقد شاهدنا خلال الانتفاضة التي عمّت البحرين سنة 1965 المتظاهرات يحرقن العباءة السوداء رمز الإقصاء والعزل الاجتماعي وكذلك تخلصت المتظاهرات السعوديات من عباءاتهن في نوفمبر 1990 إثر زلزال حرب الخليج. وفي إيران تتعمّد النّساء والفتيات إبراز خصال من شعرهن ويبالغن في زينة الوجه وتجميله وذلك كردّ فعل لمصادرة الملالي لأجسادهن وفرضهم التشادور عليهنّ وكإعادة اعتبار لغرائز الحياة عندهن.
عودة المكبوت
يبقى السؤال الأساسي هو التالي لماذا تفاقمت ظاهرة التحجب في هذه السنوات الأخيرة؟
لمحاولة تأويل هذه المفارقة يمكننا اقتراح العوامل التفسيرية التالية التي تعتمد على مقاربات مختلفة نفسية واقتصادية وسياسية:
1- من رهاب التنميط
تعتبر العولمة في المخيال العربي الإسلامي طمس للهوية وتنميط وتوحيد للأفكار والمشاعر والأحلام والأحاسيس والأذواق.
كما أنها تأخذ في بعض الأحيان بعداً تآمرياً فالعولمة ليست سوى محض مرادف لأمركة العالم. فهي هجمة شرسة تشنها الحضارة الغربية لتدمير الثقافات الأخرى وخاصة الثقافة العربية الإسلامية. العولمة هي أيضا رمز الانصهار الاجتماعي وسيادة الفردانية وحرب الكل ضد الكل. ويقول عالم الاجتماع الطاهر لبيب في هذا الصدد "أن النص العربي جعل من مصطلح العولمة كارثة عامة لا تخلو من امتداد غيبي. لذلك فالحديث عن العولمة هو حديث عن الموت والفناء والانتحار".
وفي هذا الإطار تمثل عودة الحجاب رغبة جامحة في التمايز
فهي تجسد ما يسميه فرويد نرجسية الفرو قات الصغيرة أي أن يكون الفرد مسرورا بفروق صغيرة تميزه وتميز المجموعة التي ينتمي إليها عن الآخرين. فهي ارتماء لذيذ في المجموعة التي ترمز إلى الحضن الطيب حضن الأم التي لم يقم بعمل الحداد على فراقها والانفصال عنها منذ أزمة الفطام.
الحجاب هو شعار الانتماء إلى مجموعة هو شارة الانصهار في الأم الحنون. هو رغبة في الأمن والأمان في حماية للانا المهددة بالتفتت. لذلك فهو يبدل هوية الفرد، أي تعريفا ما يميزه عن المجموعة، بهوية الجماعة ويرد على تهديد النرجسية الفردية بتشييده نرجسية جماعية. الحجاب تمثل درعا مضادا لازمات القلق والاضطهاد. الحجاب هو إقبال على البساطة والبدائية والتجانس. فهو ادن رفض للتعقد وللاختلاف. هو رفض لخوض تجربة الغيرية.
2- من العوامل الاقتصادية
أن التغيرات الاقتصادية التي طبعت حقبة الثمانينات والتي كان هدفها دمج البلدان الطرفية في السوق الدولية ساهمت في انتشار ظاهرة الحجاب. انهيار قدرة الأجراء الشرائية مع تنامي السلوك الاستهلاكي بين الفئات الطفيلية وتزايد التفاوت الطبقي جعل من الحجاب حيلة سوسيولوجية توظفها طبقات اجتماعية عاجزة عن مسايرة الموضات النسائية والتكلفة المرتفعة المصاحبة لها لتستر عورة الفقر لا عورة الجسد. وهو ما لاحظته الباحثة سهير بلحسن من خلال استطلاع لآراء النساء المتحجبات.
بيد أن الملفت للانتباه أن ظاهرة الحجاب متفشية أيضا في البرجوازية الصغيرة وداخل الطبقات الوسطى التي أصبحت ضحية آليات إخضاع المعرفة إلى قوانين التجارة الحرة وتكييفها مع متطلبات السوق.
فهذه الفئة تعاني من انهيار منزلتها الاجتماعية ومن تدني رأسمالها الرمزي. فهي تتألم من عدم تطابق المواصفات العلمية والمهنية التي تحض بها مع وضعيتها الاجتماعية ومع الامتيازات الملازمة لها وأيضا من شيوع احتقار المعرفة مقابل الإعلاء من شأن النجاعة المادية.
وفي ظل الأزمات، وعندما تصبح توقعات الفرد المتعلقة بالدور الاجتماعي المتعارف عليه وبتصورات الآخرين إزاءه ملتبسة وغير واضحة، فهو يحيد عن القيم السائدة ويبحث عن ملاذ في الهوس الديني والصوفي. وهذا ما لاحظه ماكس فيبر عندما درس أتباع الجماعات الدينية المتكون من البرجوازية الصغيرة التي ألحقت بالبروليتاريا والتي سماهاprolateroïde ماكس فيبر
حيث ينقلب الشعور العميق بالدونية بحيلة لا شعورية معروفة إلى شعور بالتعالي والتعاظم الديني والأخلاقي.
وهذا ما دعمه عالم الاجتماع التونسي عبد القادر الزغل عندما لاحظ أن جمهور حركة الاتجاه الإسلامي في تونس متكون أساسا من خريجي الكليات العلمية ومدارس المهندسين. كما لاحظ الباحث الفرنسي جون فرنسوا كليمون‘ من خلال دراسة إحصائية للعرائض المساندة لحركة النهضة التونسية، أن معظم التوقيعات هي من طرف معلمين وأساتذة وكوادر وسطا.
3- النضال ضد الاغتراب بأشكال مغتربة
يقوم الحجاب في بعض الحالات بوظيفة الاحتجاج على الحضارة السلعية السائدة التي تقدس المظاهر وتدنس الحقائق.
فهو فعل تحدي للنموذج الاستهلاكي الغربي الذي يفرض على نساء العالم عبادة السلعة عن طريق التسويق الإعلاني الذي يضخم من الحاجيات الثانوية ويرغم المرأة على اقتناء ما ليست في حاجة حقيقية إليه.
فبساطة الزي الإسلامي هو ردة فعل مغتربة على ديكتاتورية البضاعة ومتاهات الألبسة والعطور ومستحضرات التجميل اللامتناهية التي تتلاعب برغبات المرأة وتنوع نفس السلع القديمة تحت أسماء جديدة وتوهمها أن سعادتها لا تكتمل إلا باقتناء سلع متجددة.
وفي هذا السياق من الضروري أن ننبه أن مواجهة الاغتراب لا يمكن أن يحصل بأساليب مغتربة وبداءية تحط من الكرامة الإنسانية للمرأة أي بنكوص بها من مستوي المواطنة المستهلكة إلى مستوى الأنثى العورة.