تأصيل المساواة بين الجنسين في القرآن: التمييز بين الجنسين ليس قدرا إلهيا وآدم ليس علما مذكرا



يامنة كريمي
2015 / 9 / 24

تأصيل المساواة بين الجنسين في القرآن:
التمييز بين الجنسين ليس قدرا إلهيا
وآدم ليس علما مذكرا
ذ. يامنة كريمي



بسم الله الرحمان الرحيم قال من وسعت رحمته السماوات والأرض في سورة محمد الآية 24: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا). فليرفع الله عن قلوبنا وقلوبكم الأقفال ولييسر ويبارك لنا ولكم تدبر كتابه وعقل وفقه شريعته...به نبدأ وبه نستعين
بعد مجموعة من البحوث والمقالات التي قدمناها من منطلقات إسلامية وإنسانية، والتي تتطرق لأهم أشكال التمييز في حق المرأة بالمجتمعات الإسلامية بإيعاز من المؤسسة الفقهية المتزمتة(السلطة) ، مثل ظاهرة الاختمار (التغطية والعزل) والتمييز في الإرث وطمس تاريخ المرأة وتقزيمه واستغلال الإناث في الصراعات السياسية... ولم نهمل -بين الفينة والأخرى-الوقوف، ولو بإيجاز كبير، على القطاع الفقهي من حيث مشروعيته وأبعاده وآثاره، لما له من مسؤولية فيما آلت إليه أوضاع المرأة من تدهور وتخلف في المجتمعات الإسلامية... والهدف من ذلك، هو التوعية بخطورة ثقافة الإساءة للمرأة والمس بالإسلام عن طريق استعمال ذريعة الحاكمية الإلهية لشرعنة الظلم الاجتماعي وثقافة العبودية والاستعباد ... مما يذكرنا بدور الكنيسة في عصر الظلمات.
وقد اخترنا هذه المرة أن نعالج نازلة التمييز الجنسي في عمقها أو أصلها من خلال البحث في موضوع الخلق الأول للإنسان. وذلك لما لمسناه من أهمية وقدرة للموضوع على المساهمة في الحسم النهائي لهذا المشكل وإقناع جميع التيارات على أن المساواة والعدل هي الرحمة .... وعلى أن الدين الإلهي بجميع شرائعه جاء رحمة للعالمين وليس عسرا واستعبادا للخلق.
تكلم القرآن عن الخلق الأول للإنسان في عدة سور كالأعراف والحجر والذاريات وص ...ولكن الفكرة السائدة عن الخلق بين الناس قد تم استخلاصها بالأساس من سورة النساء الآية 1 قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) وسنقتصر على عبارة، (وخلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها...) التي اختلفت القراءات والتأويلات بشأنها. ووصل الأمر إلى حد الصراع بين ثلاثة تيارات رئيسية هي:
1- السلفيون المتشددون: وهم الذين ما زالوا يجترون اجتهادات القرون الغابرة، خاصة تلك القائمة على أساس التمييز الجنسي وتفضيل الذكر وتبخيس الأنثى، بذريعة أن ذلك هو تكريم إلهي للأنثى وحماية لمصالحها وضمانا لاستقرار الأسر الإسلامية ونجاتها، بدليل أن السفينة لا يقودها أكثر من ربان واحد. ولدعم موقفهم أمام الكلاميين في البداية، ونخص بالذكر الأصفهاني، والحداثيين مؤخرا، لجأ جمهور المفسرين لمصادر من خارج القرآن، مثل التوراة وأساطير الحضارات القديمة.
2- الحداثيون: وهم المطالبون بالمساواة وعدم التمييز لأي سبب كان كما هو منصوص عليها في المواثيق الدولية –سيداو- وكذلك الدستور المغربي 2011 ... وتماشيا مع مقاصد القرآن. لأن المساواة هي أساس التمتع بالعدالة الاجتماعية وبالمواطنة الكاملة كحق من حقوق جميع الأشخاص مقابل القيام بالواجبات والانخراط في تنمية الذات والجماعة والوطن في إطار القانون (وأينما كان العدل فهناك شرع الله). ويمكن أن نميز داخل هذا التيار بين جناحين:
أ‌- جناح يقول بأسبقية خلق حواء عن آدم يتقدمه الدكتور إبراهيم عدنان.
ب‌- جناح يقول بتزامن خلق الزوجين (بالمذكر والمؤنث). وهذا الجناح قد أخضع التراث الإسلامي لقراءة جريئة و بأدوات ومناهج حديثة، مما سمح له بالوقوف على مجموعة من الحقائق الدينية المنطقية والقوية بحجتها ودليلها.
أولا، جمهور المفسرين والقول بخلق: "حواء" من ضلع آدم ومعارضة الكلاميين لذلك.
جاء في مفاتيح الغيب لصاحبه، فخر الدين الرازي ونفسه في البحر المحيط لا بن حيان، ما يلي:
(وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) فيه مسائل :
المسألة الأولى : المراد من هذا الزوج هو حواء ، وفي كون حواء مخلوقة من آدم قولان : الأول: وهو الذي عليه الأكثرون أنه لما خلق الله آدم ألقى عليه النوم ، ثم خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى ، فلما استيقظ رآها ومال اليها وألفها ، لأنها كانت مخلوقة من جزء من أجزائه ، واحتجوا عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها ". والقول الثاني : وهو اختيار أبي مسلم الأصفهاني : أن المراد من قوله : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أي من جنسها وهو كقوله تعالى : { والله جَعَلَ لَكُمْ مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } [ النحل : 72 ] وكقوله : { إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ } [ آل عمران : 164 ] وقوله : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] قال القاضي : والقول الأول أقوى ، لكي يصح قوله : { خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة } إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين ، لا من نفس واحدة ، ....انتهى.
ثانيا، تأويل آيات الخلق من منطلق أسبقية "حواء"
من أكثر النصوص وضوحا ودقة في هذا الباب ما جاء في إحدى خطب الدكتور إبراهيم عدنان بتصرف وإيجاز كبير: "...أول النساء "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيرا ونساءً" الآية واضحة...ما هي أول نفس خلقها الله؟ أدم وخلق منها زوجها حواء،وهذا قول جمهرة المسلمين وليس بصحيح وهم مخطئون!!!
إن منطوق الآية: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها" يتأسس على كلمة زوج في القرآن وفي اللغة العربية. ذلك أنها تطلق على الجنسين، على الذكر وعلى الانثى ...، والملاحظ أن كلمة زوجة غير واردة في كتاب الله،... ، وقد يقول قائل إن ما في الآية "خلقكم من نفس واحدة" هو أدم قطعاً وليست حواء، "وخلق منها زوجها" هي حواء. ودون رغبة في صدم القارئ وكل المفسرين تقريباً، أقول: الذي استروح اليه وأبخع له أن النفس الواحدة هي حواء والزوج هو ادم، ولم يبق متعلق لأحد بهذه الآية حتى يقول نصحح حديث أبي هريرة في الصحيح خلقت حواء من ضلع أدم... أتعلمون لماذا؟ لسببين أثنين: فهذه هي القراءة الموضوعية لكتاب الله تبارك وتعالى، وعلينا أن نتعلمها ونمهر فيها ونحذقها، أولاً: حيثما وردت كلمة نفس في كتاب الله وردت مؤنثة، وستقول لأن اللفظة مؤنثة،،وفي لغة العرب قد تكون اللفظة مؤنثة ومصداقها مذكر فيصح تذكيرها اعتباراً بالمصداق، ويصح تأنيثها دوراناً مع اللفظ وهذه لغة معروفة جداً، وهنا في قضية النفس، فالنفس حيثما وردت ترد مؤنثة باستمرار، فلا توجد شبهة ...والآن الزوج كما أردفنا قبل قليل يمكن أن يكون الذكر، ويمكن أن يكون الانثى. "اسكن أنت وزوجك"؛ واضح أنه الانثى، لكن هنا" خلق منها زوجها" الذكر أو الانثى؟... ولنعد الى القرآن... لنقرأ في سورة الاعراف: "هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها" . فالزوج واضح هنا أنه الذكر، وأية الأعراف هي آية النساء ذاتها ليس هنالك فرق بينهما. "خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها" و"خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها". فقطعاً النفس الواحدة هي مؤنث وهي حواء ،والزوج المذكر هو أدم. قال" ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به" إلى أخر الآية وما يليها من آيات كريمات. وبذلك أصبحت القضية واضحة جداً بفضل الله تعالى واستقامت على صراطها المستقيم... إذاً الأرجح في اية النساء أن يراد بالنفس الواحدة حواء، وبالزوج أدم، فهل أدم خلق من حواء وهو جزء منها؟ غير صحيح طبعاً، ولم يقل أحد هذا، ولكن هذا هو المقرر في أذهاننا جميعاً؛ أي أن الواحد منهما خُلق من الأخر، وهذه قضية غير صحيحة. فالله يقول "وبدأ خلق الانسان من طين" فكما خلق أدم من طين خُلقت حواء من طين." عن موقع أهل القرآن. (ما هو موقع أهل القرآن)
ثالثا، قراءة أصحاب نظرية تزامن خلق الزوجين (السياقيون) لاجتهادي القائلين بالسابق واللاحق في خلق الإنسان .
تقوم المدرسة السياقية على أساس أن معاني الكلمات تحددها سياقاتها سواء في الجملة أو النص أو الكتاب أو السياق التاريخي والاجتماعي والثقافي... ويجد أصحاب هذه المقاربة أن كلا الاجتهادين السابقين ما زالا يحتاجان للمزيد من الحوار وتبادل المعلومات لاستنباط الحقائق القائمة على التدبر الحسن للآيات القرآنية وما يوافقها من السنة النبوية، لما يتخللهما من شبهات وخاصة التيار السلفي الذي من ضمن ما يأخذ عليه:
1- تقليد واجترار اجتهادات السلف دون أي أساس مشروع لأن حسب القرآن الكريم، الله يحمل مسؤولية الاجتهاد للجميع، وليست هناك أدنى إشارة في القرآن تجعل الاجتهاد في الإسلام حكرا على نخبة أو وصي بل العكس هو الثابت. وحتى السلف أنفسهم منهم من نهى عن ذلك فقد ورد أن الإمام أحمد كان يقول: (لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكاً ولا الشافعي، ولا الثوري وتعلموا كما تعلمنا (مجموع الفتاوى 20/120-122؛
2-السلفيون أعطوا الأسبقية لتفسير القرآن بالحديث عوض تفسير القرآن بالقرآن.
3- السلفيون قاموا بإسقاط مضامين سفر التكوين الإصحاح 2 من التوراة على تفسير الآية 1 من سورة النساء، مما يعتبر خروجا عن أحكام القرآن لقوله تعالى في سورة المائدة الآية 15: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين". ومفاد هذه الآية أن الله يمنع قطعا تفسير القرآن بما عند أهل الكتاب. لكن السلفيين انجرفوا وراء ما جاء عند أبي هريرة وابن مسعود اللذان أثبتت المرجعيات الدينية والتاريخية أن النبي ص ومعه عمر كثيرا ما نهيا الصحابيين الحكي عما يحكي به اليهود والنصارى تجنبا للخلط مع الأحاديث والسنة الأمر الذي حدث فعلا. مما ترتب عنه إدخال عبارات غريبة عن القرآن مثل عبارة "حواء" واختلاق الأحاديث أو تحريفها مما يمس بجوهر القرآن والإسلام، كما سنرى ذلك في الحديث الذي يحتجون به في تفسير الآية 1 من سورة النساء، وهو " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها استمتعت بها وفيها عوج". مما جعله موضوع تجريح من طرف مجموعة من المجتهدين. فهذا الشيخ القاري في "شرح المشكاة" (3/ 460: يقول: "...أي خلقن خلقاً فيه اعوجاج، فكأنهن خلقن من الأضلاع، وهو عظم معوج، واستعير للمعوج صورة، أو معنى ونظيره في قوله تعالى: (خلق الإنسان من عجل). قلت: وهذا هو الراجح عندي أنه استعارة وتشبيه لا حقيقة ، وذلك لأمرين :
الأول : أنه لم يثبت حديث في خلق حواء من ضلع آدم كما تقدم ؛
والآخر : أنه جاء الحديث بصيغة التشبيه في رواية عن أبي هريرة بلفظ : "إن المرأة كالضلع ... ". وقد ورد مثله في صحيح كل من ابن حيان والبخاري ومسلم وكدلك في مسند أحمد ابن حنبل ومستدرك أبي عوانة...
إن قول القاري واضح من حيث أن المرأة ليست من ضلع وإنما شبهت بالضلع الذي فيه عوج. فحسب ظاهر النص كل التأويلات واردة، لكن جميع ما هو متوفر من قرائن إسلامية تاريخية وأخلاقية، والتي تتوافق مع سيرة النبي إلى حد بعيد، تثبت أن الحديث هو وصية للذكر خيرا بالأنثى، في وقت كان المجتمع بطريكيا، يضع معايير خيالية لصلاح الزوج-الأنثى مما يكرس عبودية المرأة أو يتسبب في كثرة الطلاق (الكسر). وكعادته، كان النبي يعالج المشاكل عملا بقوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...) سورة ال عمران الآية 159، على أساس التدرج مراعاة لطبيعة الأوضاع والعقليات. أي أن الحديث كان يهدف دفع الذكور لقبول الإناث نسبيا على طبيعتهم وسجيتهم مما سيسمح للمرأة بهامش من الحرية والكرامة ويضمن استقرار الأسر، لكن دون إثارة عناد الذكور ذوي المزاج العسكري والذين تعودوا أن تكون لهم الكلمة الأخيرة أمام الأنثى. وبذلك يكون هذا الحديث نوع من الدعوة المبكرة للتسامح وقبول الآخر على اختلافه والتعايش معه تحقيقا للسلام ونبذا للعنف. حتى وإن كان في هذه الوصية، ظاهريا، نوع من التأنيب للموصى به كتشجيع للموصى بتنفيذ الوصية. وقد صدر عن النبي (ص) ما يشبه ذلك عندما خرج في حجة الوداع وكان جمل زوجته صفية ثقيلا ومثقلا يأخر ركب الحجاج. فطلب النبي من عائشة أن تبادل صفية جملها لأنه سريع وحمله خفيف. فقالت له غاضبة "ألست تزعم أنك رسول الله، فهلا عدلت؟ " فأجابها مبتسما أو فيه شك يا أم عبد الله؟ فجاء أبو بكر وفيه غرب وصفع عائشة لكن الرسول طلب منه أن يتمهل قائلا له: (إن الغيرى لا تبصر أسفل الوادي من أعلاه). والنبي (ص) لم يقصد من كلامه الإساءة للسيدة عائشة بل بالعكس إنه كان يرغب في التخفيف من غضب أبي بكر وحماية عائشة من العقاب. ومن قال عكس هذا فلا بد أنه يجهل الكثير عن شخصية النبي محمد وأخلاقه وسيرته وتعامله مع نسائه وخاصة الزوجة المدللة ابنة أبي بكر.
4-السلفيون لا يميزون بين الآيات التي تتحدث عن خلق آدم أو البشر وبين الآيات التي تتكلم عن خلق بني آدم أو بني البشر، أي أنهم يسهون أو يغفلون حقيقة مهمة وهي أن حكمة الله في خلقهما تختلف. يقول تعالى في سورة: المؤمنون: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ-;- فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)...).
5- قول السلفيين في موضوع خلق الإنسان الأول كان سطحيا ومرتبكا. فمثلا عند الآيات التي كانت تخاطب آدم بالجمع أو المثنى كانت تفاسيرهم مجرد خرافات وأساطير مثل ما حدث مع آية الأعراف 24: (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) قالوا: "هو أمر لآدم وإبليس، واستتبع آدم حواء، وإبليس الحية". وفي موضع آخر قالوا "وهذا خطاب لآدم وحواء وإبليس، قيل: والحية معهم، أمروا أن يهبطوا من الجنة، في حال كونهم متعادين متحاربين."
أما عن قوله عز وجل: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) طه 123. قالوا: (قال اهبطا) أي آدم وحواء بما اشتملتما عليه من ذريتكما (منها) من الجنة (جميعا بعضكم) بعض الذرية (لبعض عدو) من ظلم بعضهم بعضا).
أما إدا انتقلنا إلى اجتهاد د. إبراهيم عدنان وقوله بأسبقية خلق حواء لآدم، فأهم ما يؤخذ عليه، أنه وإن اختلف اتجاهه مع السلفيين، فإنه يشترك معهم في شبهة الانطلاق من فكرة السابق واللاحق أي الاستتباع وما يرافقه من سلطة وإخضاع الأصل للفرع. فالسلفيون استتبعوا الأنثى للذكر بعباراتهم "حواء لأدم" والدكتور عدنان استتبع الذكر للأنثى "آدم لحواء"، وكله يخالف المبادئ الإلهية في الخلق والقيم الإنسانية السامية التي يستحضرها أنصار المدرسة السياقية كأرضية لتأويل الآيات المتعلقة بالخلق وأولها تفسير القرآن بالقرآن. لأن الآيات القرآنية المترابطة والمتدرجة والمكملة والشارحة لبعضها البعض لا يصح دراستها بشكل معزول أي خارج سياقاتها. مع العودة للحديث الذي لا يخرج عن مقاصد القرآن ودون الاعتماد نهائيا على ما جاء في الأساطير أو عند الكتبيين السابقين لأن القرآن ينسخ التوراة والإنجيل. مما أسفر عن حقائق موضوعية وإنسانية توافق سماحة الإسلام وعدالته.
رابعا، القراءة السياقية لآيات الخلق وتأصيل المساواة
في الآية الاولى من سورة النساء يقول من سعت رحمته السماوات والأرض: (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) النساء 1. يأتي تحديد اللغة أو المفاهيم في سياقها النصي والتاريخي... قبل الدخول في التأويل واستنباط دلالات الآية. والمفاهيم المفتاح في هذه الآية هي: (النفس) و(خلق) و(زوج). أما معاني هذه الكلمات فهي:
خلق: يعني إيجاد الشيء.
النفس: فيها قال أبو إسحاق: النفس في كلام العرب يجري على ضربين: أحدهما قولك خرجت نفس فلان أي روحه، وفي نفس فلان أن يفعل كذا وكذا أي في روعه (الروع معناه الخاطر والذهن)، والضرب الآخر معنى النفس فيه معنى جملة الشيء وحقيقته ، تقول : قتل فلان نفسه وأهلك نفسه أي أوقع الإهلاك بذاته كلها وحقيقته، قال أبو خراش في معنى النفس الروح : والنفس يعبر بها عن الإنسان جميعه كقولهم: عندي ثلاثة أنفس.
ويميل الأستاذ محمد عبده إلى أن المتبادر من لفظ النفس) بصرف النظر عن الروايات والتقاليد والمسلمات، أنها هي الماهية أو الحقيقة التي كان بها الإنسان وهو الكائن الممتاز على غيره من الكائنات( أي خلقهم من جنس واحدة وحقيقة واحدة.
ويؤكد العلامة محمد حسين الطباطبائي صاحب "الميزان في تفسير القرآن" أن ظاهر الجملة، أعني قوله: "وخلق منها زوجها" ، أنها بيان لكون زوجها من نوعها بالتماثل، وأن هؤلاء الأفراد المبثوثين مرجعهم جميعاً إلى فردين متماثلين متشابهين، فلفظة (من) نشوئية، والآية في مساق قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة (الروم 21. (فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه (الشورى11. (ومن كل شيء خلقنا زوجين" (الذاريات 49.
الزوج: الأصل في مادة (زوج) أن يدل على مقارنة شيء لشيء. وكل ما كان له قرين من جنسه، يقال له: زوج، ...، يقال: للرجل زوج، وللمرأة زوج، وهو الفصيح.... ويقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة: زوج. ويقال لكل اثنين لا يستغني أحدهما عن الآخر: زوج. ويقال لكل ما يقترن بآخر مماثلاً له، أو مضاداً: زوج. وزوجة لغة رديئة،... وعليه فعبارة زوج في سياق هذه الآية يمكن أن تقوم مقام الجنسين الذكر أو الأنثى. وبالتالي لا دليل على أن الأنثى خلقت من الذكر كما يذهب لذلك السلفيون (حواء خلقت من آدم). وللمزيد من التوضيح تم استحضار آية أخرى في الموضوع مما يوافق تحليل الدكتور إبراهيم عدنان وأتباعه: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) الأعراف 189.
في هذه الآية الزوج الذي خلق من النفس الواحدة يسكن لقرينه ويتغشاه والقرين يحمل... وبوضوح شديد، فالزوج الذي يتغشى هو الذكر والقرين هو الأنثى. ومنه وإذا اقتفينا خطى السلفيين سنقول أن الأنثى خلقت من الذكر وإذا وافقنا د. إبراهيم عدنان سنقول أن الأنثى خلقت من الطين مثل آدم لكن قبله، وبالتالي لن نخرج عن دائرة الاستتباع والتفضيل التي وضعتها ثقافة التمييز والتحيز. في حين أن الهدف هو التحقق من العدالة الإلهية في مسألة الخلق، لأن العدل من صفات الله عز وجل: الرحمان الرحيم. وفي هذه النقطة بالذات نواجه سؤالا يطرح نفسه بإلحاح وهو: من هما الزوجين اللذين خلقهما الله من نفس واحدة كما جاء في الآيتين السابقتين؟
للإجابة على هذا السؤال لابد من استحضار الآية 1 من سورة النساء والآيتين 11 و12 من سورة الأعراف: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا). و(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)). عند استقراء هذه الآيات، نجد موضوعها هو الخلق الأول، سوى أن الخلق في الآية الأولى كان من النفس الواحدة وفي الآية الثالثة الخلق كان من الطين لكن المخلوق يبقى واحدا وهو آدم. وإن كان ضمنيا في الأولى وظاهرا أو معلنا في الثانية. فما معنى آدم؟ وما العلاقة بين النفس الواحدة والطين؟
اعتمادا على معجم المعاني ومقالة عن العلم الأعجمي في القرآن ويكيبيديا، تم استخلاص ما يلي:
أدام في العبرية مشتقة من "أدم" أي "إحمر". وفي العبرية أيضا "أدما" بمعني التربة، ومنه ما جاء في سفر التكوين: "وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة" (تكوين 2/7).... يعني أديمها أي الظاهر منها، لا الأرض نفسها وهي في العبرية "هاآرص".
وفي المعاجم العربية آدم أو أدم (برفع الهمزة) جمع لكلمة أديم وهي وجه الشيء وهنا المقصود وجه الأرض كما تطلق على اللون الأسمر. وربما أخد وجه الأرض إسما من صفته وهو لونه الأسمر. يستخدم اسم آدم ككلمة شائعة في اللغة العبرية وتعني "إنسان".... يمكن أن يقدم اسم آدم بمعنى "البشر" بالحس الأكثر عمومية، وهو مشابه لاستخدام الاسم في اللغات الكنعانية.
في الفصول الخمسة الأولى من سفر التكوين الكلمة א-;-ָ-;-ד-;-ָ-;-ם-;- ( آدم ) اُستخدمت في كل معانيها: حيث كانت الكلمة تعني بشكل جماعي (البشر)،[1:27] وبشكل فردي ("رجل")،[2:7]، وللإشارة لجنس غير محدد ("رجل وامرأة") [5:1,2] وبمعنى ذكر.[2:23–24 ووفقاً للموسوعة اليهودية استخدام الكلمة في سفر التكوين 1 هو استخدام عام بينما في سفر التكوين 2 وسفر التكوين 3 فإن الاستخدامات العامة والشخصية متنوعة.
وقبل أن نعطي خلاصة الإجابة عن السؤالين : ما العلاقة بين النفس الواحدة والطين؟ وما معنى آدم؟ دعت الضرورة الوقوف على معنى عبارتين أساسيتين وردت ضمن الشرح وهما بشر وإنسان. فما معناهما؟
جاء في لسان العرب لابن منظور:
البشر: الخلق يقع على الأنثى والذكر والواحد والاثنين والجمع.
أما كلمة الإنسان، فجاء في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي:
الإنسان: اسم جنس لكائن حيّ مفكِّر قادر على الكلام المفصَّل والاستنباط والاستدلال العقليّ ، يقع على الذَّكر والأنثى ، ويطلق على المفرد والجمع. نفسه جاء في "التحرير والتنوير" لمحمد الطاهر بن عاشور في تفسير آية وعلم آدم الأسماء كلها.
وعليه، فإن كلمة بشر ترادف كلمة آدم وكلمة إنسان ترادف كدلك كلمة آدم أي أن كلمة بشر ترادف كلمة إنسان ومنه فالعبارات الثلاث، آدم وبشر وإنسان في هذا السياق تعتبر مترادفات.
أما عن العلاقة بين نفس واحدة والطين، فهو أن النفس الواحدة هي ماهية ومصدر وحقيقة الزوج والطين هو مصدر أو ماهية وحقيقة خلق آدم. وأدم هو الزوج أو الزوجين إذن، حتما ولزوما، النفس الواحدة هي الطين.
وعلى أساس المعطيات السابقة يسهل علاج موضوع الخلق الأول بشكل أكثر دقة ووضوحا وموضوعية بعيدا عن الخلط والارتباك. وكما سلف القول ففي الآية 1 من سورة النساء قال السلفيون، أن حواء خلقت من ضلع آدم وآدم هو المراد بالنفس الواحدة...واعتمادا على الأعراف الآية 189 قال د. عدنان إبراهيم أن حواء خلقت من جنس آدم وهنا يلتقي مع بعض السلفيين مثل أبو حيان وابن عطية وابن عادل عند قولهم: (أن حواء خلقت من جنس آدم لذلك كانت بينهما ألفة ولو كان العكس لكان هناك تنافر) لكنهم حاذوا عن الصواب عندما اعتبروا أن النفس الواحدة هي آدم، على عكس د. عدنان الذي اعتبر أن النفس الواحدة هي الطين. وهنا يلتقي مع الرأي الثالث الذي يجد أن كل الأدلة والقرائن تثبت أن النفس الواحدة هي ماهية آدم وحقيقته وجنسه أي المادة التي خلق منها وهي التراب أو الطين. لكن الاتجاهين يفترقان عند قبول د. عدنان بتسمية -الزوج- الأنثى- بحواء ، وقوله بأن حواء خلقت قبل آدم. لكن السياقيين، لا يقولون أن الأنثى خلقت من الذكر وبعده وأقل قيمة منه (الزمخشري). ولا هي خلقت قبل آدم كما جاء عند الاتجاه الثاني. وبعد إلغاء عبارة "حواء" من قاموس تفسير الخلق الأول لأنها لم ترد في القرآن كمصدر أول مما يجعلها فاقدة لأي مصداقية، الاتجاه الثالث على خلاف كل الاجتهادات قد توصل لمجموعة من الحقائق وهي أن آدم وكما سلف في تحديد المعاني أعلاه، ليس مفردا مذكرا كما تعاملت معه جل القراءات السابقة أخذا عن أصحاب التوراة ودون تدقيق في المصطلحات والمفاهيم (وإما لغرض في نفس يعقوب). فعبارة آدم استعملت في حالة الذكر والأنثى والمفرد والجمع والمثنى في التوراة وفي اللغة العبرية -أصل لعبارة آدم- وكذلك في القرآن كما جاء في الآيات التالية:
-;- الآيات التي وردت فيها عبارة آدم بصفة المثنى
ومن قوله عز وجل: (فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱ-;-لْجَنَّةِ وَعَصَىٰ-;- ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ-;-) طه 121. و(وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الأعراف 22/23. و(قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) طه 123
-;- الآيات التي وردت فيها عبارة آدم بصفة الجمع
قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤ-;-ئِكَةِ ٱ-;-سْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُوۤ-;-اْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِّنَ ٱ-;-لسَّاجِدِينَ). الأعراف 11. و(قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) الأعراف 24. و(قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) الأعراف 25.
ومن الآيات أعلاه تم الكشف عن مجموعة من الحقائق القرآنية وأعيد القول في الكثير من الخرافات والأساطير التي شاعت في معظم الاجتهادات الأخرى مثل:
- عبارة آدم في القرآن وفي اللغة العبرية، لا تعني دائما الفرد الذكر وإنما يقصد بها المثنى والجمع مثلها مثل بشر وإنسان كمرادفات لها.
- الزوج-الأنثى ليست المسؤولة عن الخطيئة الأولى أو الخروج من الجنة كما جاء عند التوراتيين أو المفسرين السلفيين الذين لم يدققوا في المفاهيم واعتبروا أن آدم كمفرد هو المسؤول عن الخطيئة على الرغم من أن القرآن في هذا الموضوع يتوجه بالاتهام إلى كل من الأنثى والذكر على قدم المساواة لإقدامهم على فعل ما نهاهم عنه الله سبحانه وتعالى. (الأكل من شجرة الخلد). وآدم الذي عصى ربه وغوى كما جاء في سورة طه 121 لا يعني آدم الفرد وإنما المقصود به الزوجين. فبالمثنى بدأ العتاب الإلهي في هذه الآية وبالتالي فالمعاتب (بالفتح) حتما ولزوما هو مثنى، وبالتالي فالمخاطب في تلك الآية هو آدم. إذن عبارة آدم كانت في حالة المثنى. وفي الآية الموالية آدم في صيغة المثنى أي الزوجين وهما اللذان اعتذرا معا ولا أحد ناب عن الآخر ولا كان وصيا عنه أمام الخالق. والزوجين معا قد حملهما الله عاقبة ما اقترفاه من خطيئة وذلك بالحكم عليهما بالهبوط معا من الجنة للأرض. ومنه لا يمكن أن يبقى لنا شك في كون عدم قراءة عبارات القرآن في سياقاتها المختلفة وسيادة ثقافة التمييز الجنسي قد تحكما بشكل كبير في تأويل آيات الخلق وجعلها تكرس دونية المرأة وتحط من كرامتها.
إن هذا المشكل اللغوي لم ينحصر في موضوع الخلق فقط وإنما هناك قاموس لغوي عربي خاص بالتمييز بين الجنسين على أساس الأفضلية المطلقة والمقدسة للذكر على الأنثى. وعلى سبيل المثال لا الحصر كلمات: (النساء) و(الرجال) و(القوامة)... إن هذه الكلمات الثلاث ( نساء- رجال- قوامة) قد شابها الكثير من التحريف ولي العنق من أجل توجيهها نحو تحقير الأنثى والمس بكرامتها. فمثلا عبارة نساء التي أصبحت رمزا للمرأة كتبخيس وتحقير لها لا علاقة لها بخصوصية الجنس المؤنث وإنما في اللسان العربي، نساء: جمع نسيء وهو كل من كان في مؤخرة الركب أو القافلة ذكرا كان أو أنثى، صغيرا أو كبيرا. أما كلمة رجل التي اختزل إطلاقها على الذكر كتعزيز وإكرام وتبجيل له، مما لا يتحقق مثله للأنثى، فأصله، ترجل او ترجلت الرجل أو الرجلة أي نزل أو نزلت بعد أن كان راكبا أو كانت راكبة قال تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ-;- كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) الحج الآية 27. رجالا وعلى كل ضامر يأتين يعني يجيئون راجلين وراجلات أو راكبين وراكبات لأن الناس تطلق على الذكور والإناث والحج هو فريضة على الجنسين. أما عبارة القوامة التي هي كذلك من أهم عبارات قاموس التمييز العربي المؤسلم ...قال تعالى (الرجال قوامون على النساء بما أنفقوا وبما فضل الله بعضهم على بعض) النساء 34. أول ملاحظة، هي ان الآية تقول الرجال قوامون على النساء وليس الذكور قوامون على الإناث. هذا من جهة ومن جهة أخرى فقذ بينا أن صفتي الرجال والنساء ليستا مرتبطتين بالجنس وإنما بالفعالية والكسب والمسؤولية (النفقة وحسن التدبير...). وهذه أمور يمكنها أن تتوفر في كلا الجنسين ولا يكون الواحد قوام على الآخر إلا إذا كان ذلك الآخر نسيئا أي يعاني من أحد مظاهر الضعف والتخلف سواء الصحي أو المالي أو العقلي أو الفكري .
ومن كل الشهادات التي ذكرت والتي لم يسمح المقام باستحضارها يتضح أن الله الحكم العدل ينظر للأنثى والذكر على قدم المساواة في الحقوق والواجبات دون تمييز أو وصاية أو قوامة لأحد على الآخر. وبالتالي فالقرآن أو الدين الإسلامي بريء من كل ما يقوله المفسرون السلفيون في الموضوع. وبريء من كل ما تسببوا فيه من ظلم وأذى للمجتمعات الإسلامية من خلال تكريس دونية المرأة واتهامها بكل مظاهر الشيطنة والفساد جراء ذلك التأويل الفاسد للآيات القرآنية وابتداع قاموس لغوي يكرس دونية المرأة وتحقيرها على مر ما يناهز 14 قرنا.
وبعد هذا الكشف –رغم محدوديته- عن مجموعة من مظاهر الزيف اللغوي والمغالطات الفقهية لم يبق سوى التأكيد على مسؤولية الإرادة السياسية في استمرار وضعية التمييز وما يرافقها من إضرار ليس بالمرأة وحدها وإنما بكل مكونات المجتمعات الإسلامية خاصة في السنوات الأخيرة مع نشاط ظاهرة الاجتهاد وقوتها لما يتوفر من إمكانيات البحث والتدقيق حيث لم تبقى ذريعة تحليل الحرام قائمة فالعدل أساس الحلال. ونتمنى جزاء الاجتهاد أما الحقيقة والكمال فهي لله وحده لا شريك له (وله تأويل القرآن).
الرباط، في 24 شتنبر 2015