رحل المرنيسي ويبقى سندبادها



خالد الحروب
2015 / 12 / 14

صاحبة «شهرزاد ترحل غرباً» ومؤلفات وإبداعات أخرى كثيرة، رحلت أوائل هذا الشهر. قليلون هم من يرحلون لكن لا يغيبون، وفاطمة من هؤلاء. في رحيلها تحضر تأملات تبادلتها وإياها منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة هي عمر معرفتي بالراحلة.


إبداع المرنيسي، الروائية والكاتبة والسوسيولوجية المغربية، يأتي من التقاطها لحوادث وصيرورات عابرة نمر بها فلا نكاد نعطيها أهمية. في كتاب «شهرزاد ترحل غرباً» أبحرت المرنيسي في مفهوم «حريم الغرب» المسجون بأسوار الزمان (التمسك بفترة الشباب والنضارة) والذي بمعنى ما لا يختلف عن حريم الشرق الذي كان يُسجن بأسوار المكان.

في الجدل حول العولمة، تساءلت المرنيسي باكراً: من الفائز فيها؛ السندباد أم الكاوبوي؟ وهو تساؤل فيه تراكيب قد تبدو للوهلة الأولى غير متسقة، حيث يُقارن سندباد الحكايات الماضية في قرون الشرق بكاوبوي الغرب في الزمن الحاضر. وحيث تُقارن عولمة راهنة في قلبها رأسمال لا يهدأ من التجوال بحثاً عن الربح، بعولمة عصر السندباد التي لم تكن فيها الشركات متعددة الجنسيات ولا الضرائب ولا حقوق الملكية الفردية! لكن المرنيسي المهمومة بحوار الشرق والغرب على قاعدة ندية تكسر محددات الزمن وتلتقط فكرة الأدب والترحال باعتبارهما قلب تعولم الشرق القديم، وتطرحهما بديلاً تواصلياً عن عولمة اليوم التي تراها متوحشة ويحتل العنف موقع القلب منها.

السندباد عندها هو الرحالة الذي لا يعرف حدوداً للجغرافيا، بوصلته وصية أبي تمام «اغترب تتجدد»، وأنشودته ترانيم الشاعر الصوفي التنيسي: «وسافر ففي الأسفار خمس فوائد: تفرج نفس، والتماس معيشة، وعلم، وآداب، ورفقة ماجد». الكاوبوي عندها هو الرحالة المهجوس بتملك الجغرافيا واحتلالها واعتبارها ثروته الخاصة. همه نصب القواعد والأركان وحماية ما تم احتلاله من أراض. عند السندباد الأمر أبعد كثيراً مما قد توحي به الأشعار ورومانسية التعرف على جغرافيات جديدة. فمن أهم ما فيه وعنه هو ما نقلته عن الجاحظ، ناصحاً خلفاء بني العباس، قائلاً: «الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك». وهي تتوقف هنا عند النظرة الاستكشافية المعرفية إلى «الغريب» واعتباره مصدراً للمعرفة يتم التواصل معه لزيادة المعرفة الذاتية. هذه النظرة الإيجابية للغريب تسم عولمة السندباد وتفترق عن عولمة الكاوبوي الذي برأي المرنيسي نظر للغريب نظرة استعداء مسبقة. ففي خضم دفاعه عن الجغرافيا التي احتلها وسيجها وحصن نفسه فيها وخلف أسيجتها، صار يتعامل مع الغريب بالرصاص والتحصينات.

ما نفهمه من طرح المرنيسي لمفهوم السندباد التواصلي أنها تريده بديلاً لمفهوم الكاوبوي المعولم. الأول فيه اندفاعة المعرفة والاستكشاف لذات المعرفة، والثاني فيه اندفاعة الإمبرطورية الباحثة عن المغانم.

في المقام الأول تأتي مسألة تحرير مفهوم السندباد والكاوبوي من أية إحداثيات جغرافية وزمانية وإعطائهما صفة الصيرورة التي قد تتواجد في أي جغرافيا وفي أي زمان. بهذا التحرير يتم تفادي التورط في مانوية تبسيطية تعتبر الشرق ملاذ البراءة والغرب مصدر التوحش بما يخدم في المقام الأول أطروحات تصفيف الحضارات والثقافات ضد بعضها بعضا.

في الذي يتوحش فيه الكاوبوي الغربي نجد أن أشد مقاوميه ضراوة هو السندباد الغربي نفسه. ولعل أفضل تجسيد لمفهوم السندباد الغربي هو الحركات الإنسانية المعادية للتوحش الرأسمالي المعولم، والمعادية لأسلحة الدمار الشامل، والمعادية للحروب الإمبريالية البوشية. وكذا الحركات الداعية لإنهاض أفريقيا والعالم الثالث وإلغاء ديونهما ومساعدة شعوبهما.

من دون أن نفرق بين سندباد الغرب وكاوبوي الغرب فإننا نقع في شباك نفس التعميمات العنصرية التي نظرت للشرق الماضوي بأنه «عاطفي» و«حريمي» وغير عقلاني مثلاً، أو للشرق المعاصر بأنه كله «بن لادني» ومتطرف ومعادي لكل ما هو غربي.

في سياق التلاقح الثقافي المطلوب ليس ثمة بديل عن تحالف سندبادات الشرق والغرب والشمال والجنوب ضد كل أصناف الكاوبوي أياً كان مصدرها. خصم كل سندباد في على عصر ومصر هو العنف والتوحش والاعتداء على الآخر، تلك هي قيم الكاوبوي. ومبتغى كل سندباد في كل عصر ومصر هو قيم المعرفة والعدل والمساواة. تلك هي القيم التي يشمئز منها الكاوبوي. إنها أرضية واسعة للالتقاء، ممتدة وضرورية.

لكن مثل هذا التحالف «السندبادي» لا يمكن أن يتحصل إلا باستثمار الجانب التواصلي من العولمة الراهنة.

---------------