مدونة الأسرة المغربية: الضوابط السوسيولوجية وإستراتيجية البناء



عبد النور إدريس
2005 / 10 / 31

□لم تستطيع اللجنة العلمية التي تشكلت لمراجعة نص المدونة سنة 1993 أن تخرج من هالة التقديس المحيطة بنص مدونة الأحوال الشخصية باعتباره قانونا وضعيا حيث أنها اختارت التعديل الشكلي " الذي لايحفظ الفلسفة العامة لمدونة 1957 فحسب، بل يضمن استمرارية آثارها العملية والمجتمعية" (1)،حيث النص الفقهي يستحكم قبضته على المجتمع عوض أن تتحكم التحولات بعمق البنيات المجتمعية في هذا النص الذي استوطن العقليات فبات المنتوج الفقهي يُنظر له كأنه من طبيعة ثبات المجتمعات الإسلامية.
إن السوسيولوجية القانونية كمنهجية أكدت وتؤكد أن تغيير القوانين يرتبط أساسا بما يعرفه المجتمع من تغيير في بنياته السوسيو- ثقافية ، بينما نجد إن المجتمعات الإسلامية وعلى مستوى التعاطي مع القضايا المتعلقة بالأسرة كان يستحكم فيها الفقهاء تكرار نفس الأحكام بمقياس وحدة المضامين الاجتماعية ،" بل وكانت بعض القضايا تتكرر من كتاب فقهي إلى آخر ، تتكرر في بعض الأحيان بتناص يكاد يكرر نصُّ ُنصا آخر"(2).
وقد أعطت ذة. رحمة بورقية مثالا عن ذلك يتعلق بكتاب " معيار الونشريشي" الذي يكرره كتاب آخر من النوازل للمهدي الوزاني بنفس الحجم بل وبنفس المضامين أيضا.
إن دخول مدونة الأسرة قبة البرلمان باعتبارها نصا قانونيا مؤسسا للمجتمع الديمقراطي الحداثي، مقرونة بالتوجهات العامة لجلالة الملك التي وردت في خطابه الملكي ليوم 10 أكتوبر 2003 بمناسبة افتتاح السنة التشريعية الثانية من الولاية السابعة والتي يشير فيها إلى إنصاف المرأة وحماية حقوق الطفل وصيانة كرامة الرجل مع الانفتاح على روح العصر ومتطلبات التطور والتقدم وقد ركز الخطاب الملكي على ما يتعلق بالحضانة والنفقة في النقطة الثامنة من المنطوق الملكي جاء فيه " الحفاظ على حقوق الطفل بإدراج مقتضيات الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب في صلب المدونة، هذا مع اعتبار مصلحة الطفل في الحضانة من خلال تخويلها للام ثم الأب ثم لأم الأم. فإن تعذر ذلك، فإن للقاضي أن يقرر إسناد الحضانة لأحد الأقارب الأكثر أهلية، كما تم جعل توفير السكن اللائق للمحضون واجبا مستقلا عن بقية عناصر النفقة، مع الإسراع بالبث في القضايا المتعلقة بالنفقة في أجل أقصاه شهر واحد".
كما حظيت المدونة بدعم مستمر من طرف جلالته الذي واكب مشروع المدونة منذ أول خطاب له في شهر غشت 1999 الذي أوضح فيه أنه لا يمكن ضمان التقدم والازدهار في الوقت الذي تتعرض حقوق النساء اللواتي يمثلن نصف المجتمع للإهانة.
إن التحسن الذي تعرفه الأسرة المعاصرة في مستوى العيش وانخراط أفرادها في منظومة الاستهلاك، أثر بشكل كبير في توزيع الأدوار بين الزوج والزوجة و الأبناء ولقد تطرقت ذة.رحمة بورقية إلى إنه " بالرغم من هذا التأثير فالتصورات المجتمعية والثقافية ما زالت تنظر إلى الزوج مثلا مصدرا وحيدا للإنفاق على البيت والأطفال" (3)
إن الصورة الأبوية التي عكستها تصورات المذهب المالكي العميقة حول المرأة من جهة واعتبارها كائنا دونيا في خدمة العنصر الذكوري وحول صورة الرجل من جهة ثانية و بما يحمله مفهوم القوامة من معطيات نفسية ، اجتماعية وثقافية و بالرغم من كل التحولات الماكرو- سوسيولوجية، جعلت بيت الزوجية جحيما بسبب توتر العلاقات وحدّة الخلافات حول مسؤولية الإنفاق وتحديد القائم به في حالة عمل الزوجة هذا بالإضافة إلى ما جاء في دراسة ذة.رحمة بورقية التي تطرقت إلى أن بعض الزوجات يستغللن " ذلك الإقرار القانوني للقوامة للزوج للامتناع عن الإنفاق عندما تتوفر لهن الإمكانيات في حالة يسرهن وعسر الأزواج" (4) .
وفي حالات كثيرة معروضة على محاكم المملكة استُعملت القوامة في حالة عجز الزوج كذريعة لإذلاله والتشهير به.
لقد حررت مدونة الأسرة عبر المادة 199 المجتمع من المفهوم النفسي والاجتماعي للقوامة والتي كانت مرتبطة بالرجل وتركت آثارا بالغة لدى تمثلات كل من الزوج والزوجة حول مسؤولية بيت الزوجية .إن هذه المادة تحاول بناء الأدوار داخل الأسرة بشكل جديد تتحرر معه المرأة (العاملة) أمام المجتمع من الحرج الاجتماعي والنفسي في حالة قبولها التزوج من عاطل و الإنفاق عليه.
إن مفهوم القوامة يعكس تصورا بتريركيا يقوم على الاحتباس والاستمتاع ومبدأ الطاعة مقابل الإنفاق ، وهذه التصورات مجتمعة لا تحقق مجتمعا متوازنا يحقق للأسرة تساكنا شرعيا بين جل أطرافها، وقد نصت المادة 51 التي جاءت بالعديد من المصطلحات في هذا الباب على تنشيط مفاهيم أخلاقية ذات مستوى عال بمنظومة القيم الاجتماعية مثل : المساكنة الشرعية، معاشرة زوجية، المعاشرة بالمعروف، تبادل الاحترام، المودة ، التشاور في اتخاذ القرار، حسن المعاملة...) وقد نصت هذه المادة في فصلها الثالث على اقتسام المسؤولية بين الزوج والزوجة في تسيير ورعاية شؤون بيت الزوجية، " تحمل الزوجة مع الزوج مسؤولية تسيير ورعاية شؤون البيت والأطفال".
ولقد حافظت مدونة الأسرة على ما يقارب 90 في المائة من مقترحات "الخطة الوطنية من أجل إدماج المرأة في التنمية" التي توخت النهوض بأوضاع المرأة المغربية بمبادرة من كتابة الدولة في التعاون الوطني سنة 1998 وبدعم من البنك الدولي وبإشراك الجمعيات النسائية التي حرصت على إلغاء مختلف مظاهر التمييز ضد النساء .
وقد اتسمت عملية الإعداد باعتماد مقاربة شمولية: مقاربة النوع (genre ) كأداة منهجية (5) شملت مرحلة التصور والصياغة النهائية(6).
إن هاجس مدونة الأسرة الأساسي يهدف إلى جعل المجتمع يتجاوز عقدة التفوق الذكوري نحو إقرار التوازن "الكامل" بين الزوجين الذي تؤطره ثقافة جديدة تنهل من ثقافة المساواة بين الجنسين والعلاقة التشاركية بينهما، بذلك فلم يبق للمبدأ الفقهي القديم الذي يربط مسألة الإنفاق بالاستمتاع قائما على اعتبار أن كل من الزوجين يستمتع بالآخر وهذه الخلاصة تعتبر من ضمن الاستنتاجات الجندرية الرائدة في هذا الباب على أساس أن الاختلاف المُفترض بين الذكر والأنثى على مستوى الجنس هو اختلاف ثقافي واجتماعي تُذكيه أسطورة الرجل الفحل وليس بيولوجيا فسيولوجيا.
ومن ذلك حاولت مدونة الأسرة أن تُضعف من التفضيل التقليدي لذكورية قيم المجتمع التي حضرت بقوة بمدونة الأحوال الشخصية والتي أعلنت وفق سياق فقه المالكية عن هوية مُتَعِيَة للمرأة مشمولة بالتصورات الفقهية للعالم الذي يُشَيِّء جسد المرأة ويجعل عملية الإنفاق بما هي استمتاع من قبل الرجل بالجسد الأنثوي تذوب معه الزوجة في حالة العجز أو المرض أو الشيخوخة.
سأعمل في تحليل هذا الموضوع "الضوابط القانونية السوسيولوجية للنفقة والحضانة" على مقاربة نصية تحليلية شاملة تتجاوز الاهتمام بالمستجدات فقط على اعتبار إن السياق الذي أُدرجت فيه تلك التغييرات يشكل جزءا من النسق العام للمدونة، و على ضوء معطيات الواقع الاجتماعي دون إغفال التأصيل الفقهي للموضوع والتعاطي القانوني مع مواد المدونة نحو خلق انسجام للمدونة مع نفسها ومحيطها الاجتماعي على أساس أن الإنسان أصبح قطبا مركزيا في تعديلات همّت قضايا الأسرة كان همها الاستراتيجي يتمحور حول: رفع الحيف عن النساء، حماية الأطفال والحفاظ على كرامة الرجل وصيانتها.


الهوامش:
1- محمد الصغير جنجار، الجمعيات النسائية وقضية تعديل مدونة الأحوال الشخصية، مجلة مقدمات ، عدد رقم 3،مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء سنة 2002 ص: 33.
2 - منبر الجامعة، ذ.رحمة بورقية، الجوانب الاجتماعية في قانون مدونة الأسرة، " مدونة الأسرة المستجدات والإبعاد" منشورات جامعة المولى إسماعيل ، العدد 5، سنة 2005 ص: 21.
3 - منبر الجامعة ، نفس المرجع السابق ص: 23.
4- نفس المرجع السابق ص:23.
5- تعريف الجندر بالموسوعة البريطانية (موقع الموسوعة البريطانية : Encyclopédie Britannique على شبكة الانترنت)
* أصل المصطلح هو الكلمة الانجليزية "Gander"، وتعرف الموسوعة البريطانية الهوية الجندرية "Gander Identité" بأنها: شعور الإنسان بنفسه كذكر أو أنثى وفي الأعم الأغلب فإن الهوية الجندرية تطابق الخصائص العضوية، لكن هناك حالات لا يرتبط فيها شعور الإنسان بخصائصه العضوية، ولا يكون هناك توافق بين الصفات العضوية وهويته الجندرية (أي شعوره الشخصي بالذكورة أو الأنوثة)… وتواصل التعريف بقولها: "إن الهوية الجندرية ليست ثابتة بالولادة - ذكر أو أنثى -بل تؤثر فيها العوامل النفسية والاجتماعية بتشكيل نواة الهوية الجندرية وهي تتغير وتتوسع بتأثير العوامل الاجتماعية كُلّما نما الطفل"
* أما منظمة "الصحة العالمية" فتعرف الجندر بأنه: "المصطلح الذي يفيد استعماله وصف الخصائص التي يحملها الرجل والمرأة كصفات مركبة اجتماعية، لا علاقة لها بالاختلافات العضوية" بمعنى أن كونك ذكراً أو أنثى عضوياً ليس له علاقة باختيارك لأي نشاط جنسي قد تمارسه فالمرأة ليست إمرأة إلا لأن المجتمع أعطاها ذلك الدور، ويمكن حسب هذا التعريف أن يكون الرجل امرأة.. وأن تكون المرأة زوجاً تتزوج امرأة من نفس جنسها وبهذا تكون قد غيرت صفاتها الاجتماعية وهذا الأمر ينطبق على الرجل أيضاً.
6 - انظر محمد الصغير جنجار، المرجع السابق ص: 35.