رسالة كردستانية الى السيدة القريشية هند المحترمة -.الجزء الثاني



وداد عقراوي
2005 / 12 / 5

وها هي تزورني الآن.. قبل بزوغ الفجر بدقيقتين وانطفاء الشمعتين... تقترب باتجاه نافذتي ... مثل الضوء الساطع المختبئ وراء كتل ضبابية او سحبٍ سمحاقية ليفية ... السيدة التي جعلت النوم يفارق جفوني، وأَغْنت بتواجدها أحلامي وافكاري وايامي.. رسالتي الاولى لها تسببت في امتلاء بريدي الالكتروني.
لمحتها هذه السيدة الغامضة المغمضة العينين قليلاًً... بجمالها الغجري الفتان... بظفائرها الحمراء المخّضّبة بالحناء الايرانية... المتدلية كأنها ظفائر الالهة الفرعونية... ترتدي رداءاً ناعم الملمس، ازرق اللون، متعة للعين من الاقمشة الهندية... في عنقها عقد ـ نموذج من انتيك صياغة الذهب النورماندية... سيدة محلقة في فضاء عاصمة اسكندنافية، جالسة على بساط سحري بهيئة سجادة سمرقندية... تدندن لفراشات مذنبة خطافية... ترفع بالكاد يدها وهي تعانق طيور العندليب والعُقَاب النُسَارية.

بعدها بدقائق... توقف بساطها السحري ونزلت... تأملتها وفكرت: أوجودها حلم ام وهم؟
كان اللقاء دافئاً ولكن صعباً... السنين تثقل عليها حتى لا تكاد على صلب طولها، تعتريها رعشة مع ان جبينها يتصبب عرقاً.
مرحى... حللت اهلاً سيدتي... أأُحَضر الفطور لنا؟ فماذا تشتهين؟ أأقدم لك اجباناً دانماركية ام هولندية؟ أتودين احتساء الشاي ام القهوة؟
لم تقل شيئاً واكتفت بالمحاولة لوقف رعشتها.

فاجئني التمكن من عناق روحك سيدتي... فاجئتني خطواتك التي بدت لي لوهلة ثابتة واثقة تدوي في غرفة نومي... واذا بك تتوقفين بالقرب من سريري... تتعطرين بعطري... وتكحلين عيونك السوداء بكحلي...
اللازلت تلاحقينني سيدتي؟ تلاحقينني!!!! أصدقيني القول، من منا يلاحق الاخر سيدتي؟ أأنا التي اقتفي اثرك، ام العكس صحيح؟ انمارس فن الاقتفاء لنتقن هذا الفن وبالتالي تجد احدانا الاخرى ونسعد لبرهة من الزمن وننسى من في عالم النسيان؟ ما الذي نفتش عنه، نهاجر الى بلدان غريبة ونجوب فضاءات عجيبة على امل ان نجده؟ لست هنا سيدتي، قد يترأى لك بانني هنا ولكن... ان كان لديك متسع من الوقت ابحثي عني قربك، حيث تسافرين ستعثري علي!

ثم... تغمضين عينيك بتآني وتهمسين لي سيدتي بصوت ليس بصوتك، بفم ليس بفمك... تحدثينني وشفتاك ملتصقتان وكأنهما عاشتا ملتصقتين وفارقتا الحياة هكذا ايضاً ـ تقولين: جاءوا وسرقوا لساني... جردوني من كل شئ... حتى الجوع والاشتهاء... نصبوا اوتاد خيامهم في عقر قلبي، العرق المتصبب من نهاية الوتد الاول كان من نزيف شرياني الابهر، واذا بالوتد الثاني يدخل في الاذين الايسر... و الوتد الثالث سمم بعنجهيته الغيرمتناهية البطين الايسر، في غمرة نواح وصراخ الجانب الثاني...

اهمس بالاجابة : اجل سيدتي، احس بك... فمنذ فقداني لاحباء ورفيقات ورفاق درب ونضال وانا اعيش بشعور فظيع مماثل للذي وصفته، ممزوج باحساس مروع متمثل بقلب ممزق وهو على وشك الانكماش والجفاف ... احس بالدم يغادر الجسم ... يتبخر ويترك الابهر الجذعي والشريان السباتي وشريان العضد والزندي والكعبري والفخذي.... بدون قطرة دم... البرد يستتب.... الاصابع تتجمد ان كان من الهول او من شدة البرودة .... أُقَلِبُ جثتي في اليوم الف مرة ومرة... اعيش الموت وانا حية ارزق... اعافر الموت وحشرجته وانا في الحقيقة كباقي الخلق دمية من علق.

نعم سيدتي، احس بآلمك وآلم كل متآلم... اسمع صراخكم ـ العالي والمكتوم... لذلك اقتفي اثركم، اثر المشتتات والمظلومات، المشتتين والمظلومين لاي سبب كان... يعتريني الحزن عند كل لقاء ووداع ، قد يكون مبعثه اني قد لا اراكم في العام القادم... اللاحقكم لاصارحكم واقول: انا معكم... لستم لوحدكم... ساكون سندكم... ان دبت الحياة في قلبي ثانية فسينبض لكم... بحبي لكم... ابكي أحرّ بكاء لمعاناتكم... وصوتي سيكون صوتاً لكم ولكل محجمٍ عن الكلام.

تفضين لي بعبارة، جملة لا اكثر، احرف متماسكة ومتزنة تدخل المدار وتلخص سنيناً في سطر، اسرع من لمح البصر... تُعَبر عن غابات محترقة ببقايا عود شجر... تصف بدمعة فيضان نهر وغُمار بحر...
"التأريخ حكم، الزمن اتهم، فهل من حكم؟"

استدركت نفسي ساعتئذ واستشعرت رجفتي وكأني واقفة فوق جبل عال من جبال كردستان على وشك الانهيار... احداث تأريخية انهالت علي الواحدة تلو الاخرى... بينها معارك وملحمات... منها ما يعود الى ايام الدراسة ومنها ما يدخل في سياق قراءات بسبب اهتمامات شخصية. القاسم المشترك بينها هو التأريخ....
التأريخ سيدتي يتضمن ما لايعد ولا يحصى من الذخائر والآثار المقدسة والمخطوطات النادرة، ولكن في اغلب الاحيان ليست الا عبارة عن اسماء.... اسماء فقط... الشخص الفلاني الذي بنى المعبد او المسجد الفلاني او نقش المخطوطة الفلانية ـ التي غالباً ما يتعذر قراءتها ـ على الحجر الفلاني تلقي امر القيام بذلك من الملك او القائد او الخليفة الفلاني. .. وهذه مقولات رواها الشخص الفلاني عن الشخص الفلاني، وتلك احداث دونها الشخص الفلاني عن الشخص الفلاني... التأريخ يعطي دلالات، بعض الخيوط لنستدل منها، ولكن ينقصه الجزء الاكبر من الحقيقة. قد يحمل التأريخ في طياته القصص والروايات، التي تُحْكى ليستلمها جيل من جيل، والاجيال الجديدة بدورها تحفظها وترويها وتُسَلِمُها اما بامانة او بدونها، ولكن يبقى التأريخ ناقصاً... اقول هذا وانا من بين الذين اختاروا التمعن قليلاً في التأريخ، فالتبحر فيه امر شبه مستحيل، فكيف تسبح في مسبحٍ نصفه فارغ والنصف الآخر مقسم بين جزء يبدو للعين المجردة بانه ممتلئ ولكنه بدعة وجزء صغير هو الوحيد الذي يمكن الاخذ به.
كل الذي ذكرته هذا لا يعني ابداً التقليل من اهمية التأريخ، بل بالعكس التركيز عليه، ولكن بحكمة مع الاحتفاظ بحق الباحث عن الحقيقة بالتحليل والنقد والطعن ان لزم الامر.

اسمعك تقولين بتنهد ياهند: هل من مخرج وما عسانا فاعلون؟
سؤال مهم اشكرك عليه سيدتي وارجو ان نتمكن من البحث عن اجابة له من خلال نقاشاتنا الاتية.... بطبيعتي لا احب الحلول او العبارات المطلقة سيدتي... فالامور الاجتماعية ليست رياضيات اوعلوم. لذلك اتسأل كم منا يجزم بأن النساء لا تُظلم باساطير وحكايات ملفقة مروية بصيغة فيها ارغام لتصديقها... وان لم نفعل نحسب من المرتدين عن الحقيقة. عندئذ يقولون: جحود... تمرد... تطاول... خطر جسيم بحاجة الى حل عاجل...
فهؤلاء بعضهم ينكر المنطق والبعض الاخر مستعد لرفس كل ما في الكون، واولهم من لايصدقهم... فهذا نصيب المظلومين واجر خلود الاخرين.

ترى ما اصابك سيدتي؟ فمن يعلم بمجريات حياتك التي كانت دون شك معقدة ومتشابكة؟ اين كانت هند سيدتي وماذا فعلت او لم تفعل؟ ما هي حقيقتك سيدتي وحقيقة نساء كثيرات مثلك؟ الا نظلمهن عندما نردد قصصاً قد تكون صحيحة بقدر ما قد تكون ملفقة؟ من منا ياسيدتي لم يصادف اناساً ارادوا له الحظ العسير وبئس المصير؟
فهل من منصف لشخص قد يدور الزمن عليه وينتهي به المطاف كالسيدة هند؟
اخشى على البشر من انفسهم... يلقون ببعضهم البعض الى التهلكة والجحيم الاعظم... واذا بالمجتمع باسره في مأتم... في اعماق اليم.

اتمنى ان نفيق من غفلتنا قبل ان تتوارى الشمس وراء الغمام ولا تنفع لحظة ندم.

كانت هذه رسالة شفوية الى سيدة قريشية بعثتها

وداد عقراوي

سيدة من كردستان اثارت زوبعة اذ صرحت بودها لفاتنة خنقها الزمن