تدهور شامل يفاقم أوضاع المرأة العراقية لكنّ ردها يتعاظم صلابة



تيسير عبدالجبار الآلوسي
2016 / 3 / 8

الكارثة ونحن نكتب مراراً وتكراراً تكمن في أن ذات المشكلات مازالت حية باقية ولكن بصيغ أكثر تفاقماً وانحداراً بالأوضاع البيئية المحيطة بها وبالعوامل الذاتية وبما فيهما من انكسارات. وإذ يلاحظ المرء منا وصفا منتكساً وأكثر تدهوراً، فإنّه بالتأكيد يبحث عن بدائل نوعية يمكنها أن ترتقي لمستوى النكبات والمآسي التي ظهرت بحدتها وبعمق جراحاتها الفاغرة. والسؤال اليوم: ماذا بقي للمرأة كي تخسره وقطاع واسع من النسوة يقبع ساكناً مستسلماً للابتزاز والاستغلال والاتجار بوجودها بكل المجالات والأصعدة؛ المفضوح من يقف وراءها من تيار الإسلام السياسي؟ ألا ترى أن أنّ انتفاضتها من أجل حقوقها وحرياتها ومن أجل مجتمع إنساني عادل قائم على المساواة باتت ضرورة بل حتمية لقول كلمتها وصنع زمن السلام وإطلاق مسيرة بناء الروح الإنساني السليم!؟؟ هذه محاولة لقراءة الوضع على ما هو عليه ووضع لمسات لتلك الانطلاقة، تنتظر تنضيجاً بمساهمات النساء قبل الرجال في كتابة خطى التغيير

سنة بعد أخرى تتوالى في عراق اليوم حالاتُ الانحدار والانهيار.. ولعل أولَّ مَن ينعكسُ عليهم هذا التداعي الكارثي، هم البسطاءُ من الفقراء والمحرومين وبمقدمتهم النساءُ. فكل أشكال الاستغلال تجتمع في مطحنة متعددة الأغراض.. أول تلك الأغراض جريمة التجهيل وإشاعة الأمية وترك الدراسة وعدم إكمال التعليم الجامعي إن لم نقل التعليم المدرسي؛ فنقرأ حال انتشار الأمية والجهل والتخلف بين النسوة، لعل سجل الأمية عند النساء يقرأ رقماً ضعف ما عند الرجال... وثاني تلك الجرائم الحَجْر على المرأة في البيت فالمجتمع اليوم يراد له أنْ يجترَّ عبارة: "من بيت أبوها لبيت زوجها ومن بيت زوجها للقبر"! لكن جرائم أخرى تترى وتتوازى في الوقوع على كاهلها.. فالتزويج المبكر والتدخل فيما ترتدي وتلبس وفي الزيِّ وفي حتى نمط القماش وخشونته وقسوته وعتمته ولونه! والعزل من العمل والوظيفة، فكارثة البطالة تطال النساء بنسب هي أكثر من ضعف ما نجدها عن الرجال، لكنّ ذلك لم يمنع من تحميلهنّ أعباء الأعمال المنزلية بكل تفاصيلها وأحمالها وأثقالها، ومثلها أعمال الحقل في الريف، بلا مقابل حتى في قيمة وجودها الإنساني...
الكارثة أنَّ الاستغلال الواقع على النسوة لا يقف عند هذا الحد من الانتهاك والاستباحة.. ولكنَّ مشكلات التحرش الجنسي والنظرة الدونية وفلسفة العيب والعار تقع دائما بالاتهام على كواهلهنَّ.. والأنكى أنّ الاعتداءات الجنسية والاستغلال والابتزاز والاختطاف والاغتصاب كلها تكون هي التي تقع تحت طائلتها فهي السبب في وقوعها وهي التي تتحمل عواقبها وتقع تحت طائلة المحاسبة المجتمعية ومن ثمَّ معاقبتها فوق ما ألمَّ بها من عذاب وقسوة وتعنيف...
وبشكل أوسع وأشمل فإن ما أصاب المجتمع من ظواهر النزوح والتهجير القسري والتشرد والعيش في العراء وتعرض العوائل لغوائل الزمن، كله يقع بحيفه وبعذاباته على المرأة أولا، فيما السلطة الحكومية الذكورية هي الأخرى في ممارساتها تمنع حق التعبير والتنظيم وتشكيل الروابط والمنظمات وهي حتى في الفسحة المسموح بها للمرأة للحراك تختلق العقبات جمةً أمام تلك المنظمات لتقطع الصلات بينها وبين جموع النسوة...
تلكم حالة حقوق المرأة وأوضاعها عراقياً وهي تحتفل باليوم العالمي للمرأة. فمنذ العام 2003 جرى فعلياً الاعتداء على حقوق المرأة بكل المستويات. إذ جرى عملياً تعطيل القوانين الدستورية بشأن حقوق المرأة ومساواتها ومن ذلك وقف العمل فعليا بقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959.. فنحن نرى سنّ إجراءات وإصدار قرارات في مختلف الوزارات بالتعارض مع الدستور ومع القانون بخاصة فيما يتعلق بإلزام النساء بشروط ومحددات تقع في إطار الحرمان من الحقوق الدستورية ومن إنسانيتها وحقها في العدل والإنصاف ومبدأ المساواة.
من جهة ثانية جرى ويجري على قدم وساق، تفعيل قوانين الأعراف في ظل غطاء التعكز على تحويل السلطة القائمة في البلاد من سلطة نظام مدني إلى السلطة الدينية المتوهّمة المدعاة؛ مع ما يجري من إسقاط القدسية عليها زوراً وبهتاناً، لمزيد من إرهاب مجتمعي نفسي للمرأة بخاصة. وهذا ما يمنح أشكال تنظيم ما قبل الدولة سلطة فعلية للحكم كما في سلطة فرد يتصرف باسم العشيرة أو القبيلة أو آخر باسم المذهب أو الطائفة وعلى وفق أدنى مستويات الإعداد للحكم أو الفصل في قضايا اجتماعيةٍ معقدة تتطلب إعدادا قانونيا وقضائيا واجتماعيا رشيدا كبيراً ليكون كافيا وبمستوى الحكم والفصل فيه...
كما تم إشاعة قوانين العيب والعار وتفعيلها في المستويين الاجتماعي والسياسي واستدعاء تقاليد ماضوية مندثرة وإعادة اجترارها بقصد توسيع نطاق التثقيف بهذه الخلفية الظلامية الممثلة لأحط مراحل التخلف في التاريخ البشري.. بكل ما تحمل تلكم الثقافة من أدران ومآسٍ وقعت ويمكن أن يستمر وقوعها بحق المرأة.
من جهة أخرى فلقد جرى منح الفرص واسعة لتطبيق رغبات زعامات أحزاب الإسلام السياسي وأمزجتهم بما يخص التدخل في نوع اللباس الذي ترتديه النسوة وتحديداً منه، فرض الشادور الإيراني والرداء الأفغاني مع مبالغات مضافة أخرى ويجري هذا بممارستين الأولى عبر تسيير مظاهرات بهذا الغطاء في لـَفـِّهِ المرتدية له بالسواد المطلق وإلزام نسوة تلك الحركات برفع شعارات أعيدونا إلى بيوتنا؟؟! والممارسة الأخرى تتضمن التهديد والوعيد والتصفية الجسدية بعد الاغتصاب والتعذيب ومن ثمَّ التمثيل بالجثث وإلقاؤها في الشوارع وقريبا من بيوت الضحايا… هذا فضلا عن إشاعة التخويف والإرعاب وأشكال الابتزاز..
وأمام الأزمة المستشرية لطابع الاقتصاد الريعي المنخور بأعلى نسبة فساد عالمياُ، فإنّ ظواهره المرضية كما بالبطالة تطال أول من تطاله النسوة[حيث نسبة البطالة كادت تصل الـ 66% من قوة العمل ونسبة النساء في العراق تصل قريبا من الـ60%] فيما تمَّ تحديد مجالات أو نوع العمل وميادينه المسموح لها بها… علما أنها [أيّ المرأة] تمثل المعيل لعشرات ألوف الأسر بسبب من وجود أكثر من مليون أرملة ومليون مطلقة وأرقام شبيهة على الطريقة المليونية التي أدمنها المسمع العراقي من تلك التي تشير لاختفاء أرباب الأسر لأسباب قهرية…
وفي بلاد الكارثة الشاملة، لا وجود للرعاية الصحية الخاصة بالمرأة من مثل رعاية الحوامل والولادات وظاهرة حالات التشوهات وأمراض التأثر بالإشعاعات والكيمياوي وما إلى ذلك… ولا يشمل التعليم برامج التوعية الصحية المناسبة أو أنهنَّ في الحقيقة أول من يجب حرمانه من ذلك داخل العائلة…
ولا فرصة جدية حقيقية أمام المرأة لتنظيم نفسها في جمعيات ومنظمات إلا بشرط الخضوع والتبعية لسطوة جهة من جهات الإسلام السياسي… وهو ما يشابه زمن حصر تنظيمهن باتحاد النساء زمن النظام السابق، وتجد المنظمات الحقيقية عقبات وتجاوزات واعتداءات صريحة خطيرة باستمرار…
وتعاني المرأة العراقية اليوم من المشكلات الاجتماعية الخطيرة وهي تتعرض اليوم لأبشع عملية استغلال عبر استرقاقها وبيعها أو المتاجرة بها في سوق النخاسة والجنس سواء كان ذلك داخل العراق أم خارجه وباتت هذه المشكلة من الخطورة بحجم نوعي عميق الغور عبر العصابات المنظمة وأساليب تمريرها أنشطتها تلك.. ولا ننسى هنا ما جرى من فتح أسواق النخاسة علنا في ظل تنظيم الدواعش الإرهابي الذي اختف آلاف النسوة ومازال يمارس الجريمة جهاراً نهاراً باسم الدين وباسم سياسته الظلامية!
وفوق هذا وذاك تجد المرأة العراقية نفسها اليوم أمام مشكلات عائلية مريرة حيث لا تستطيع أن تلعب دورها إيجابيا بمصادرة حقوقها في التعبير وفي إدارة حياة أبنائها وعائلتها وتختل أجواء التوازن والعلاقات داخل العائلة بسبب من التشوهات الخطيرة في التركيبة وبالتدخلات القهرية من خارج العائلة ومن داخلها… وسيجد البحث والتقصي العلميين مشكلات كما في اتساع ظاهرة تأخر الزواج لدى نسبة واسعة منهن وتوسع حالات الطلاق وشيوعها على حساب تراجع حالات الزواج وتفاقم ظاهرة التحكم والفصل الديني والطائفي في هذا الإطار وما ينجم عن حالات الابتزاز تحت مظلة مشكلات الفقر والحاجة وما ينجم عنهما…
إنَّ جملة المشهد الذي يعاني منه العراق عامة يتأسس على تحالف سلطتي المال والسلاح، المال السياسي ومافياته وسطوة الميليشيات المسلحة وانتشارها وتعمق أدوارها وسلطتها في الشأن العام واحتلالها المدن والقصبات كافة! ووضع هاتين الأداتين العنفيتين بيد ما يسمى الإسلام السياسي أي ساسة المصادفة وجلابيب التخفي الديني المزعوم، بما يمثله من غطاء كارثي حقيقي في توجيه أو إدارة الأعمال الإجرامية من بلطجة وتجارة واسترقاق وما أشبه، وهذا ما يعقد مسيرة استعادة حقوق النساء وتحقيق العدل والمساواة وإنصافهنّ على وفق مباديء الديانات السماوية والقوانين الإنسانية القويمة..
إننا بهذه الصورة الداكنة ندعو إلى توسيع نضال المرأة العراقية بالاستناد إلى قواها الواعية وإلى القوى الحليفة التي تتبنى تطلعاتها وأهدافها وبالاستناد إلى دعم جدي مطلوب ومنتظر من المنظمات الدولية بالخصوص.. ويلزم في هذا الإطار البحث في تعزيز العلاقات بين المرأة العراقية ومنظماتها والمحيط الإقليمي والدولي والقوى المتنورة فيه كما يلزم توسيع حملات التوعية والاتصال بالنساء ومنع حجرهن بطريقة تغطي على آلاف الجرائم التي تستفرد بكل امرأة لاستباحتها من شتى جهات الإجرام عائليا وأسريا وعشائريا وطائفيا وبعموم الأعمال المنظمة المشخصة…
ولابد هنا من حملة جدية تضع خطة لعقد يتم اتخاذه مخصوصاً بتنمية تنصب على النساء العراقيات وأوضاعهنّ؛ بما تندرج فيه خطوات فعلية لمؤازرة نضالاتها وتوجهات حركاتها الفاعلة الناشطة عبر عدد من محاور العمل ولعل أبرزها نلخصه في ضرورة دعم رابطة المرأة العراقية وتنظيماتها التنويرية الأخرى والعمل على تعزيز مسار وحدة أنشطة تلك التنظيمات المتخصصة وجهودها المؤثرة.. كما يلزم مؤازرة مد جسور الصلات بالمنظمات النظيرة إقليميا دوليا وتفعيل إمكانات تلك العلاقات في دعم نضالات المرأة العراقية. وقبل ذلك سيكون في المستوى المحلي العراقي واجب عقد التحالفات التي ترقى بالعمل الوطني الموحد بما يخص شؤون المرأة وقضاياها المفتوحة على تطلعات المعالجة والحل مثلما هي الفاغرة جراحاتها بسبب الضغوط بل الجرائم المرتكبة بحقها. ولعل من بين أبرو الأنشطة المؤملة تتطلع المرأة لحملة موحدة شاملة تعمل على استنهاض ثقافة نوعية جديدة وتشمل كل أجهزة الإعلام ووسائل الاتصال المتاحة الحديثة والتقليدية.
لكننا بجميع الأحوال ونحن نكافح ضد التقالية المجترة من مغاور الجهل، نعمل معا وسويا من أجل إحداث تعديلات قانونية يمكنها أن تتيح حماية المرأة وحركتها وتحظر أشكال الجرائم المرتكبة بحقها من قبيل استمرار جريمة يسمونها ظاهرة الختان. الأمر الذي يتطلب مضاعفة العقوبات التي تمس التعرض للمرأة وانتهاك حقوقها كما يجري في الاتجار بها واستعبادها واختطافها أو تصفيتها وعدِّ كل تلك الجرائم جرائم كبرى تمس مصير البلاد والمجتمع…
وتبقى بثبات أمامنا مهام المطالبة بإشراك النساء في الحراك المجتمعي بمستوياته الوطنية الشاملة الكبرى للتغيير ومعاضدة مساهماتهن المميزة في ذياك الحراك بكل ما متاح من فعالياته. وكذلك تصعيد وتائر النضالات المتخصصة المتركزة على قضية المرأة العراقية بوصفها نقطة الشروع بمشوار تلبية خطى استتباب السلم والأمن وانطلاق عمليات البناء وإعادة إعمار ما جرى تخريبه في بنية المواطن العراقي وما تمّ فرضه من منطق التخلف وإشاعته من فلسفة مضللة مجترة من ماضويات منقرضة… ومن الطبيعي ألا ننسى المقولة التي برهنتها تجاريب الإنسانية من "أنّ تحرير المجتمع يكمن ويقاس بمدى تحقق حرية المرأة واستقلاليتها وبمدى انتهاء سطوة الفلسفة الأحادية الذكورية" طبعا الانتهاء لا شكليا بل فعليا بكل المقاييس التي تحقق أنسنة وجود المرأة وعيشها في ظلال مبدأ العدل والمساواة..