أتكون هى أنبل النساء؟



نوال السعداوي
2016 / 1 / 6


لا أنساها أبدا، تلوح فى نومى فأصحو مبتهجة رغم كآبة الكون، تشع البهجة من حولها، إشراقتها تشبه الشمس، متأججة مشتعلة لا تنطفئ وإن انطفأت الشمس، ضحكتها تبدد الاكتئاب واليأس، لوجودها حنان لم أعرفه فى حياتي، والرقة لم ألمسها إلا فى عينيها، وصوتها حين تنادينى كما كانت أمى تنادينى فى طفولتي، كانوا يسمونها زينب القتالة، أول مرة أرى امرأة قاتلة، رأيت فقط رجلا قتل زوجته، كان محاطا بالحراس، لم يظهر منه إلا عظمة الأنف، كشفرة الموس أو السكين، فمه مطبق على فكين عريضين داخلهما أنياب وضروس يجز عليها، كأنما يمضغ لحم زوجته، وأعلن القاضى إخلاء سبيله، رأفة به، فالخيانة هى أفدح الجرائم، القتل فى هذه الحالة ليس جريمة بل دفاع عن الشرف الذى هو أغلى من الحياة.
قالوا زينب قتلت زوجها فلم أصدق، هذه المرأة الرقيقة لا يمكن أن تقتل، وابتسمت السجانة الشاويشة كالفلاسفة وقالت: أرق الناس هى التى تقتل إنه سجن القناطر بداية الثمانينيات فى القرن الماضي، حيث أصبحت زينب القتالة صديقتي، لم أعرف امرأة أو رجلا فى مثل أمانتها وشهامتها، تفدى بحياتها فتاة صغيرة متهمة بقلب النظام وازدراء الأديان، الجميع يضطهدون الفتاة لصغر سنها وفقرها، فالحياة داخل السجن مثل خارجه. تحكمها القوة والبطش بالضعفاء، إلا النبلاء من أمثال زينب القتالة، النبلاء ليس لهم جنس ولا جنسية ولا طبقة ولا دين ولا هوية ولا حزب إلا نبل الأخلاق.
عادت زينب من الحقل الى الدار مبكرة عن موعدها المعتاد، فوجدت زوجها فى فراشها فوق بنت الجيران الصغيرة، فار الدم فى رأسها وضربته بالفأس على رأسه حكمت عليها المحكمة بالسجن المؤبد، وقلت لها: كان المفروض أن يخلى القاضى سبيلك رأفة بك كما فعل مع الرجل قاتل زوجته، الخيانة أفدح الجرائم وكنت تدافعين عن الشرف الذى هو أغلى من الحياة، أطلقت زينب القتالة ضحكتها المجلجلة وقالت: لو كان فى الدنيا عدل.
تذكرت حادثا وقع مع زوج سابق فى حياة سابقة، كان مستشارا أو قاضيا، يعتبر القانون ارفع العلوم، لا يعلو عليه شىء وإن كان علم الطب أو الفلك والنجوم، ومهما ارتفعت المرأة وأصبحت عالمة ذرية أو نووية فهى لا ترتفع عن رجل القانون، خاصة إذا كان زوجها لم أدخل حلبة التنافس تلك، أدركت أن الرجل يعانى نفسيا تفوق عقل زوجته عليه، ولم يكن للمشكلة حل إلا أن تتظاهر الزوجة بالغباء أو تطلب الطلاق وكان عقل الزوجة عصيا على الإلغاء، وبأمر الله يملك الرجل وحده الطلاق، وصاح الزوج القاضى منفوشا كالديك الرومي، لن أطلقك اذهبى للمحكمة واخترقت الكلمة رأسها كطلقة الرصاص، طوابير النسوة المكلومات بملابسهن السوداء أمام باب المحكمة، كالطوابير أمام المستشفى والمشرحة والمقبرة، ولأمها شقيقة ماتت بعد عشرين عاما فى المحاكم دون أن تحصل على الطلاق كيف تخرج من جبروت قانون مقدس لا يعرف العدل؟ للغضب غشاوة مفزعة كالعمي، انتفضت من النوم واقفة بالنافذة، تبحث عن نجمتها المولودة معها، وعين أمها الميتة تسهر الليل: أنت تشقين الضلوع بمشرطك وتستأصلين فصوص الرئة المريضة، المشرط هو الحل الوحيد للمرض المستعصي، وكان واقفا أمامها شامخا، يتشدق بقوة القانون، مشت نحوه بخطوة هادئة تشبه خطوة أبيها الميت، لا يمشى بهذا الهدوء إلا الأقوياء والموتي، كانت هادئة بكامل عقلها الواعي، واقفة أمامه بقامتها الفارعة، كان أقصر منها وأصابعه قصيرة سمينة ترتعش، أصابعها طويلة نحيلة حول المشرط ثابتة، وبحركة الفارس يمتشق سلاحه لمع النصل الحاد بلون الضوء الأبيض.
أصبحت أمامه وجها لوجه وعينا لعين، ماذا رأى فى عينيها ليتجمد فى مكانه؟ ثم بدأ يتراجع الى الوراء حتى التصق ظهره بالحائط، أصبح جزءا من الحائط. لونه بلون الحائط، شفتاه لونهما أبيض منفرجتان لا ينطق، مات، واقفا دون أن يلمسه النصل اللامع، دون أن يغلق فمه ولا عينيه، تركته واقفا فى مكانه، وأعادت المشرط بهدوء الى حقيبتها الطبية، ثم رأته يتحرك بعد قليل، خرج ولم يعد، وجاءتها الحرية كاملة (مختومة بالنسر) وهى فى بيتها معززة مكرمة، لم تذهب لأى محكمة ولم تدفع لأى محام ولا سمسار ولا مأذون.
انقضى نصف قرن منذ تلك اللحظة تصورت أن الزمن مسحها من الذاكرة والزمان، حتى التقت القتالة زينب فى السجن. لم تتخيل أنها يمكن أن تقتل، كانت هادئة وادعة كالأم الحنون، وإن غضبت كل السجينات هى لا تغضب، وإن زعق الجميع هى لا تزعق، صوتها رقيق كالنبع الصافي، ثم مرة واحدة غضبت، مرة واحدة كانت لحظة الغضب، اكفهر الكون وتلبدت السماء، عيناها كالضوء المشرق تعكرت وأصبحت بلون الطين الأسود، وكانت الشاويشة السجانة تنطق الكلمات بصوت الفلاسفة وتقول: القاتلات أنبل الناس، القتل ليس جريمة يا ضكتورة، أبشع الجرائم هى الخيانة والتجارة بالمبادئ فى السياسة.