الحُبُّ من أول نظرة... فلسفة إسلاميّة خالصة



فوزي بن يونس بن حديد
2016 / 4 / 6

هل صحيح أن الحب من أوّل نظرة هو الحبّ الصادق الذي ينفذ إلى القلب مباشرة، هو الحبّ الذي يدوم ويبقى رغم المتغيّرات والتباينات في الأحاسيس والمشاعر، ماذا يقول الشابّ المُقبل على الزواج؟ وماذا تقول الفتاة التي تنتظر فارس أحلامها بكل شغف؟ ذلك الفارس الذي سيملأ حياتها حبًّا ودفئًا، وما موقف الإسلام من الحبّ من أول نظرة؟ هل هي متوافقة مع الشرع والفطرة أم أنها عمل محرم قطعا؟
من الفطرة التي فطر الله الناس عليها أن الشابّ يطمح إلى إكمال نصف دينه عبر زواج شرعي كما أراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الفتاة تنتظر فارس أحلامها بفارغ الصبر لتكمل معه مشوار حياتها وتكوّن أسرة وتنعم بأطفال يملؤون عليها حياتها فرحا وسرورا، ولكن ما السبيل للوصول إلى شريك الحياة من الجانبين؟، فقديما كان الشباب لا يتعارفون لأن الأمر موكل لأولياء الأمور وهم الذين يختارون لأولادهم وبناتهم الأزواج والزوجات، لكنها طريقة لم تنجح طويلا لأنها خلّفت كثيرا من المشاكل منها النفور وعدم التوافق بين الزّوجين، واختلاف وتباين في الأفكار والمشاعر والميول.
وبما أنها سبّبت جرحا في القلب، إذ ربّما يتزوج الشاب بناء على رغبة من الأب أو الولي دون حبّ ودون ميل للفتاة التي اُختيرت أن تكون زوجة، وكذلك الأمر بالنسبة للفتاة فقد يختار لها وليّ الأمر منْ لا تشاركه المشاعر نفسها ولا يميل قلبها إليه، فيحدث جفاءٌ كبيرٌ في العلاقات ونفورٌ بين الزوجين لأدنى نزاع بينهما، وربما يحدث الشقاق الذي لا ينفع معه إلا الفراق، لأن هذه العادات عاندت الفطرة وأحدثت شرخا كبيرا في مشاعر الشباب، قد يدفعهم إلى التمرّد عليها أو إلى إغفالها وتحدّيها.
وكلما ازدادت ثقافة الشباب وسفرهم إلى البلدان شغفت أنفسهم وتطلّعت إلى حرّيّة الاختيار، لأن القلب هو الذي يختار القلب الذي سيشاركه الحبّ ولأنه سيعيش معه بقية الحياة وسيتشارك معه في السرّاء والضرّاء، فإذا توافق القلبان تآلف الجسدان وصارا وحدة متكاملة متناغمة لها نفس الجذور والأوراق اليانعة، تفاهمٌ وتناغمٌ وتناسقٌ وتوافقٌ، وانسجامٌ ووئامٌ، وهذا ما يسعى إليه كل طامح في الحياة، فالرغبة في الاقتران أمر فطري في الإنسان يحتاج إلى تنسيق ومتابعة كما هو الشأن في الشراكات، فالله عز وجل خلق الذكر والأنثى، وخلق كذلك المشاعر والأحاسيس والميول، ولولا ذلك ما حدث تناسل وإنجاب، فالحمد لله على هذه النعمة الغالية .
وعندما نخوض في غمار الحبّ لا نطلق الأمور على عواهنها، فالإسلام وإن كان لا يعارض فطرة الإنسان ويسمح له بتلبية رغباتها إلا أنه وضع ضوابط وأسسا خوفا من الانفلات والدخول في متاهات أخرى تعود بالضرر على الفرد والمجتمع، فقد سمح الدين بالنظرة التي تجلب الحبّ، ويؤمن بالحبّ من أول نظرة ولكن في إطارها الشرعيّ الذي لا تشوبه أي شائبة، وحدّد لها أركانها، بحيث تكون النّظرة معمّقة، إذ تتحدث العينان بما لا يستطيع أن يعبّر عنه الفم، والدليل على ذلك ما ورد عن الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا" فقد أباح الإسلام للرجل أن ينظر إلى الفتاة التي ينوي الزواج بها في جوّ عائلي وفي حضور أولياء الأمور الذين يكونون شاهدين على حاجة الطرفين إلى مثل هذه العلاقة.
سمح الإسلام للشابّ أن يرى خطيبته وهي تتجلّى في أبهى صورة، قد تنشأ حينها علاقة خفيّة بين الخطيبين، وقد تتبادل العيون عبارات الحبّ والوئام، وقد يسمح للطرفين بالتحدث لبعضهما البعض لبعض الوقت حتى يتعرّف أحدهما على الآخر من خلال هذه الجلسة الشاعرية العاطفية أو بالأحرى الرومانسية بالتعبير الحديث للكلمة، الرومانسية الإسلامية الشرعية، بعيدا عن أيّ شبهات، وقد علّل الحديث النظر إلى الخطيبة عندما قال صلى الله عليه وسلم: " فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" أي أن تدور الصحبة بينكما وأن يُوفّق بينكما، وتكون حالتكما حالة طيبة إذا أقدمت عليها وقد عرفت ملاءمتها ومناسبتها وجمالها وكمالها مما يحدث في النفس إما اقترابا منها أو نفورا، وليس ذلك عيبا بل هو أمر تنادي به الفطرة وتتطلّبه العلاقة والشراكة، فالحياة الزوجية شراكة قبل أن تكون علاقة جسدية، وهي إنما تقوم في الأساس على الحبّ والودّ والوئام، فبالحبّ ينسى الطرفان المشاكل التي قد تحدث بينهما، وبالودّ يتبادل الطرفان الاحترام والثّقة، وبالوئام يعيش الطرفان بسلام، على أنّ الإسلام أعطى الحقّ الكامل للفتاة أيضا أن تنظر للرجل الذي جاء لخطبتها، ومنحها حقّ الرّفض أو القبول، فهي التي ستقترن بهذا الشابّ وهي التي ستتزوّجه وهي التي ستتحمّل كل التبعات إن وافقت على طلبه، وهي وإن وكلت أمرها لوليّها لكن رأيها مطلوب شرعا ولا يحقّ لولي أمرها أن يجبرها على فعل لا ترتضيه، فهي قد بلغت من الرشد والعقل والتكليف ما يجعلها مؤهّلة لاختيار من تشاء.
وفي المقابل نهى الإسلام عن النّظر المحرّم الذي يقع خارج هذا الإطار الشرعي خوفا من العلاقات المشبوهة، ولذلك أمر الشباب بغضّ البصر وعدم إطلاق العنان له من ذلك قوله تعالى : "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون" فالله عز وجل ينبّهنا في هذه الآية الكريمة أن ما نفعله معلوم عنده سبحانه وتعالى، وهو الخبير بأمور العباد الذي خلقهم من العدم، ورغم ذلك فقد جعل النظرة الأولى الخاطفة دون تحديق لك، ولكن إذا تمعّنت النظر في المرأة أو تمعّنت المرأة النظر في الرجل فقد يورث ذلك الحرام ولذلك هو يحرّم هذا النوع خوفا من الوقوع في براثن الفساد. فكثيرًا ما يتبادر إلى أسماعنا في عصرنا الحاضر ما يسمى الحبُّ البريء أوالعلاقة البريئة أو ما يسمّى الزمالة، هي زميلتي أو هو زميلي، فيجيز لنفسه أن يختلي بها رغم علمه بأن الخلوة بأجنبية حرام قطعًا؛ لأنه ما من اثنين إلا والشيطان ثالثهما، قد يوقعهما في ما لا يحمد عقباه؛ لأن الإنسان ضعيف مهما أبدى من قوة إيمان وعزيمة وإصرار، وكذلك الفتاة قد يغريها الكلام المنمّق المعسول الذي يمدحها ويمدح جمالها وهيئتها وربما وصف عينيها ووجنتيها وكامل تفاصيل جسدها وهي تسمع بحياء، لكنها في قرارة نفسها تستمتع بما يقال لها من مدح وثناء، وربما يقع في نفسها شيء من الانجذاب نحو الشخص الذي يحدّثها خاصة إذا كان ممن تفضّله في حياتها أن يكون فارس أحلامها.
هذا النوع من العلاقات لا يورث حبّا بل يورث ندما، لأنه نوع من العلاقات العابرة التي لا تؤسّس بل تدمّر، ولذلك نرى أن الإسلام وإن كان يبيح النظرة إلا أنه في الوقت نفسه يحرّم النظر بخلوة لأنه يؤدي بالضرورة إلى الفساد، وقد عمل الغرب كثيرا على إفساد الرؤية الشرعية واستبدالها بهذا النوع من العلاقات، ونجح في ذلك نسبيا في مجتمعاتنا العربية التي تعاني من حالات طلاق متفشّية إلى حدّ كبير والسبب الحبّ قبل الزواج كما تروّج له وسائل الإعلام الغربية والمسلسلات العربية والأجنبية ولكن هذا النوع ثبت فشله، إذ سرعان ما تفتر العلاقات بعد الزواج بعد أن علم كل طرف تفاصيل الآخر فينشأ الخلاف والشقاق والنزاع وقد يؤدي ذلك إلى الطلاق وتفكّك الأسر ونهاية لتجربة امتدت لسنوات قبل الزواج وبضعة أشهر بعد الزواج.
فالإسلام لا يخالف الفطرة لأنه يعلم علم اليقين أنها من صنع الخالق عزّ وجل ولكن أمر بضبطها لأن الإنسان بطبعه يميل إلى المتعة واللذة، فإذا لم يكبح جماحها سالت شهوته في مستنقع المعصية ابتداء من النظر إلى الابتسامة إلى اللقاء وكلها قواعدت وإن بدت عادية في عالمنا اليوم إلا أنها جاءت بنتائج عكسية، فكيف نستطيع أن نقنع شبابنا اليوم أن العلاقات لا تنشأ على الطريقة الغربية التي صارت مقلّدة في هذا الزمان أكثر من أي وقت مضى من التعرّف على شريك الحياة إلى الخطوبة والدبلة وحفل الزفاف، ولا غرو إذا تنبّأ ذلك رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حينما قال: "لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى قَالَ فَمَنْ؟".